أربعة أيام مضت على اشتباك الساعات الذي وقع في مدينة الشويفات، لكن الداخل إليها يشعر، من غضب الناس وآثار المعارك ورائحتها، إنها توقفت تواً. فعلى رغم عودة الحركة وفتح معظم المحال أبوابها وانتشار الجيش اللبناني في شوارع المدينة، لا تبدو الحركة طبيعية، والأمر يحتاج شهوراً وربما سنوات، خصوصاً أن المدينة اتشحت بالسواد وبصور شهدائها السبعة: مروان الجردي وأمين وشادي وفادي السوقي وشادي عربيد وعلاء شعبان وعفيف ناصر. في شوارع المدينة لا يرى الزائر إلا نسوة لبسن أسودَ حداداً. وفي الساحة الرئيسة جلست مجموعة من الشبان على مسافة قريبة من مركز الحزب التقدمي الاشتراكي الذي تمركز فيه الجيش اللبناني ورفع العلم اللبناني عليه وركن آليات في باحته. الشبان الذين يرفضون ذكر أسمائهم، لا يزال غضبهم كبيراً مما يسمونه"خيانة""حزب الله"وجمهوره"لأنهم اجتاحوا الشويفات من دون سبب فقتلوا واستباحوا المنازل والأعراض". يصعب الحصول على رواية دقيقة لما حصل، ليس فقط من أولئك الشبان الغاضبين الذين شارك بعضهم في القتال، بل من الناس العاديين وحتى النسوة اللواتي تقول إحداهن:"اليهود دخلوا إلى هنا ولم يفعلوا ذلك". الرواية المتشابهة لما جرى هي أن الناس كانوا بعد ظهر الأحد منشغلين في تشييع الشابين علاء وعفيف وهما من مناصري الحزب الديموقراطي برئاسة الوزير السابق طلال ارسلان، اللذين خطفا وقتلا في عرمون أثناء الأحداث في بيروت. وبينما كان الناس يشاركون في مراسم العزاء بعد إتمام الدفن، خطف ثلاثة شبان من"حزب الله"في عاليه فجاء رد الفعل في الشويفات. ولم يتسن الحصول على الرأي الآخر من الرواية هنا في حارة العمروسية التي لا يقطن فيها سوى أهالي البلدة الدروز. حتى أصحاب المحال الشيعة في الساحة لم يفتحوها بعد، ربما لأن الجرح لا يزال مفتوحاً. ويقول أبو عماد السوقي الذي كان منهمكاً في إصلاح أضرار لحقت بمنزله:"هنا سقط ثلاثة شهداء من عائلتنا. جاء مقاتلو"حزب الله"في اجتياحهم من ناحية البلدية وكانوا كثراً. لم نعرف لماذا جاؤوا إلينا ليروعوا الناس الآمنين في منازلهم. دخلوا البيوت وأطلقوا النار في داخلها. فادي كان مع زوجته بسيارته يسعى إلى الهرب، قال لهم أريد أن أهرب فقالوا له لا عد الى المنزل، رفض فقتلوه وأصابوا زوجته". الدخان صبغ جدران الأبنية هنا. درجته متفاوتة بحسب قربها من السيارات المحروقة. أبو عماد فرّ بعائلته إلى الشوف حين وردته أخبار بدء المعركة قرب البلدية. تحمد ابنته الله على تمكنهم من الهروب. يقول أبو عماد:"عتبي على السيد نصرالله كبير جداً. نحن كنا ننتظر ان يتحدث لنسمع كلمة صدق من زعيم. كان كلامه ثقة وكنا صدقناه بأن السلاح لن يستخدم إلا في وجه إسرائيل، هل أصبحنا نحن الأعداء؟ لماذا ظلموا أهالي الشويفات؟". وإذا كان كلام أبي عماد متزناً، فإن مجموعة الشبان في الساحة كان أكثر قسوة وصراحة، خصوصاً بعد أن يطمئنوا إلى هوية محدثهم. يقول احدهم:"ظن مسلحو"حزب الله"أن كريات شمونة أصبحت هنا أو ان ما بعد بعد حيفا. جاؤوا جحافل بسلاح متنوع وثقيل ومضادات واجتاحوا الشويفات. الأهالي وقفوا في وجههم وخرجوا بكل ما لديهم، سكاكين بنادق صيد ومن عنده سلاح فردي لم يتوان عن استخدامه تحت شعار: يا غيرة الدين". ويزيد جازماً:"أوقعوا قتلى كثيرين من المهاجمين". وينفي الشبان الصفة الحزبية لهم ويوضح أحدهم:"نحن دافعنا عن ضيعتنا. من يأتي إلينا زائراً نضعه في قلوبنا أما من يأتي ليقتلنا فسنأكل قلبه. نحن نحترم وليد بك رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط والمير طلال رئيس الحزب الديموقراطي الوزير السابق طلال إرسلان وهذا لن يمنعنا من مقاتلة من يريد قتلنا مجدداً". لكن هذا لا يحول دون استدراكهم للحديث عن التعايش في البلدة بين الدروز والمسيحيين والشيعة لاحقاً"الذين جاؤوا إلى ضيعتنا وأقاموا فيها وعشنا معاً، لماذا انقلبوا علينا؟ لماذا جندوهم ضدنا؟". ويسعى الشبان إلى إثبات تعايشهم بالمبادرة إلى إلقاء التحية على أبي جورج الذي كان يمر بسيارته. يقولون إنه مسيحي من البلدة،"ولم يغادرها حتى أثناء الحرب". يتماهى أبو جورج معهم فيركن سيارته ويأتي ليدلي بدلوه:"الشويفات بلدة العيش المشترك. رهاننا منذ سنوات هو على الجيش اللبناني وهكذا سيبقى لكن ما حصل ليس هيناً". وعصراً تسلم ارسلان من"حزب الله"اربعة شبان من الشويفات اوقفهم اثناء المعارك هم: عماد البعيني وكريم العريضي وسامر نعيم وناجي هرموش. كيفون - بيصور صعوداً في اتجاه دير قوبل وشملان. الطريق هادئة والسكينة تعم المكان وحواجز الجيش تبعث على الطمأنينة. وصولاً إلى ساحة كيفون البلدة الشيعية الصغيرة في محيط درزي حصل بينها وبين جارتها بيصور اشتباكات عنيفة. ومثلها أيضاً بلدة القماطية التي اشتبك أبناؤها مع جيرانهم في مدينة عاليه. ساحة كيفون هادئة. شبان الحزب حاضرون أمام المسجد. وفي محاذاتهم صور كبيرة للسيد حسن نصرالله والإمام موسى الصدر وعماد مغنية. ما إن يترجل الزائر ويقول إنه صحافي، يسأل عن بطاقته، كأن هناك حذراً أو خوفاً من أمر ما، ويمنع على الناس التحدث إلى الإعلام. ينادى فوراً شاب من الحزب، يتأكد من البطاقة ويقول:"دقيقة سنحيلكم على الحاج محمد حكيم المكلف التحدث إلى الإعلام". يتقدم رجل يدعو الزائرين الى قهوة:"أنا رجا العبد الفقير صاحب مطعم"كول وشكور"تفضلوا تفضلوا". يبدد صاحب المطعم قلقه قبل قلق الزائرين بأن"الوضع جيد، وكل المنطقة تتغطى بلحاف واحد". ويتجنب رجا الحديث عما حصل محاولاً عكس صورة عن التعايش بقوله:"تقرع أجراس كنائس سوق الغرب وشملان فتناجيها خلوات عيتات وبيصور وتعانقها مئذنة كيفون بصوتها الرباني". لكن قبل أيام حل دوي القذائف وأزيز الرصاص محل هذه الصورة الشعرية، بعدما راكمت الأزمة السياسية بطول مدتها شحناً في النفوس وصولاً إلى حشد المناصرين حتى وقعت الواقعة. ينشغل حكيم بالاجتماعات المتواصلة بين مسؤولي الحزب وحركة"أمل"والحزب الديموقراطي في إطار معالجة ذيول الأحداث، فيطلب من شخص يدعى أبو أيمن أن يتولى الحديث فيقول:"الجو الآن هادئ كما ترون. لم يكن أحد يريد أن تصل الأمور إلى هذا الحد لكن قراري الحكومة تسببا بالأحداث. المشكلة سياسية وليست طائفية أو مذهبية. الاتصالات جارية ونأمل بأن تهدأ النفوس مع علمنا أنها تحتاج إلى وقت". وعما تردد عن مجيء مقاتلين من خارج كيفون، يقول:"الجميع دعم وجوده. في بيروت جيء بأناس من الشمال. وكذلك في قرى المنطقة، حيث حشد الطرف الآخر ووضع مسلحين في تلة 888. كيفون صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها ال 1500 نسمة، وهي ملاصقة لبيصور التي تعد 13 ألفاً. هذا الأمر استخدمه الجميع لكن نأمل بأنها انتهت". في بيصور المحال التجارية فتحت أبوابها والحركة شبه طبيعية. الجيش اللبناني استلم مركز الحزب التقدمي في البلدة التي سقط منها 7 جرحى، بحسب ابن البلدة ماهر الحلبي. ويقول إن الاشكالات انتهت، مشيراً الى أن المعارك دارت في نقطتين: تلة الرادار ورويسة شقرا، على مقربة من منزل وزير الإعلام غازي العريضي. ويشير إلى ان المعارك استمرت نحو 3 ساعات"ولم يتقدم أحد على الآخر، وحصلت بعض الأضرار المادية في منزل العريضي ومنازل مجاورة"، موضحاً أن عائلة العريضي كانت في المنزل لحظة الاشتباكات وأخرجت سالمة ولم يتعرض لها أحد. ابن البلدة الفنان جميل ملاعب الذي كان في محترفه يرسم، آلمه كثيراً ما حصل. ولا يخفي ملاعب الذي انتهى قبل أيام من رسم لوحة عن أحداث بيروت تصور الضحايا في مستوعب للنفايات، اشمئزازه مما حصل:"منذ 20 سنة وأنا أرسم عن المعارك والحروب... كأن هناك من يقول للناس اقتتلوا". ما أقلقه هو أن"كرامة السلم الأهلي انتهكت... مخيف أن يفقد الانسان الأمان في منزله"... مدينة عاليه استعادت حياتها. الزحمة في أوجها، والسوق في نشاط، لكن"عروس المصايف"تفتقد السيّاح والمصطافين الذين تتحضر لهم كل صيف فالحروب والأزمات تحول دونهم. الناس هنا لم يخب الحزن والغضب عندهم بعد، فالمدينة فقدت اثنين من ابنائها هما هيثم خداج وكفاح حاطوم، ناهيك بعملية الخطف التي تعرض لها 4 ثم أعيدوا من طريق الجيش اللبناني. لكن وسط هذا الجو ثمة من يقول:"أهالي القماطية وعاليه وكيفون تربطهم جيرة ومودة منذ زمن ولعن الله من أيقظ الفتنة". حال القماطية كما كيفون، إلا أنها أكثر حزناً بوفاة أحد أبنائها في المعارك وهو سليمان محمود جعفر.ويقول رئيس بلديتها وفيق نصر الدين ل"الحياة":"الجو كما ترون هادئ، لا مسلحين ولا طلقة رصاص. الأمور تسير في اتجاه التهدئة من كل الأطراف المعنيين وعلى السكة الصحيحة. والاتصالات التي أجريتها مع كل الأطراف تشير إلى أننا في طريق ومعالجة الأمور والعودة إلى الوئام".