في العام 2003 التقيت الروائي سهيل ادريس في المغرب خلال زيارته الدار البيضاء وأجريت معه حواراً بغية نشره ضمن سلسلة من الحوارات مع كتاب عرب ساهموا في تطوير الكتابة السردية لتصدر في كتاب بعنوان"مبدعون عرب". لكن هذه الحوارات لم تصدر حتى الآن. هنا نص الحوار الذي أجريته مع الروائي اللبناني صاحب مجلة ودار"الآداب"وهو أشبه بالمراجعة الشاملة لسيرته ومساره الأدبي. سهيل إدريس، كيف أتيت إلى الكتابة؟ - أعتقد أن مجيئي الحقيقي الى الكتابة كان عند انتسابي الى مجلة"بيروت"ومجلة"الصياد". هناك تدربت على الكتابة الصحافية. لكنني كنت أشعر بأنني لم أخلق للصحافة اليومية. ولذلك، فكرت في أن أترك الصحافة وأسافر إلى فرنسا لإكمال دراستي الجامعية. وفي باريس، انتسبت إلى جامعة السوربون، وشرعت أقرأ، وأدرس وأعد شهادة الدكتوراه. وكان موضوع شهادة الدكتوراه:"الرواية العربية الحديثة والتأثيرات الأجنبية عليها". اتخاذ قرار الرحيل إلى باريس للدراسة، هل كان مسبوقاً برحيل قريب لك وكان في ذهابك تأثر به، أم هو نوع من الافتتان بالأدب الغربي، الفرنسيپبخاصة، كخطوة نحو باريس للدراسة؟ - في الحقيقة، كان تأثير فقدان فلسطين فيّ تأثيراً شديداً جداً. فشعرت بأنّ عليّ أن أستكمل دراستي، وأستكمل شخصيتي الأدبية لأعود إلى بيروت وأبدأ عملي في الصحافة الأدبية الشهرية. وأنا في باريس، قررت أن أنشر مجلة أدبية تتناول الشؤون الأدبية في العالم العربي، وتساهم إسهاماً كبيراً في محاولة التغلب على الشعور بالإحباط واليأس من خسارتنا في فلسطين. وصادف في تلك الفترة أن قامت ثورة 23 يوليو في مصر، وكان قيامها، في الحقيقة، نوعاً من الرد، أيضاً، على خسارة فلسطين. ولذلك تأثرت، أيضاً، بهذه الثورة، وأخذت منحة من وزارة التربية الوطنية في لبنان، ومن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت"أخذت منحتين لأستطيع أن أتابع الدراسة والتحصيل. خلال إقامتك في باريس للدراسة من هم الكتاب الذين قرأت لهم بشغف وحب وقد تكون قراءتهم دفعت بك، من بعد، نحو الأدب والكتابة؟ - العرب أو الأجانب؟ العرب والأجانب.. معاً، وأعتقد أن الأدب الوجودي كان في صلب ما تأثرت به خلال إقامتك في باريس. - نعم، خلال إقامتي في باريس تأثرت بالمذهب الوجودي. وكنت أقرأ مجلة"الأزمنة الحديثة"التي كان يصدرها جان بول سارتر. ولا شك أنني تأثرت بهذه المجلة حين أنشأت مجلة"الآداب"عام 1953. ومن الأدباء العرب الذين تأثرت بهم في تلك الفترة، نجيب محفوظ، طه حسين، وتوفيق الحكيم. ومن اللبنانيين تأثرت بتوفيق يوسف عواد صاحب رواية"الرغيف". وكثير من الأدباء العرب الذين كنت أقرأ لهم في مجلة"الرسالة"، ومجلة"الثقافة"المصريتين.. قبل رحلتك إلى باريس، هل هؤلاء من كنت تقرأهم بشغف؟ - قبل الرحلة الباريسية كنت متأثراً بكتاب عرب مناضلين وعلى رأسهم المرحوم رئيف خوري، الذي كان صديقاً شخصياً لي، وميخائيل نعيمة، وذكرت لك أيضاً اسم توفيق يوسف عواد. هؤلاء هم الذين كنت متأثراً بهم قبل سفري إلى باريس. وحين سافرت عكفت على قراءة الأدب الوجودي، وفي ما بعد، عكفت على ترجمة الكثير مما كتب جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وألبير كامو. لو سألتك، الآن، كتقويم لتجربة الكتابة، ماذا أعطتك الكتابة بعد هذا العمر من الممارسة، ماذا حققت لك؟ هل حققت عبرها نوعاً من التوازن الشخصي؟ - لم تحقق لي الكتابة المردود المالي الذي كنت أطمح إليه. ومن هنا فإن مجلة"الآداب"لا تزال حتى اليوم تعاني من مشكلة الإصدار. لكنّ الكتابة حققت لي متعة روحية كبيرة، وهو ما دفعني إلى إصدار عدد من الروايات. وكنت مغرماً بالرواية وأصدرت رواية"الحي اللاتيني"، و"الخندق الغميق"، و"أصابعنا التي تحترق".. إنها المعروفة باسم الثلاثية - أجل، هي المعروفة باسم الثلاثية. وكنت مشرفاً على مجلة"الآداب"أغذيها بكل كتاباتي، وأستكتب لها عدداً كبيراً من الأدباء العرب. وفي الجزء الثاني من مذكراتي التي هي بعنوان"ذكريات الأدب والحب"، مقال طويل بعنوان"كيف أنشأت الآداب عام 1953"، وفيه أتحدث عن كثير من المعارف والأدباء العرب الذين كنت أتكاتب معهم وأطلب منهم أن يزودوا المجلة بدراساتهم ومقالاتهم. قبل كتابة الرواية كنت كتبت القصة القصيرة. - [مقاطعاً ومؤكداً]، أي، نعم. هل كنت تعتبر، آنذاك، كتابة القصة القصيرة جسراً نحو كتابة الرواية؟ - بالفعل بدأت بكتابة القصة القصيرة. وأصدرت ثلاث مجموعات، أصبحت في ما بعد ست مجموعات من القصص القصيرة جمعتها في كتاب بعنوان"قصص سهيل إدريس"، ولا شك في أن كتابة القصة القصيرة مهدت الطريق أمامي لكتابة الرواية. وفي باريس، كتبت النسخة الأولى من روايتي"الحي اللاتيني"التي نشرتها فور عودتي إلى بيروت. هل يمكن أن نقول إن الطابع الغالب على معظم قصصك القصيرة هو الاتجاه الواقعي، وإن الواقعية هي الاتجاه الذي كتبت في ظله أكثر من غيره؟ - نعم، من الممكن قول ذلك. وفي الواقع، أنا متأثر بالأدب الواقعي والنزعة الواقعية في الأدب، ولا شك في أني تأثرت بما كان يكتبه الكتاب الفرنسيون من قصص قصيرة وعلى رأسهم غي دو موباسان - وهو كان له تأثير كبير على كثير من القصاصين العرب، في ما بعد، ومنهم محمود تيمور - أي، صحيح. حينما يثار الحديث عن حضور الغرب في الأدب العربي، تتم الإشارة إلى الثلاثية التي كتبتها، وخصوصاً"الحي اللاتيني". هل تعتبر أنك كنت من السباقين إلى إثارة هذا اللقاء بين الشرق والغرب أو اللقاء بين العرب والغرب، ، تخييليا، بعد توفيق الحكيم، وقبل مبدع السودان، الطيب صالح؟ - أي نعم. الحقيقة، أنا نقلت تجربتي كمواطن عربي، حين كتبت رواية"الحي اللاتيني"وفيها أقوم بالمقارنة بين الشرق والغرب في ضمير كاتب لبناني يعيش الوقائع على الأرض العربية. هذه الكتابة واختيار هذا الموضوع هل كانا إثر صدمة اللقاء بباريس والغرب أم كانا نتيجة الخلفية الثقافية السابقة والانفتاح على الأدب الفرنسي؟ - لا، كانا نتيجة التأثّر بالأدب الفرنسي بلا شك. ولا شك في أني تأثرت بصورة خاصة بالأدب الوجودي، وهناك رواية ثلاثية ترجمتها عن الأدب الوجودي، بعنوان"دروب الحرية". انها لجان بول سارتر.. - أيوا،"دروب الحرية". وأذكر أنني تأثرت بالجزء الأول تأثراً شديداً حين كتبت الجزء الأول من ثلاثيتي، رواية"الحي اللاتيني". كيف تنظر، الآن، إلى ذلك التأثير، آنذاك، هل كان إيجابياً؟ و لو كان بالإمكان أن تعود فهل تكتب بالطريقة نفسها، أم هناك رغبة دفينة في تغيير ذلك المسار؟ - بطبيعة الحال، كان ذلك التأثير إيجابياً. بدليل أنني تأثرت بهذا الأدب تأثراً كبيراً، يعني النزعة الوجودية في الرواية وفي الدراسات الفرنسية. تأثرت بها تأثراً حتى قيل إنني أنا الذي أدخلت الوجودية إلى العالم العربي. طبعاً هذا مبالغ به، سبقني إلى ذلك كثيرون وعلى رأسهم الدكتور عبد الرحمن بدوي، رحمه الله. البدوي، في مجال الفلسفة، أما أنت ففي مجال الأدب؟ - أيوا، هو في مجال الفلسفة، أما أنا ففي مجال الأدب. أنا أخذت النصوص الأدبية، في الأدب الوجودي وترجمتها إلى العربية. وهناك أكثر من عشرين كتاباً ترجمتها إلى اللغة العربية عن الفرنسية. من القضايا الكبرى التي أثرتها في الثلاثية، قضية المرأة الغربية والتحرر وقيمة الجنس. قد يكون هنا نوع من السبق في إثارة مسألة الجنس. - في تلك الفترة كتب كثيرون في موضوع الصراع بين الشرق والغرب في الرواية العربية. وأذكر من الذين كتبوا يحيى حقي في"قنديل أم هاشم"، والكاتب السوداني الكبير صاحب"موسم الهجرة إلى الشمال". الطيب صالح... لكنه نشر نصه بعدك. كلهم نشروا نصوصهم بعدي. أنا كنت السباق في هذا الموضوع. ولا شك.. وقد كتبت دراسات كثيرة عن ثلاثيتي هذه، خصوصاً عن"الحي اللاتيني". - كيف تقرأ النقد الذي كتب عنك؟ في الجزء الثاني من مذكراتي"ذكرياتي في الأدب والحب"تناولت ما كتبه الكتاب العرب عن رواياتي الثلاث وقيمته تقييماً موضوعياً، على اعتبار أن البعض هاجم"الحي اللاتيني"، والبعض الآخر فهم تماماً قصدي منها وهو تصوير مشكلة الحرمان الذي يعانيه الشباب العربي على الصعيد الجنسي. وهناك من كتب بفهم عميق لهذا الموضوع، وآخرون تناولوا الأمر من زاوية ضيقة واعتبروا"الحي اللاتيني"نوعاً من الأدب البورنوغرافي. وهو في اعتقادي خطأ شديد، لأنني لم أكتب أدباً بورنوغرافياً، وإنما كتبت ما يعانيه الشاب الشرقي حين يلتقي فتاة من مجتمعه. هل استفدت من هذا النقد الذي كتب عنك، عن أدبك، في مرحلة معينة؟ هل أضاء لك على جوانب معينة لم تنتبه إليها في إبداعك؟ - لا، والله، لا أذكر. بمعنى لم يحصل. - لم يحصل. موضوع الحرمان، الذي أشرت إليه يبدو حقيقياً حينما يلتقي الغرب بالشرق، حينما يرحل الشاب العربي/الشرقي إلى الغرب. ربما يصدمه هذا التحرر هناك، هو الشرقي المحافظ. - هذا صحيح، ولكن يبقى أننا، نحن الأدباء العرب، مقصرون في معالجة موضوع الحرمان في أدب الشباب وأدباء الشباب العرب في شكل عام، وكنا نتجنب هذا الموضوع باعتباره من التابوهات، من المحرمات. في ما كتب عن"الحي اللاتيني"من نقد، أذكر أن هناك من أثار غياب وجود فتاة عربية في نصك. - لم أفهم السؤال. لما قدمت وجه جانين مونتيرو في"الحي اللاتيني"، لم يكن هناك وجه مقابل لفتاة عربية في نصك. - أرجو إعادة السؤال. قلت في رواية"الحي اللاتيني"، هناك حضور شخصية جانين مونتيرو، ولا نجد حضور شخصية أو وجه عربي آخر، شخصية عربية.. فتاة عربية، حتى يكون هناك نوع من التقابل بين شخصيتين مختلفتين ويكون التناقض صارخاً بين الشخصيتين. - في الحقيقة، هناك في"الحي اللاتيني"فتاة عربية هي نموذج للفتيات العربيات اللواتي يحدثن نوعاً من السلبية والإحباط في وجدان الشاب العربي، لأن الفتاة العربية إجمالاً تخاف من الشاب بحجة الدين والتقاليد. وقد تحرر بطل"الحي اللاتيني"من هذا الشعور حين التقى بجانين مونتيرو فأعطته ما جعله يُفَتِّح إمكاناته ويخرج إلى الحياة بريئاً من هذا الحرمان. هل يمكن أن يعتبر الحرمان نوعاً من قمع تمارسه السلطات على المجتمع؟ - صحيح، هذا صحيح. وقد حاول بطل"الحي اللاتيني"أن يقف في وجه هذا القمع وأن يطلب التحرر منه ليعيش بكل إمكاناته وطاقاته الحقيقية. كيف تنظر كمبدع ثم كناشر، نشر عدداً كبيراً من الكتب المنتمية إلى الاتجاه الوجودي ونشر أعمالا أدبية لكتاب عرب، إلى تيمة الجنس في الرواية العربية وفي الإبداع العربي؟ هل ترى أن هذه التيمة فتح لها الباب بمصراعيه لتبرز في هذا الأدب، هل تغني هذه الأعمال الأدب العربي أم هي لا تغنيه، أم تعتقد أن تناول الجنس لم يكن مجدياً ولا إبداعياً؟ - أعتقد أن الرواية العربية قطعت أشواطاً جيدة في التطور وفي تحسين المضمون الذي يعالج القضايا الاجتماعية معالجة جذرية. وأنا متفائل بمستقبل الرواية العربية، وأحاول في دار"الآداب"أن أنشر نماذج من هذا الوجه التطوري للرواية العربية. هل لك طقوس معينة في الكتابة؟ - في الحقيقة، لا. كلما أحسست برغبة في الكتابة، حيثما كنت وفي أي وقت من الأوقات أجلس إلى طاولتي وأمارس هذه الكتابة بالشكل الذي أراه مناسباً. هل تكتب النص مرة، مرتين؟ - أحياناً. في الحقيقة،"الحي اللاتيني"، مثلاً، كتبتها ثلاث مرات قبل أن أقرر نشرها في الشكل الذي هي موجودة فيه. "الحي اللاتيتي"، أم الثلاثية ككل؟ - لا"الحي اللاتيني"وحدها، هي التي كتبتها ثلاث مرات."الخندق الغميق"، كتبتها مرة واحدة، وفي شكل سريع، أنا نادم عليه لأنه كان بإمكاني أن أكتب نصاً، في"الخندق الغميق"، أجود من النص الذي ظهرت فيه الرواية. ومرحلة المراجعة والتشذيب والتنقيح، هل تستمر فترة طويلة أم قصيرة حينما تنتهي من كتابة نص؟ - هذا يتوقف على حكمي على أهمية النص، وعلى ما يشكو منه من ضعف فأعود إلى كتابته، مرة أخرى، بغية التحسين والتجويد فيه. - بالنسبة للقصص القصيرة، هل تكتب مرة واحدة أم أكثر من مرة؟ - الحقيقة، مضى وقت طويل على كتابتي للقصة القصيرة، وقد انقطعت الآن عن كتابتها لأن كتابة الرواية شغلتني عن كتابة القصة القصيرة. بالنسبة للمذكرات، لاحظ بعضهم أنك قدمت صورة قاسية للوالد، والدك. - نعم. هل كنت أقرب إلى الواقع أم إنك كنت أقرب إلى أسطرة صورة الأب في ما كتبته عنه في المذكرات؟ - بالنسبة للوالد، في الحقيقة، كنت حريصاً وأنا أنتقد المجتمع العربي، ومنه المجتمع اللبناني، أن أكون صادقاً وصريحاً، وأن أعري حتى الوجوه المألوفة لدي. وكنت أعتقد أن الوالد يعيش عيشة نفاق، ولذلك لم أجد مانعاً من أن أفضح هذا الوجه المنافق. ولست نادماً على ذلك، مع أنه أثار ثائرة عائلتي عليّ معتبرة أنني قصدت فضح واقع تعود الناس أن لا يتكلموا فيه، بحجة أذكروا محاسن موتاكم، ولكن كنت آخذ على الوالد، رحمه الله، أنه لم يكن صادقاً في تصرفاته وفي حياته. فلم أجد مانعاً من أن أعري هذا الجانب من حياته الشخصية. كثير من النقاد لاحظوا أن هذه القسوة أتت في فترة لم يعد فيها سهيل شاباً يعيش فورة الغضب والرفض.. وهذا يشفع له، ولكنه كتبها في مرحلة من حياته تتميز بالنضج الأدبي والفكري والأخلاقي والعلمي. ما هو السؤال؟ - هو أنك كتبت عن الوالد بقسوة في فترة أنت تتمتع فيها بالنضج الفكري والأدبي والعلمي والأخلاقي والعُمري. - عندما كتبت مذكراتي، كنت حريصاً على أن أكون صادقاً وجريئاً في الوقت نفسه. وهو ما دفعني إلى مجابهة هذا الموضوع المتعلق بالوالد، لأن مواقف النفاق عند الأهل موجودة بكثرة في سلوك الشرقيين والعرب. بمعنى أن المنظور الذي حاكمت من خلاله الوالد، هو الذي يحاكم منه آخرون آباءهم. - لا، ليس ذلك. وإنما أنا تكلمت عن التناقض في المواقف. كان هو شيخاً وإماماً في جامع وكان المفروض أن لا يقع في ذلك الخطأ الذي وقع فيه، والذي صورته في المذكرات. لو انتقلنا إلى جانب آخر، وسألتك كيف تنظر إلى واقع الرواية العربية الآن؟ - قلت إنني متفائل بواقع الرواية العربية، وأنا أتابع، على قدر الإمكان، ما يكتبه الأدباء الشباب وأنشر كثيراً من النصوص الجيدة التي تراوح بين الجودة وعدم الجودة. وآمل أن يظل هذا التطور في الرواية العربية مندفعاً بالقوة نفسها حتى نستطيع أن نجاري ما يكتبه الأدباء الغربيون في هذا الفن من الفنون الأدبية. أخيراً، هل تلاحظ أن الرواية في الخليج العربي تطورت كثيراً وبلغت شأو نظيرتها في العالم العربي؟ - في الحقيقة، أنا معجب بكثير مما يكتبه الروائيون المغاربة. وأعتقد أن المغرب غني جداً بالإمكانات الأدبية ونحن نولي هذا الجانب الأدبي في إنتاجنا المعاصر أهمية كبيرة. والأدب الخليجي، ألا ترى أنه تطور كثيراً، أيضاً؟ - ليس بتطور الأدب المغربي، الذي أحرق المراحل وقطع أشواطاً جيدة في التطور. ماذا تذكر عن محمد شكري يستحق أن يذكر الآن؟ - محمد شكري رحمه الله، كان أحد كتاب الآداب وقد نشرنا له في سنواتنا الأولى كثيراً من القصص، وبشرنا به، وإن كنا، في ما بعد، اختلفنا معه على بعض التوجه في كتاباته. يبقى مع ذلك، أن محمد شكري أحد أوائل الروائيين العرب الذين دفعوا هذا الفن في معارجه الأولى. "الآداب" تكرم صاحبها بعد رحيله كرّمت مجلة"الآداب"صاحبها الروائي سهيل إدريس الذي رحل أخيراً وخصّت به ملفاً في عددها الجديد بعنوان"وداعاً أيها الأب المؤسس"ضم مختارات مما كتب عنه في الصحافة اللبنانية والعربية. وكتب سماح إدريس، رئيس تحريرها افتتاحية العدد في شكل رسالة يتوجه فيها الى ابيه الراحل. ومن الذين نشرت شهاداتهم ومقالاتهم: شوقي بزيغ، الياس خوري، طلال سلمان، محمد بنيس، الطاهر لبيب، بول شاوول، عباس بيضون، بيار أبي صعب، شوقي بغدادي، رشاد أبو شاور، رفيق خوري، أمجد ناصر، صقر أبو فخر، حسين بن حمزة، عناية جابر، يوسف ضمرة، هشام نشّابة. وضم العدد ملفين آخرين هما"كي لا ننسى ستيفانوكياريني"و"تضامناً مع مجلة الآداب وضدّها". وجاء في افتتاحية سماح إدريس"صباح الخير يا بابا الدكتور، حين تركت المستشفى في العاشرة والنصف من ليل 18/2/2008، بناءً على إلحاح الماما عايدة، كنت أخشى أن ما يفصل بينك وبين الرحيل الأبدي ساعات. لذا، عدت الى المنزل، ووضعت هاتفي المحمول بين أذني اليمنى والمخدة. بعيد منتصف الليل، دق الهاتف، فأدركت أن موعدي معك قد حان. قالت رنا إن عايدة اتصلت وأبلغتها أنك لن تستطيع الاستمرار. ارتديت ملابسي بسرعة، وأعلمت كيرستن بالأمر. ثم مررت على رنا، وطرنا الى المستشفى. كنت فاغر الفم، ونسائم السكينة تحوّم فوق جبهتك، عايدة محمرة العينين، وتقول إنها سمعتك تشهق شهقات صغيرة قبل أن ترحل. تسألني، كطفل أضاع لعبته، أين ذهبت روحك؟ تقول إنها لم تََرَها. وكيف سترينها يا ماما، فكّرت؟ أهي الشهقات، سألتني؟ أيكون ما يفصل بين الحياة والموت... شهقة؟ ملأنا أوراق المستشفى، وأخذناك، أنا ورنا الى البراد. هناك، في الغرفة، أمام البرادات الثمانية، قبّلتك، ها إن تاريخاً من الأبوة والتأسيس والإبداع والنضال والقتال والحب والشبق والشغف يدخل الى الثلاجة. أوصلت الماما ورنا الى بيتيهما. لم نخبر رائدة لأنها كانت تعاني آلام الظهر والرقبة، وكانت نائمة. عدت الى المنزل وقضيت ساعات الفجر مع كيرستن، نتحدث عنك. في الصباح قررنا، أنا ورنا، أن لا ندفنك إلا في اليوم التالي: فقد كان يصعب أن ننهي ترتيبات الوداع خلال ساعات، ورنا نسيت أو أهملت أو أنها لم تصدّق أنك سترحل ذات يوم، لذا لم تشتر القبر قبل شهور كما كنا اتفقنا. ذهبنا الى"إدارة المدافن"في مقبرة الشهداء. الناس، أقصد الأحياء، بعضهم فوق بعض. جَلَسنا في مكتب الإدارة. المسؤول شخص طريف: عمله هنا"بنصف دوام"، أما في الدوام الثاني فيعمل محاسباً في ناد ليلي. قال لنا إن"جمعية المقاصد"ستتولى كل شيء، من الألف الى الياء، وشرح لنا درجات الجناز. نعم يا دكتور. جناز الموت طبقات، ولِمَ يكون أفضل من مهرجانات الحياة؟! قال المسؤول إن أمامنا ثلاثة خيارات: مليون ومئة ألف ليرة، ومليون وستمئة ألف ليرة، وثلاثة ملايين وثلاثمئة ألف ليرة. الموت الأول عبارة عن سيارة"جيدة"وحمالين. الموت الثاني عبارة عن سيارة أفضل، وكَفن أفضل. الموت الثالث موت دولوكس: سيارة ليموزين، وسيارة اسعاف وراءها لتسعف مَن؟، وثلاثة حمالين، وكَفَن مصري خلنج، وخيمة خضراء تظلل القبر وقت الدفن. كان الطقس عاصفاً يا بابا. قلت للمسؤول إننا نكره الليموزين، وإنك طوال عمرك تكره التشاوف والفخفخة. ولكن الخيمة... الخيمة ضرورية في هذا الطقس العاصف، وإلا ابتل الواقفون حول القبر أو مرضوا، فجرّسونا. ثم... ماذا سيقول الناس الكلاب لو استرخصنا موتك، سألت رنا؟ سيتهموننا بالبخل والعقوق، وقد نحرج الماما أمام"العائلات"البيروتية. فلنتجنب البهدلة إذن، قالت رنا. واخترنا الموت الدولوكس".