انفتحت أمامه البوابات الخارجية، ومن بينها مهرجان “أصوات عالمية” بالولايات المتحدةالأمريكية؛ فيممها حاملًا معه “القارورة”، و“فخاخ الرائحة”، و“الحمام لا يطير في بريدة” وغيرها من روايته الأخرى. فكان الاحتفاء بتجربة الروائي السعودي يوسف المحيميد كبيرًا، ينظر في ترجمة أعماله المشار إليها إلى أكثر من لغة، ودعوة أمريكا لها إلى التفرغ كلية للكتابة.. هذه الحفاوة لا يلمس المحيميد ما يماثلها في وطنه، غير أنه لا يبدو قلقًا من ذلك، فهو على ثقة ويقين أنه “سيأتي يوم ما يعاد فيه تصديره إلى وطنه من الخارج”. المحيميد لا يرى أي مبرر لفشو الكتابة الفجة عن الجنس من قبل بعض المبدعين السعوديين والمبدعات في الكثير من النصوص المبثوثة على المواقع الإلكترونية والإنترنت، داعيًا إلى التعامل مع الكتابة عن الجنس وفق ما تقتضيه سياقات النص، وضرورة السرد، بعيدًا عن المجانية الفجة.. مؤكدًا في الوقت نفسه أن المجتمعات لابد وأن تتأثر بالثلاثية المحرّمة (الجنس، الدين، والسياسة)، مشيرًا إلى أنه لا يمكن تناول مجتمع لا يتأثّر بالسياسة والدين في العمل الإبداعي، مبينًا أن البوح عن مشكلاتنا المزمنة، وكشفها يمثّل أول خطوات الحل والتطور والتغيير.. أما فيما يخص علاقة المؤلفين السعوديين بالناشرين، فيرى أنهم قد ساعدوا الناشرين على استغلالهم تبعًا لبعض المفاهيم الخاطئة، مبديًا أسفه لما تشهده الساحة من اختلافات وتلاسن وتنابز مؤذٍ بين الأدباء والمبدعين.. العديد من المحاور في سياق هذا الحوار مع الروائي يوسف المحيميد. معرفة من “فخاخ الرائحة” * برغم أن مشاركتك في مهرجان “أصوات عالمية” بالولايات المتحدةالأمريكية قد مرّت عليها فترة ليست بالقصيرة.. إلا أن السؤال عنها يظل حاضرًا في المشهد.. هل كانت دعوة من منظمي المهرجان أم من دور النشر؟ هي دعوة مشتركة، فلو لم تنشر لي دار بنجوين في نيويورك، لما قرأ المنظمون روايتي “فخاخ الرائحة” ولما عرفوا أن هناك كاتبًا عربيًّا اسمه:“يوسف المحيميد”، فالمنظمون في المهرجان تعرفوا عليَّ من خلال الرواية، ومن ثم تواصلوا مع الناشر بحثًا عن عنواني، فكان الناشر هو وسيلة الاتصال بيني وبين المنظمين. حضور مثير للسعادة * إذا كان الأمر كما تقول، فلماذا كنت الوحيد من السعودية في هذا المهرجان، وهناك عدد من الروائيين تمت ترجمة أعمالهم للغات أخرى؟ لم أكن الوحيد من السعودية فحسب، بل من العالم العربي أيضًا، فلم يشاركني في المهرجان سوى الروائي اللبناني إلياس خوري، وهو طبعًا ممن طبعت له بعض الروايات في دور نشر أمريكية، فضلًا عن أنه اسم قدير ويستحق الحضور والمشاركة. ما أريد قوله: أن حضوري وحدي من السعودية يفترض أن يثير السعادة لدى الأصدقاء الروائيين؛ لأنني قد أفتح بابًا جديدًا لهم هناك، فقد يشارك غيري بعد سنوات، إذ إن المشاركة ليست نزهة تنظمها جهة رسمية حتى يذهب معي عشرة كُتّاب وكاتبات! أرض الأحلام * سأذهب معك بعيدًا في هذا الأمر.. هل ترى لعلاقاتك في أمريكا دورًا في الترويج لرواياتك؟ يا صديقي ليس لي علاقة بأمريكا، وقد تستغرب أنني لم أسافر لها مطلقًا قبل صدور روايتي هناك، بل لم أسافر إلا بعد صدور الرواية بسنة كاملة، من خلال الدعوة إلى مهرجان أصوات عالمية، وهي بالمناسبة السفرة الوحيدة إلى هناك. أعتقد أن أمريكا هي أرض الأحلام، تقف تمامًا بجوار أي مبدع في أي مجال من مجالات الحياة، وليس الكتابة فحسب، ففيها نشرت روايتي في أكبر دور نشرها وأكثرها عراقة، وفيها تلقيت المشاركة بأكبر مهرجان عالمي، وفيها تلقيت أيضًا دعوة تفرغ للكتابة، كل ذلك حدث بسبب رواية فحسب، رأى فيها هؤلاء عملًا يستحق الاهتمام لا أكثر. زامر الحي لا يطرب * إذًا بم تبرر حضورك اللافت في الغرب بكتاباتك أكثر منه في الرياض بوصفها مسقط رأسك؟ بكل صدق لا أعرف، كثيرًا ما تصلني الدعوات من الخارج غالبًا، ويأتي الاهتمام من الخارج، سواء من العالم العربي أو الأجنبي، ولكن يبدو أن “زامر الحي لا يطرب”، وهذا الأمر وإن كان يمكن ملاحظته، إلا أنه لا يؤرقني كثيرًا، فلابد أن يأتي يوم ما يعاد فيه تصديري إلى بلادي من الخارج. كاتب قلق ومأزوم * الملاحظ في مشروعك الإبداعي جنوحك نحو نقل حياة المجتمع السعودي إلى الغرب بطريقة سوداوية.. فلم ذلك؟ الكاتب قلق ومأزوم بطبيعته، يرى ما لا يراه الآخرون، ويدوّن أحزان البشرية وهمومها، فكل كاتب يشعر بمسؤوليته عن كشف حالة مجتمعه لا تجميله، فلو قرأت مثلًا “ثلاثية نيويورك” للأمريكي بول أوستر لوجدتها هجاء للحياة الأمريكية، أو الأمريكي الراحل ج يدي سالنجر صاحب رواية “حارس في حقل الشوفان” الذي كتب بسخط عن الواقع الأمريكي، وخذ على ذلك كثيرًا من الأمثلة، تجد أورهان باموك محارب من القوميين الأتراك؛ لأنه أساء للأمة التركية حسب نظرتهم وهكذا. من هنا أعتقد أن لدينا مشكلاتنا المزمنة، التي تحتاج إلى البوح بها والكشف عنها؛ لأن ذلك أول خطوات الحل والتطور والتغيير. تفاعل غربي * من خلال هذه المشاركة هل لمست ثمة تفاعل مع رواياتك المترجمة خارج العالم العربي؟ أعتقد ذلك، من خلال مقدمات العقود التي يوقعها وكيلي، ومن خلال عروض الترجمة التي تصل إليَّ، ومن خلال الدراسات النقدية المكتوبة في صحف أمريكية وفرنسية، فرواية “فخاخ الرائحة” أظن أنها حقّقت نجاحًا مميزًا بلغاتها الثلاث: الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، أما «القارورة» فقد صدرت هذا العام بالإنجليزية، ومن المبكّر الحكم على مدى التفاعل معها. كتابات مجّانية * برزت في الآونة الأخيرة الأخيرة العديد من الروايات التي تجازت سور الجنس بوصفه أحد “التابوهات” الثلاثة.. فهل لديك تحفّظ حول الكتابة عن الجنس؟ نعم، يجب ألا تكون الكتابة مجّانية، فالجنس حين يتم توظيفه بشكل جيد، ويكون حضوره مبرّرًا ومنطقيًّا، فلا بأس في ذلك، أما أن يلوي عنق النص لأجل مشاهد جنسية ساخنة، لكنها ليست مبرّرة، ولا تضيف إلى النص، فهذا ما لا أوافق عليه. الأمر الآخر هو كيف يمكن الكتابة عن الجنس؟ أعتقد أن الكتابة باستخدام أدوات النص المؤثرة، كاللغة بكل طاقاتها، أكثر جدوى من الكتابة بفجاجة حول هذا الأمر، وهو ما أجده لدى كثير من النصوص التي تأثرت بكتابات مجانية تظهر بين وقت وآخر في منتديات ومواقع الإنترنت. الثلاثية المحرّمة * وفقًا لما تقول.. إلى أي حد ترى أن الروائي ملزم بإدخال الجنس والسياسة والدين في رواياته؟ أعتقد أن كثيرًا من المجتمعات تتأثر بهذه الثلاثية المحرّمة، فلا يوجد مجتمع لا تؤثّر فيه هذه الثلاثية وتقوده إلى التغيير، خاصة في جانبي السياسة والدين، فهما يحددان سيرة أي مجتمع وانفتاحه وتطوره أو انغلاقه، فإذا كانت السياسة تؤمن بالديمقراطية والحريات والحقوق، فإنّها ستقدم وطنًا متقدّمًا وحرًّا، والدين إذا كان ينظّم العلاقات ويعزّز قيم التسامح والمحبّة، لذلك لا يمكن تناول مجتمع لا يتأثّر بالسياسة والدين. حضور منطقي * لكن هناك من يرى أن الرواية الرجالية أقل تركيزًا في خطاب الجنس من مثيلتها النسائية.. ما قولك؟ شخصيًّا لا أؤمن بالفصل بين الرواية الرجالية والنسائية، الكاتب هو الكاتب، لكن قد يكون موضوع الرواية وشخصياتها من النساء حتى لو كان كاتبها رجلًا، وبخصوص الجنس قد يظهر في هذه أو تلك، فما يهم أن يكون حضوره منطقيًّا ومبرّرًا. أدوار متكاملة * لم سيطرت المرأة على كثير من أحداث روايتك “الحمام لا يطير في بريدة”؟ المرأة كانت إحدى شخصيات العمل، لكن العمل بشكل عام يعتني بحضور المرأة والرجل على حدٍّ سواء، لكن حضور المرأة في العمل كحضورها في الحياة، فلا يمكن أن يكتمل مشهد الحياة اليومية دون المرأة، ولا يكتمل أيضًا دون الرجل. الرواية وسوق الأسهم * من واقع متابعتك للمشهد كيف تقرأ واقع الرواية السعودية؟ هذا سؤال ضخم جدًّا، لكنني متفائل بتألق الرواية السعودية، خاصة بعدما انتهت الحفلة، فهي مثل سوق الأسهم، دخله كل الناس قبل خمس سنوات، ولم يبق فيها الآن إلا المحترفون، وأظن الرواية في السنتين الأخيرتين بدأت تهب ظهرها للطارئين على الكتابة. المحلّية بوابة العالمية * ما الذي ينقص الأدب السعودي حتى يصبح عالميًّا؟ أن يكون أكثر دفئًا وحميمية تجاه واقعه، عالمية نجيب محفوظ جاءت من الحارة المصرية، وعالمية ماركيز جاءت من رصد ديكتاتوريات أمريكا الجنوبية وقراها الصغيرة، وهكذا معظم الأسماء الكبيرة، لذا يجب أن يكون الأديب السعودي ملمًا بواقع مجتمعه وعارفًا خباياه، وفي الوقت نفسه ممتلكًا لأدوات الكتابة وتقنياتها. فكرة خاطئة * يرى كثير من الكُتّاب أن دور النشر استغلت المؤلّفين وخصوصًا السعوديين.. فكيف ترى ذلك؟ إلى حد كبير نعم، للأسف كثير من المؤلّفين السعوديين هم من ساعد الناشر على استغلالهم، فالبعض منهم يدفع كلفة طباعة ونشر وتوزيع كتابه، ومع ذلك لا يحظى بشيء، والبعض الآخر لا يدفع شيئًا، لكنه لا يحصل على حقوقه من الناشر؛ لأنّ كثيرًا من الناشرين العرب يعتقد أنّ المؤلّف السعودي ثري، ولا يحتاج إلى المال، وهي فكرة سائدة وخاطئة؛ لأنّ معظم الأدباء السعوديين يحلمون بأن تكون الكتابة مصدر عيشهم الوحيد. قدرات متميزة * برغم ما تقول.. ألا ترى أن سعة آفاق النشر واحتضان الكاتب السعودي في عدد من دور النشر في العالم العربي قد زادت من تميز الرواية السعودية محلّيًا وخارجيًّا؟ طبعًا، فدور النشر العربية ذات قدرات متميزة في التوزيع والانتشار، وأجزم بأنها حقّقت للرواية السعودية، والأدب السعودي عمومًا الكثير من الانتشار على المستوى العربي. دعم وليس إلغاء * وأين موقف الإنترنت من حل مشكلات سوق الكتاب وتجاوز دور النشر؟ أعتقد أن الإنترنت مكمل لسوق الكتاب، ومشجّع للقراءة، لكنه لا يغني عن دور النشر، هو يدعم عمل دور النشر ويطوره، لكنه لا يلغيه. تلاسن وتنابز * بين فينة وأخرى تبرز على السطح الخلافات بين الأدباء السعوديين.. إلى أي شيء ترجعها؟ أعتقد أن اختلاف وجهات النظر بين الأدباء من جيل الروّاد كان مثريًا ومميّزًا؛ لأن الجدل كان علميًّا ومقنّنًا، أمّا الآن فالأدباء الذين هاجوا وماجوا في خلافاتهم، معظمهم من عينة الذي “إذا خاصم فجر”، ولا تجد في جدالهم سوى التنابز والتلاسن المؤذي والمخجل. محفّزات جمالية * عودة إلى مشروعك الإبداعي.. نلحظ محفّزات جمالية في ثنايا قصصك فما سرها؟ أعتقد أن العمل الأدبي يتميز عن غيره، من كتابات علمية أو صحفية، بالاشتغال على الجانب الجمالي الإبداعي، وتوظيف اللغة في أعلى طاقاتها، واستثمار المختلف في معمار النص الأدبي سواء كان قصة قصيرة أم رواية أم قصيدة، بل حتى الفنون البصرية من تشكيل وفوتوغراف، والفنون المرئية من سينما ومسرح، تستثمر الطاقات الجمالية إلى أقصى حدودها، وإلا فما يمكن أن يميّز نص عن الآخر، حيث الأفكار تتشابه وتتناسخ أيضًا، فما كتب قبل آلاف السنين من أفكار حول الخير والشر والحب والمكر...إلخ، هي نفس القيم والمثل، لكن الفارق يكمن في التوظيف وابتكار آليات جمالية جديدة. كتب بتأثيرات مرحليّة * القدرة على الكتابة الإبداعية تستند إلى قراءة عميقة سابقة.. فما هي الكتب التي أثّرت في حياتك؟ كثيرة جدًّا؛ لأنها ترتبط بي مرحليًّا، فالطفولة لها كتبها المؤثّرة من الأساطير والقصص الشعبية والخرافية، والمراهقة لها اكتشاف الأسماء العربيّة في الشعر وكذلك الرواية، ومن ثمّ الأعمال المترجمة، وهكذا. فمثلًا كانت قصيدة “مديح الظّل العالي” لمحمود درويش مؤثّرة جدًّا في المرحلة الثانوية، وفي الجامعة أحببت نمط سعدي يوسف في الشعر، وتعرّفت على قصيدة النثر، قبل ذلك كان اكتشاف الرواية الكلاسيكيّة، وحضور تشارلز ديكنز وهيجو في طفولتي، ولكن أكثر الكتب تأثيرًا كان “زوربا”، و“تقرير إلى غريكو” لكازنتزاكي، وفي منتصف الثمانينيات “مائة عام من العزلة” لماركيز، ثمّ تأثيرات ميشيما وتانيزاكي والرواية اليابانيّة عمومًا، ببعدها الهامس جدًّا، وكذلك رواية أمريكا اللاتينية وفتنة سحرها، وهكذا هي الكتب والأسماء كثيرة يصعب حصرها.