المؤكد أن كارثة العام السابع والستين وضعت الوعي الإبداعي العربي في مأزق جذري، وفرضت عليه أن يضع ذاته، ومن ثم هويته، موضع المساءلة، وذلك في الفعل الذي أعاد به هذا الوعي مساءلة كل ما حوله في مجتمع مهزوم، وذلك بالقدر الذي وُضِعَتْ به موضع المساءلة نفسها طرائق محاكاة هذا الواقع رمزياً أو تصويره، احتجاجاً أو نقداً للواقع نفسه وكانت النتيجة تصاعد الرغبة في تغيير الشكل الأدبي المستعار من رواية البرجوازية الأوروبية تحديداً، وتأصيل شكل قومي، مجانس للتاريخ النوعي وصاعد منه بقدر ما هو رافض لنهاياته التي لم تكن سوى تكرار لمآسيه الكبرى السابقة التي بدت كما لو كانت تكرر نفسها في الحاضر الذي انتهى إلى كارثة العام السابع والستين، أعني التكرار الذي جعل شاباً مثل جمال الغيطاني يرى في هذه الكارثة صورة معاصرة من الجائحة التي تجسدت في الغزو العثماني على مصر، منهية زمن المماليك العسكر الذين ظلوا يتصارعون في ما بينهم، بعيداً من مصالح الوطن الذي باعوه أو أهملوه أو استبدلوا مصالحهم الفردية بمصالحه العليا. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكتب الغيطاني الشاب بلغة المقريزى وابن إياس قصصاً رائدة من قبيل"هداية أهل الورى لما جرى في المقشرة"و"كشف اللثام عن أخبار ابن سلام"في مجموعته الأولى"أوراق شاب عاش منذ ألف عام"التي صدرت طبعتها الأولى عام 1969، في موازاة شاب عراقي استعاد شكلاً إبداعياً قديماً في الميراث الشعري هو شكل القصيدة المدوّرة التي سعى بحسب الشيخ جعفر إلى إحيائها وتأصيلها والإشارة إلى الغيطاني وبحسب الشيخ جعفر إشارة على سبيل التمثيل لا أكثر، فمن المؤكد أن نجاح كشوف الغيطاني التراثية هي التي قادت يحيى الطاهر عبدالله في ما بعد إلى صوغ"إسكافي المودة"و"حكايات للأمير كي ينام"والواقع أنها حكايات تطير دلالاتها الرمزية النوم من عينيّ أي أمير أو غير أمير. وكان اللجوء إلى التراث الشعبي والرسمي جزءاً من عملية تأصيل لشكل أراد به جيل الستينات تقديم اجتهاده الخاص في تأصيل هوية نوعية، تحمل خصوصية اللحظة التاريخية التي تولَّد فيها إبداع الستينات في مدى الهزيمة التي زلزلت الوعي الإبداعي، ولا تفارق، في الوقت نفسه، الأفق التراثي الذي اندفع إليه الإبداع الشاب، واضعاً جذور الهوية موضع المساءلة، في حرارة أسئلة كتلك التي طرحها أمل دنقل على زرقاء اليمامة عندما كتب عن البكاء بين يديها، حين جاء إليها مثخناً بالطعنات والدماء، يزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة، منكسر السيف، مغبرَّ الجبين والأعضاء. أسأل يا زرقاء عن فمك الياقوت، عن نبوءة العذراء، عن ساعدي المقطوع وهو لا يزال ممسكاً بالراية المنكّسة، عن صور الأطفال في الخوذات ملقاة على الصحراء، عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء، فيثقب الرصاص رأسه في لحظة الملامسة عن الفم المحشو بالرمال والدماء، أسأل يا زرقاء عن وقفتي العزلاء بين السيف والجدار، عن صرخة المرأة بين السبي والفرار؟ كيف حملت العار؟ ثم مشيت؟ من دون أن أقتل نفسي؟ من دون أن أنهار؟ ومن دون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة؟ هذا النوع من الأسئلة الذي كان مطروحاً على الماضي هو الوجه الآخر لنوع الأسئلة نفسها التي كانت مطروحة على أصول الهوية للبحث فيها عن ما يدعم الذات العزلاء بين السيف والجدار، وعما يمكن أن يكون مرآة للحاضر تزيد قدرة التحديق لدى الناظر فيه، وعمق الفهم لمن يبحث فيه عن إجابات لأسئلته الحائرة وفي الوقت نفسه تتيح للمبدع العربي المعاصر أفقاً إبداعياً نوعياً، لا يتباعد عن تاريخه، بل يتجذر فيه، مؤكداً إمكان أن يستخدم التاريخ الماضي لمواجهة التاريخ الحاضر والإرهاص بالتاريخ المستقبل الذي هو من صنع الاثنين ويجاوزهما على السواء. وكان ذلك هو ما فعله أمل دنقل، تحديداً، منطلقاً من إيمانه بميراثه القومي الذي جعله يرفض أي محاولة للتغريب، ولذلك تخلى عن استخدام الرموز المسيحية واليونانية واستبدل بها الرموز المتاحة في تراثه، مؤمناً بأنها الرموز الأقرب إلى وجدان القارئ والأكثر تأثيراً فيه، ذلك أنها متصلة بالنسغ الوجداني الذي يصل هذا القارئ بتراثه الذي هو ديوان أحزانه وأفراحه القومي التي تجاوز المفرد إلى الجمع، أو يخاطب الجمع بصيغة المفرد، ولذلك استبدل أمل دنقل بأقنعة سبارتاكوس أقنعة أبي موسى الأشعري وأبي نواس والمتنبي من الشعراء، وأضاء الحضور المعتم لأمثال زرقاء اليمامة وكليب وجليلة وعشرات غيرها من الأقنعة والرموز التي جعلت من قصيدة أمل دنقل قصيدة قومية بكل معنى الكلمة، أعني قصيدة تقوم على مركزية المحور، وعلى الفرد المخلّص أو الذي يعد بالخلاص أو يحمل سره ومفتاح الطريق إليه ولا مانع أن تقلب هذه القصيدة سفر التكوين أو العهد القديم لتجعل منهما سفراً للخروج وأفقاً للعهد الآتي، وأضف إلى الملامح البنائية ما يكملها من ارتفاع نبرة العناصر النغمية للإيقاع، والحفاظ على التقفية التي تؤدي دور محطات النغم ولا بأس بشيء من التدوير الذي يؤكد التواصل النغمي، مصحوباً بالتشبيهات والاستعارات الحسية والواقعية التي ينبعج بها ترام آخر الليل كأنه امرأة في أخريات الحمل ويتضافر ذلك كله بنوع من الكولاجات التي لا تبعد القارئ عن واقعه أو القصيدة عن نبرة السخرية أو تلازم الرفض مع النقض، وذلك من خلال ما يجعل السمع أكثر إرهافاً لما يمرّ به، والعين أكثر قدرة على إبصار ما لم تكن تفطن إليه من قبل. هكذا بنى أمل دنقل قصيدته القومية التي لم يكن يستلهم فيها محتوى تراثياً، وإنما كان يريد استلهام شكل تراثي في الوقت نفسه وبعبارة أدق تأصيل هوية قومية للإبداع، يعرفها من يقرأها على الفور، بعيداً من التغريب والأوربة، وكل ما يحول بين هذه القصيدة وقول أي قارئ أجنبي هذه بضاعتنا ردّت إلينا وهو المدى نفسه الذي كان يمضي جمال الغيطاني في أفقه التراثي، ساعياً إلى تأسيس خطاب سردي من نوع جديد، خطاب لا يغدو الزمن المملوكي موضوعاً له، أو مصدراً للاستلهام كما حدث في"السائرون نياماً"للرائد سعد مكاوي، وإنما يغدو الزمن المملوكي موضوعاً وذاتاً فاعلة للخطاب السردي، سواء كان رواية أو قصة قصيرة وكانت البداية هي القصة القصيرة على سبيل التجريب إلى أن تكامل فعل التجريب وازدادت الذات الفاعلة قدرة على معالجة السرد الذي أصبح إياها، أو أصبحت هي إياه، فانتقل الخطاب السردي المملوكي الملامح والسمات إلى الرواية، وتحولت الإشارة الأولى إلى الزيني بركات من"كشف اللثام عن ابن سلام"إلى رواية كاملة خاصة به، كانت بداية لما بعدها وما وصل إلى ذروته في"الخطط"و?"التجليات". ولم يكن هذا البحث عن هوية إبداعية، بعيدة من الاتّباع أو التقليد، هو بدعة تميز بها جيل الستينات على نحو حصري، فقد سبقهم في هذا البحث جيلان على الأقل، خصوصاً من الذين فقدوا الثقة منذ وقت مبكر في حكم العسكر، وتوقعوا النهاية المأسوية التي لا بد من أن ينتهي إليها حكم الذين هيمنوا على الدولة القومية وجعلوا منها دولة تسلطية في كل معنى الكلمة، أي جعلوا منها دولة عسكر يذكّرون في صراعاتهم بصراع المماليك الذي انتهى بسقوط مصر أمام الغزو العثماني. ولم يكن من المصادفة أن يقترن نقد الدولة التسلطية والبحث عن أشكال العدالة، سياسياً، بالبحث عن هوية إبداعية خاصة، ولذلك كان من الطبيعي أن يكتب توفيق الحكيم الليبرالي القديم عن"السلطان الحائر"المستمدة موضوعها من التاريخ المملوكي عام 1960، وذلك في سياق البحث عن هوية مسرحية نوعية تستلهم التراث في أفق صاعد، يوصلنا إلى مسرحية"يا طالع الشجرة"عام 1964، ومسرحية"شمس النهار"التي صاغها الحكيم على غرار الحدوتة الشعبية. ومن اللافت أن يصل هذا السياق إلى مداه الطبيعي في العام السابع والستين، حين يصدر الحكيم كتابه"قالبنا المسرحي"الذي يقدم فيه أشكالاً من الدراما التي تعتمد على توظيف الظواهر الشعبية المعروفة في أداء الرواة والحكائين، فضلاً عن شكل السامر والارتجال، ولم ينس الحكيم تقديم نماذج تطبيقية لاستخدامها في مدى"قالبنا المسرحى"الذي تكشف"نا"الملكية فيه عن أولوية البحث عن هوية إبداعية، لا تتحقق إلا في أفق الإبداع الذاتي لدولة مدنية عمادها العدل والحرية. ولم يكن كتاب"سندباد مصري"بعيداً من هذا الهدف، خصوصاً في افتتاحه بعصر الظلام الذي سقطت فيه مصر بين براثن ابن عثمان، وانتهاء التاريخ المملوكي العسكري نهاية مأسوية. واللافت أن حسين فوزي يهدي كتابه إلى صديقه توفيق الحكيم، ويشير إلى أنه فرغ من تأليفه عام 1959، وهو العام الذي وصلت فيه حملة الاعتقالات للشيوعيين المصريين إلى ذروتها. وعلى رغم الإشارة الإيجابية لأنوار حكم الضباط الأحرار، في مقدمة الكتاب، فإن تصوير حسين فوزي لمساوئ الحكم المملوكي كان في تقديري، مصدر إلهام لسعد مكاوي الذي كتب"السائرون نياماً"التي نشرها مسلسلة في جريدة الجمهورية عام 1963 ونشرها كاملة بعد ذلك للمرة الأولى عام 1965. وتبدو رواية سعد مكاوي لمن يتمعن في قراءتها، ويغادر السطح إلى ما بعده أنها نقد لحكم العسكر من مبدع مخضرم، انتمى إلى الطليعة الوفدية، وتبنت جريدة"المصري"نشر إبداعه، جنباً إلى جنب يوسف إدريس، وكان ذلك قبل أن ينقلب الحكم الناصري على الجريدة التي دعمته في أول عهده، ويصدر القرار بإغلاقها وقد صدرت رواية سعد مكاوي لتعالج فترة زمنية لا تكاد تجاوز ثلاثين سنة 1468-1499م من عمر سلطنة المماليك التي حكمت تاريخ مصر والشرق 267 سنة وهي تركز إبداعياً على كل ما يقود هذه الدولة وما يوازيها رمزياً إلى سقوطها الكارثي، خصوصاً بعد أن تنكر قادتها لمصالح الشعب، وانشغل طواويسها بأهوائهم التي قاربت ما بينهم والنهاية التي ترهص بها الرواية قبل كارثة 1967 بعامين فحسب ولذلك لا أجد غرابة في أن أرد مسعى الغيطاني في البحث عن هوية إبداعية إلى قراءته"السائرون نياماً"التي فتحت له العالم المملوكي العجيب في موازياته الرمزية، وإمكانات استلهاماته السردية. لكن الغيطاني لم يكن يرد ذلك وحده، وإنما كان أكثر طموحاً، فقد كان يريد من موضوعه الذي يحكيه ذاتاً تحكي في الوقت نفسه، وتحويل السرد المملوكي إلى سارد يتقمص الزمن المملوكي وينطق بصوته، محاكياً لغة أو أسلوب أهم مؤرخيه، وذلك في تركيب إبداعي جديد، يغدو فيه الماضي موازياً للحاضر، والحاضر إرهاصاً بالمستقبل، الأمر الذي يتيح للكاتب والقارئ مساءلة موضوع السرد من الزوايا الثلاثية للزمن، الزوايا التي تكتمل مخايلة القارئ بها بجعله مضمراً في السرد، قابلاً لأن يكون مروياً عليه في أي من الأزمان الثلاثة هكذا بعث الغيطاني مؤرخي الزمن المملوكي، واستعادهم بنوع تخييلي من آلة زمن الكتابة، فتحدث المؤرخون القدماء كما لو كانوا إياه، وتحدث هو كما لو كان إياهم، مؤلفاً مضمراً ومعلناً على السواء ولذلك انداحت المسافة الزمانية والموضوعية بينه وبينهم، فأصبح من حقه أن يتلاعب بنصوصهم التي أصبحت نصوصه، ولم يعد الأمر في البناء أمر إدماج أو تضمين أو اقتباس، كما توهم البعض، وإنما أمر تفاعلات نصية في مدى متجاوب المكونات، أو سرد يدني بالفاعلين فيه وله إلى حال من الاتحاد هكذا صنع الغيطاني على عينه إبداعه الخاص الذي مايز بينه وأبناء جيله، بل أبناء الأجيال السابقة. ومن هذا المنظور، تشكلت لغة الغيطاني السردية في علاقتها بالعناصر البنائية استهلالية وخاتمة، توجد أو تحذف أو تضمر، هي نوع من التخييل أو التغريب بالمعنى الشكلاني بوجود المسرود في مخطوط، يتيح للباحثين معرفة بعض ما كان يجري في مصر خلال الأزمان البعيدة استخدام أساليب الدعاء التي تفتتح السرد القديم، ولوازم الإنشاء التي لا تخلو من الصلوات والتسليم على أشرف المرسلين، والدعاء بالغفران للكاتب، الراوي، المؤلف المضمر، الوقف بين الفقرات بالدعاء"ربِّ يسر وأعن"، التشبيهات الحريصة على إيقاع التطابق بين المتشابهين، الوصف الذي تتحول به الطبيعة إلى مرايا الشخوص والأحداث في تجاوبات المكان والزمان، حيث تتابعات العتمة والتحول والمفارقة، الاستطراد بذكر الملح والنوادر، كثرة أساليب الإنشاء التي توازي كثرة المحسنات البديعية التي يناسب بها المقال المقام. وكان الأهم في ذلك كله، عند الغيطاني ولا يزال، تأصيل قالب روائي ينتسب إلى تراثه وهويته الثقافية، وذلك على نحو ما فعل أستاذه نجيب محفوظ في الطريقة التي كتب بها"أولاد حارتنا"عام 1959 وهو عمل ظل في ذاكرة الغيطاني، يتجاوب مع المحاولة نفسها التي قام بها يوسف إدريس في"الفرافير"، التي أخرجها كرم مطاوع 1963/1964 و"المهزلة الأرضية"التي أخرجها كمال يس 1965/1966 وهو تجاور ينحاز إلى مسعى نجيب محفوظ، خصوصاً في المدى السردي الذي ينطق فيه الماضي بلسان الحاضر أو العكس. لكن المؤكد، في النهاية، أن تصاعد البحث عن هوية إبداعية خاصة كان أحد اللوازم التي فرضها الوعي بالمشروع القومي الذي كان يبحث لنفسه، في انكساره، عن نوع من الخلاص، وعن مخرج يبعده من الطريق المسدود أو الذي بدا كذلك للهزيمة الفاجعة، ومن ثم العودة، في مواجهتهما، إلى جذور الهوية التي تحمي الذات الجمعية من الضياع، فتجعل منها، مرة أخرى، ذاتاً تقف على أرض صلبة، وتبدأ من تراث ممتد، يمكن العودة إليه، تطويراً وتأصيلاً وتأسيساً، بوصفه سلاحاً تؤكد به الذات حضورها فيما أصبح يطلق عليه، لاحقاً، اسم"التنوع الثقافي الخلاّق"، الذي تقوم أصوله على احترام الخصوصيات والهويات الثقافية للشعوب، بصفتها مصدر ثراء لا ينفد للإنسانية كلها وأعتقد أن هذا هو السر، ولا يزال، في حسن استقبال روايات الغيطاني المترجمة إلى الكثير من اللغات الأجنبية، إذ لا يمكن القارئ الأوروبي، مثلاً، إلا أن يرى فيها أعمالاً نضرة، مصاغة في أشكال ولغة خاصة بثقافتها وحضارتها التي يعثر الكاتب فيها، دائماً، في قرارة القرار على الجذر الأصيل الذي يتجسد به القاسم المشترك الخلاّق بين البشر.