بعدما تناولت حلقة الأمس تقنيّات الزعامة، الثابت منها والمتحوّل، هنا التتمّة الأخيرة: لا تتعادل تماماً السياسات المعلنة لوليد جنبلاط، بما فيها تقلّباته الوظيفيّة، مع المشاعر الدرزيّة التي تترجّح بين الخفاء والإعلان. فأحياناً تذهب هذه المشاعر أبعد ممّا تبلغه تلك السياسات، وأحياناً تتكتّم السياسات على المشاعر تلافياً لحرج قد ينجرّ عنه خطر أو تورّط غير محسوبين. في الحالة الأولى ينتقد الدروز وليد جنبلاط على حكمته، وفي الحالة الثانية يتصرّف الأب تصرّف الخائف من تهوّر أبنائه أو شجاعتهم. ولأنّ الحكمة والشجاعة صفتان إيجابيّتان، تضيق مجدّداً الهوّة بين الناقد والمنقود فلا يبقى إلاّ تنافر جزئيّ بين طائفة تقدّس الشكل وزعيم لا يعبأ بأيّ شكل. هكذا يلوح، في النهاية، أنّ تواطؤاً داخليّاً عميقاً يحكم العلاقة بين ال «فوق» الذي يقال وال «تحت» الذي يُحسّ، وأنّ التكامل هذا هو ما تُكتب له الغلبة في اللحظات الحاسمة. فمعظم الدروز الشوفيّين الذين تحدّثنا إليهم أجمعوا على أنّ يوم 7 أيّار (مايو) 2008 كان يوماً مفصليّاً في حياة الطائفة وقناعاتها، فيما ربطه بعضهم الأكثر حماسة بالكرامة الدرزيّة. حتّى الشاب الذي عاش طويلاً في الخارج وصار يتكلّم العربيّة بصعوبة، قال إنّه حمل السلاح يومذاك «دفاعاً عن عِرضنا». وقد تركَنا هذا الشابّ الذي يجد كلمة table أسهل نطقاً عليه من كلمة طاولة، على شيء من الحيرة، إذ من أين جاء بمفردة «عِرض» التي يصعب أن يكون لها معادل في اللغات الأوروبيّة؟! واقع الحال أنّ التباين بين أجيال الدروز، حيال ما يتراءى لهم أمورَ مصير وبقاء، يكاد لا يُلحظ. والراهن أنّ يوم 7 أيّار، حين قاتلوا بالسلاح المتوفّر ومن دون أن يكونوا مدرّبين، دفع الكثيرين من شبّانهم إلى الدين والإيغال في التديّن. وإذا كان سهلاً ربط التديّن بحروب الهويّة والمصير عموماً، بقيت هناك تفاصيل مهمّة لجلاء المشهد هذا. ذاك أنّ المشايخ، لا سيّما في الشويفات، نقطة الاحتكاك الأبرز مع الشيعة و «حزب الله»، بدوا منظّمين مع اندلاع القتال، فشكّلوا لسواهم نموذجاً مرغوباً. لهذا أقدم كثيرون على ترك «ملذّات الحياة» وراحوا «يقرأون في الدين ويذهبون كلّ خميس مساءً إلى الخلوة، فضلاً عن ارتداء الزيّ الخاصّ بالمشايخ». وثمّة من ذهب أبعد، فحدّثنا عن نشأة عادات مستجدّة على الطقوس الدينيّة بعد 7 أيّار، وأنّ تلك العادات تنحو إلى تقريب الممارسات الدرزيّة من ممارسات الإسلام السنّيّ. ففضلاً عن الارتياح التاريخيّ للسلطنة العثمانيّة، يزكّي الحاضر تلك اللوحة في رسم التحالف والتعاطف الدرزيّين. ذاك أنّ «تيّار المستقبل»، كما وصفه أحدهم، ليس هجوميّاً أو توسّعيّاً. صحيح أنّ المشاكل مع سعد الحريري لم تكفّ عن الظهور، لا سيّما بسبب احتكاك الجسدين السياسيّين في إقليم الخرّوب، المجاور للشوف، إلاّ أنّ تلك تبقى خلافات قابلة ل «الحوار» وشديدة البعد من أن تتحوّل عنفاً. «تنظيم المشايخ» وفي هذا السياق ثمّة كلام كثير يُتداول عن «تنظيم المشايخ» الذي يقال إنّه غامض وذو تمويل غامض، والذي لعب دوراً ملحوظاً في معركة الشويفات. فهو ينتشر هناك في مناطق التماسّ مع الشيعة أكثر ممّا في الشوف. ويغمز البعض من أنّ التنظيم المذكور يحظى بغضّ نظر جنبلاطيّ يراعي المساحات التي يُخليها الزعيم الدرزيّ لرجال الدين «الراديكاليّين» القابلين للاستخدام حين يحين أوان استخدامهم. فوليد لا يسلّح، لكنّ شعاره «خلّوا أعينكم مفتوحة للدفاع عن أنفسكم»، يخلق التباساً مفيداً للجميع. وفي المقابل، فالشيوخ التقليديّون المتحفّظون على وليد لأسباب شتّى، يتعاملون معه باعتباره ضرورة ماسّة للطائفة ولكيانها، خصوصاً أنّه لا يتدخّل في أمور القيم ونوعيّة الحياة، أي السلطة الثقافيّة المتروكة لرجال الدين. كذلك يتحدّث البعض عن حركة الداعي عمّار بزعامة علاّم نصرالدين الذي قتل في تلك المجابهة مع «حزب الله» ليرثه نجله. لكنّ هؤلاء، على ما يبدو، أقرب إلى جماعة أصوليّة متشدّدة يتحفّظ عليها المشايخ التقليديّون، علماً أنّهم، وفق البعض، يعدّون ما بين 400 و500 نفر. لقد قتلوا ناصر العيتاوي، أحد القادة العسكريّين ل «حزب الله» في معركة الشويفات، ثمّ قُتل عدد منهم ليرتسم خطّ كثيف وحادّ للعداء والتباغض. وكان ما عزّز وحدة الاصطفاف الطائفيّ في المواجهة هذه أنّ «حزب الله» اتُّهم، بعد أشهر قليلة على توقّف المعارك، باغتيال صالح العريضي، المسؤول العسكريّ في «الحزب الديموقراطيّ اللبنانيّ» لطلال إرسلان المحسوب حليفاً للحزب الشيعيّ. والمؤكّد أنّ العداء للشيعة حالة شعبيّة جامعة بين الدروز. فبيع الأراضي لهم، بعد 7 أيّار، صار أقرب إلى محرّم، لا سيّما في الشويفات وجوارها. ومَن يُسأل منهم عن ذلك يحمّل المسؤوليّة الحصريّة إلى «حزب الله» الذي استهدف «مناطقنا»، و«حاول لغرض الهيمنة أن يربط قريتي كيفون والقماطيّة الشيعيّتين في قضاء عاليه». ومن موقع المراقب يشرح سناء أبو شقرا ما يسمّيه «قلق الدروز من أيّة طائفة مسلّحة»، ولأنّ الشيعة اليوم هم الفائقو التسلّح، بلغ القلق الدرزيّ حيالهم قمّته الأعلى. أمّا سليمان تقيّ الدين فيعترف بأنّ العداء الراهن الدرزيّ – الشيعيّ فاق بأشواط ما كان عليه العداء الدرزيّ – المسيحيّ إبّان حرب الجبل، «وحتّى الدروز المؤيّدون للمقاومة، لأسباب عقائديّة، ليسوا اليوم مع الشيعة». «الفارس» و «الفلاّح» إذا كان الشيعيّ عدوّ الحاضر المشرع على المستقبل، فإنّ المسيحيّ عدوّ الماضي الذي يرغب دروز الشوف في أن يطووا صفحة العداء معه. لكنّ التاريخ يحضر هنا حضوراً ثقيلاً، من محنة بشير جنبلاط، إلى إحراق القرى المسيحيّة والتهجير الواسع في 1860، ثمّ تهجير المسيحيّين الصغير في 1958 وتتويجه بقتل النائب نعيم مغبغب، فالتهجير الكبير في حرب الجبل، ناهيك عن المقتلة التي حلّت بالمسيحيّين إثر اغتيال كمال جنبلاط في 1977. وهي صفحات مريرة تستعصي على الطيّ البسيط وتبادل القُبل. والحال أنّ شعور «الفارس» الدرزيّ حيال «الفلاّح» المارونيّ انطوى دائماً على تعالٍ ممزوج بالحاجة. ذاك أنّ فائض التباهي عند «الفارس» وجهه الآخر الافتقار إلى التقاليد التجاريّة والسياحيّة التي تُركت ل «الفلاّح» وحده. وفعلاً تردّت الخدمات نوعيّاً بعد تهجير المسيحيّين من الجبل، بحيث نُسب إلى وليد جنبلاط قوله: «كنّا نريد إضعاف المسيحيّين لكنْ ليس إلى هذا الحدّ». فعودتهم اليوم مطلوبة درزيّاً لأنّها وحدها ما يعيد النجّار والحدّاد وصاحب المطعم والمقهى والفندق إلى تلك القرى والبلدات. وهذا ما قد يفسّر، بين أمور أخرى، الارتياح الدرزيّ الراهن لمواقف سمير جعجع وأقواله، في رمزيّةٍ دالّة حيال واحد من أكثر الذين قاتلوا الدروز في حرب الجبل. بيد أنّ المسيحيّين لا ينوون العودة، ومن عادوا منهم يتراوحون، في أحسن التقديرات، بين الربع والثلث. ذاك أنّه «ينبغي أن تنشأ في الجبل جاذبيّة اقتصاديّة تشدّهم، وهذا غير قائم»، وفق مكرم رباح. أمّا سناء أبو شقرا فيرى أنّ المسيحيّين لم يرجعوا «بسبب الفارق بين وضع الشابّ المسيحيّ اليوم، وقد تعلّم وهاجر وأثرى، ووضع أبيه وجده. فهو مثلاً لم يعد يسكن البيت الذي سكنه أهله من قبل». وهذا معطوف على أنّه لم يعد يشعر بالطمأنينة لبيئة الجبل بحروبها وأعمال تهجيرها الكثيرة. سوريّة والسوريّون ولا يخفي الدرزيّ المتوسّط تأييده الكاسح للثورة السوريّة، وربّما كان المحرّك الأهمّ لهذا التأييد اغتيال النظام السوريّ كمال جنبلاط. وما كان أنكى من الاغتيال، على طائفة فخورة ومُعتدّة، ذاك الاضطرار المديد إلى كتمان الحزن والغضب، وإلى التظاهر، سنة بعد سنة، بمودّة القاتل. فالشوفيّون وسائر الدروز نظروا إلى مصالحة وليد جنبلاط والنظام السوريّ على أنّها من أجل البقاء، فيما استعاد بعضهم ما نُسب إلى الستّ نظيرة من أنها قالت، حين سئلت عن تقرّبها من الفرنسيّين، «اليد التي لا تقدر عليها قبِّلها وادعِ عليها بالكسر». ويبدو أنّ تأييدهم الثورة ذهب بعيداً، بحيث تردّدت أخبار عن انتقال عناصر من «الجيش السوريّ الحرّ» واستقرارهم في بعض قرى الشوف بعد هزيمتهم في القصير. بيد أنّ تأييد الثورة شيء ومسألة العمالة السوريّة «الغريبة» شيء آخر. ف«العمّال السوريّون الذين كانوا هنا أتوا بعائلاتهم، ففي قرية كعمّاطور مثلاً ارتفع العدد من 30 الى 300، وهكذا باقي القرى». أمّا في بتلون حيث يقيم أيضاً 300 عامل و100 عائلة من السوريّين، ف «في البداية كان كلّ شيء طبيعيّاً، ثمّ حصلت في البلدة أعمال سرقة وتحرّش ربّما قام بها سوريّون وربّما غير سوريّين. لكنْ من قبيل الاحتياط وحفاظاً عليهم وعلى أشغالهم، منعناهم من مغادرة البيوت بعد الثامنة أو الثامنة والنصف، وهذا معمول به في معظم القرى». ولا يلبث محدّثنا الذي يعتزّ بموقف وليد جنبلاط من الثورة السوريّة، أن يختم معلناً قلقه «من تكاثرهم»، ومتسائلاً: «كيف ندبّر أمرهم إذا راحوا يتكاثرون؟». الحياة على إيقاع حربيّ تلوح حياة الشوفيّين بسيطة على رغم التعرّض للتمديُن وزخم امتداد الرأسماليّة في العقود القليلة الماضية. وأغلب الظنّ أنّ العداوات والحالة شبه الحربيّة المستدامة، وما تستدعيه من لحمة وتضافر، أقوى أثراً من تلك العوامل التي تفتّت الجماعة وتحيلها أفراداً. «فنحن»، كما قال أحدهم بخليط من جدّ ومزاح، «نقلّد مشايخنا، والمشايخ حين يتبضّعون لبيوتهم يتبضّعون لعام كامل إذ يفترضون أنّ الحياة محفوفة باحتمال الحصار الطويل». والراهن أنّ الوجدان الجمعيّ الدرزيّ عالق هناك في زمن الجماعة المتّصل. ففي الشوف لا تسمع عن إسهامات في الميادين والأنماط الثقافيّة الأحدث عهداً، ويبدو أنّ النشاط الأبرز هناك هو ما ترعاه المكتبة الوطنية في بعقلين، التابعة بدورها، لوزارة الثقافة. بيد أنّك تسمع عن متضلّعين في النحو، وعن مؤرّخين شفويّين، وتقرأ إعلانات تجاريّة عن «سهرات زجليّة كبرى». فكأنّنا أمام تمثيل متواصل ل «التراث»، أو أمام قطعة من الماضي متروكة في قلب الحاضر تستهوي أيّ أنثروبولوجيّ مفتون بالجماعات أو العادات «الغريبة». والبساطة هذه تغذّيها أزمة اقتصاديّة مستحكمة يتصدّرها تراجع الزراعة. ذاك أنّه «إن لم يحمل موسم الزيتون فهناك من أهل الطلاّب من لا يستطيعون أن يدفعوا أقساط أبنائهم». وهكذا يناط بوظيفة الدولة والتجارة الداخليّة، فضلاً عن تحويلات المهاجرين، أن تعوّض بخل الأرض وشحّة الاكتراث بها. أمّا السياحة في الشوف، وهي ضعيفة أصلاً، فيكفي القول إنّنا تناولنا الفطور وحدنا في قاعة الطعام الواسعة في فندق المير أمين، وهذا علماً أنّ الفندق المذكور ومهرجان بيت الدين الصيفيّ هما المصدران الوحيدان للدخل السياحيّ في تلك المنطقة. ويشير غير واحد ممّن التقيناهم إلى ظاهرات تتنامى هناك من نوع تأخّر سنّ الزواج وتراجع نسب الإنجاب. أمّا المديح الوحيد للحياة الاقتصاديّة فأتانا في صيغة سلبيّة، إذ «المصاريف قليلة هنا، على عكس بيروت»، على ما ذكر طارق حسن. فعلاً، بيروت بعيدة جدّاً من الشوف. - تقنيّات الزعامة، الثابت منها والمتحوّل (2 من 3)