نشرتُ في صفحة "التراث" يوم السبت الماضي، مطالعة للصديق عبدالرحمن الحاجّ في قضية التقنين في الفقه الإسلامي، في الأصول والتطورات. وقد حضرتُ خلال هذا الأسبوع بدعوة من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية لسلطنة عمان ندوة عن هذا الموضوع، وبهذا العنوان، استمرت ثلاثة أيام، وعُرضت خلالها بحوث لأعلام في الفقه والفكر الإسلامي تقرأ جدليات"التقنين والتجديد"من ضمن سلسلة الندوات السنوية التي تُقيمها وزارة الأوقاف بالسلطنة، وقد بلغت سبعاً حتى الندوة الأخيرة تحت العنوان العام:"تطور العلوم الفقهية". ومن المعروف ان الاتجاه لصوغ المذاهب الفقهية في مواد قانونية تُعينُ على التحويل الى قوانين تطبَّق في الدول والقضاء، بدأت في السلطنة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأدت الى إصدار"مجلة الأحكام العدلية"التي تناولت مجالات شتى، أبرزها مجال فقه الأحوال الشخصية سماها فقهاء وقانونيو الدولة العثمانية: قانون العائلة، في آخر صياغاته وتعديلاته عام 1917، والذي كان أبرز ما طُبّق في الدولة العثمانية، والدول الوطنية العربية والإسلامية التي جاءت بعدها. وقد اقتصرت جهود فقهاء الدولة العلية في تقنينهم على المذهب الحنفي. وعندما نشأت الدول الوطنية العربية اتبعت كل دولة مذهبها في التقنين. ثم تطورت المدونات فأفادت من أحكام كل المذاهب الفقهية، وتجاوزت ذلك في العقدين الأخيرين الى الإفادة ايضاً من الاجتهادات الحديثة من جانب الفقهاء، والأخرى السائدة في المجال العلمي، والتي لا تُخالف روح الشريعة. وقد كان مفهوماً أن عمليات التقنين هذه، أي وضع النصوص والآراء الفقهية الكلاسيكية، في صياغات قانونية قابلة للتطبيق، المقصود بها الحيلولة دون إزاحة الأحكام الفقهية الإسلامية من كل المجالات، بعد أن بدأت القوانين المدنية تجتاحه على شتى الصعد، ولا شك في ان مجال الأحوال الشخصية شديد الحساسية، لأن القوانين الحديثة فيه تصادم الكثير من أحكام الشريعة، وتؤدي الى مشكلات ضخمة في المواريث والحضانة والوصاية والوصية، والرؤية العامة لعقد النكاح وللأُسرة والعلاقات بين الزوجين. أما في المجالات الأخرى، فقد كانت هناك قناعات حتى لدى قانونيين تحديثيين كبار- وبعضهم من غير المسلمين أن موروث الفقه الإسلامي يتضمن دثائر واجتهادات كبرى ورائعة، لا يصح الاستغناء عنها، من اجل تقليد الأوروبيين وقوانينهم وحسب. ولذلك أمكن ودائماً ايام العثمانيين وفي مصر ? الإبقاء، بعد الصياغة القانونية، على مواد عدة في مجالات عدة وبخاصة في فقه العقوبات، وفي الموجبات والعقود. وفي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وبعد زيادة المعارف بثراء الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه، طمحت نخبة من الفقهاء القانونيين والدستوريين على رأسهم عبدالرزاق السنهوري، الذي شارك في صوغ الدساتير والقوانين المدنية في دول عربية عدة، الى الإفادة أكثر من اجتهادات الفقهاء المسلمين ضمن القوانين المدنية، وفي المبادئ والتفاصيل. وقد جرى ذلك بالفعل في مصر وغيرها. ومن المفهوم أيضاً وأيضاً ان هذه العملية الزاخرة والتي استمرت حوالى القرن كانت تنطلق من مقولة مفادها ان ما يجري عملُهُ إنما هو أمر ممكن وبنّاء، وفي نطاق المنافسة بين القانون المدني والنتاجات الفقهية، باعتبار انهما لا يتناقضان، ويمكن المزج بينهما، ويمكن التلاقح والإفادة المتبادلة. وبلغ من إيمان السنهوري وحشمت وعبدالحميد بدوي والسباعي بالنتاج الفقهي الإسلامي، وإمكان مشاركة المسلمين من خلاله في صوغ النظام العالمي في حقبة ما بين الحربين وبعدها، أنهم اهتموا بكتاب السير أحكام الحرب والسلم لمحمد بن الحسن الشيباني -189ه تلميذ الإمام أبي حنيفة - 150ه، وأنشأوا له جمعية دولية مقرها جنيف، ليسهموا من طريقه في صوغ القانون الدولي، واتفاق جنيف بشأن حقوق أسرى الحرب، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في كل الحالات. بيد ان هذه الحركة المتصاعدة للمزج والتلاؤم والمنافسة ضُربت بعد الحرب الثانية حين ظهرت فكرة التناقض الكامل بين الشريعة الإسلامية، والقوانين الوضعية. بدأ تلك الفكرة عبدالقادر عودة في المقارنة بين الفقهين في المجال الجنائي والحدود والعقوبات التعزيرات، وإثبات صلاحية وضرورة الشريعة الإسلامية وتطبيقها لبقاء الإسلام، وتطور الأمر وانتهى الى ظهور فكرة النظام الإسلامي الشامل، ومقولة الحاكمية. فبحسب الإحيائية الإسلامية الجديدة نحن لا نتعامل في المجال القانوني مع نتاجات فقهية واجتهادات إنسانية، إنما نتعامل مع الشريعة الإسلامية الإلهية والمعصومة، في مواجهة قوانين وأحكام الطاغوت المدني والعلماني، والذي يصارع حكم الله وشريعته. أما فكرة السنهوري وفقهاء الدولة العثمانية من قبله فهو ان التعامل إنما يتم بين نتاجات فقهية إسلامية إنسانية، تستند طبعاً في مرجعياتها العليا والنهائية ومصادرها الى القرآن الكريم والسنّة والإجماعات والأعراف التشريعية عبر العصور، وتُصدرُ أحكاماً ظنية في الأعمّ الأغلب، وبين قوانين مدنية إنسانية المصدر، ولها سياقاتها التاريخية والتشريعية الخاصة، والتي لا يصح تعميمها على سائر البشر، كما صنع المستعمرون الأوروبيون أو حاولوا. والطريف ان مفكري المستعمرين واستشراقييهم أنفسهم عمدوا في البلدان الإسلامية التي سيطروا فيها الى الاستعانة بالفقه الإسلامي مثل الهند وأندونيسيا وافريقيا الشمالية والغربية والشرقية. أما الإحيائيون الإسلاميون، دعاةً وقادةً ومشترعين، فيعتبرون اننا إنما نتعامل مع"حكم الله"الذي يقابله حكم الطاغوت. وقد ظل أوائلهم قبل الدخول في حقبة النضال بعد أواسط الستينات، يفاضلون ويفضّلون أحكام الشريعة في الحقيقة أحكام الفقه، ولا يعارضون الاستمرار في عمليات التقنين وإصدار الدساتير المطعّمة أو المؤسلمة، حتى سيطر النضاليون والعقائديون. والواقع ان الأنظمة العسكرية الصاعدة في الوطن العربي مشرقاً ومغرباً، أفادت في شكل غير مباشر من الحملات على القوانين المدنية، والدولة المدنية بعد ذلك، في إسقاط اعتبارات الحريات الأساسية والتعددية السياسية، والتي تقولُ بها الدساتير والقوانين المدنية الحديثة والمعاصرة. وهكذا، فقد قلتُ في محاضرتي بندوة"التقنين والتجديد"بمسقط، بسلطنة عُمان انه لا بد من مراعاة التحقيب التاريخي في النظر الى مسألة أو جدلية التقنين والتجديد. ففي الفترة الأولى خشي بعضُ فقهاء المذاهب من النزوع للتقنين لأنه يعني اتباع رأي واحد داخل المذهب الحنفي مثلاً، أو اعتبار نصوص مذهب معيّن دون المذاهب الأخرى. لكن غلبت اعتباراتُ المشاركة والمنافسة والتلاؤم والتنظيم. ففي القضاء الإسلامي ظل القاضي قوياً جداً، لأنه يستطيع الاختيار داخل مذهبه، كما يستطيع إذا كان مجتهداً كما هو المفروض أن يتجاوز كل الآراء المتوقعة نظرياً. وهناك شكاوى كبرى اليوم في بعض الدول من جانب المتقاضين والمحامين، من ان الحكم الذي سيصدره القاضي الذي يتبع مذهباً معيناً غير مقنّن، لا يمكن توقعُهُ. وهذه شكوى قديمة ذكرها ابن المقفع - 139ه في مطلع العصر العباسي في"رسالة الصحابة"، ووقتها كان القاضي متروكاً لاجتهاده ولأعراف المصر الذي يقضي فيه، قبل ظهور المذاهب. وبذلك فإن التقنين لا يوقفُ حركة التجديد كلياً، والتطوير المستمر في مدوّنات الأحوال الشخصية، في سائر الدول العربية والإسلامية، دليلٌ على ذلك. واعتبارات المشاركة والتلاؤم والتنظيم اعتبارات مهمة في المبدأ والمآلات. أما المرحلة التي يمر فيها الفكر الإسلامي، وهي مرحلة"اجتهادية"طليقة السراح نظرياً لأن الإحيائيين السلفيين والأصوليين على حد سواء لا يقولون بالمذهبية، ويطلبون الاجتهاد، فإنها في الواقع عقائدية تأصيلية تضع الشريعة المعصومة، في مواجهة العصر كله، ومن ضمنه قوانينه المدنية. وقد خُضْتُ الى جانب العلاّمة الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله في ثمانينات القرن الماضي مناقشات ومناظرات مع أعلام كبار في الفكر الإسلامي من الإحيائيين الحزبيين وغير الحزبيين، في شأن المرجعية العليا في الشأن العام، وهل هي للشريعة أم للأمة. كان العلاّمة شمس الدين يقول بولاية الأمة على نفسها في عصر الغيبة بحسب العقيدة الشيعية الإثني عشرية. وكنتُ أقول بمرجعية الجماعة وولايتها في كل العصور. وقال لي شمس الدين إنه توقع معارضة كبرى من جانب فقهاء الشيعة، وبخاصة القائلين بولاية الفقيه، لكنه فوجئ بأن المعارضة الأعنف جاءت من كبار الفقهاء السنّة، وبينهم فقهاء دستوريون وقانونيون بارزون، والذين صاروا للقول بالمقولة الأصولية المستجدة في مرجعية الشريعة، وضرورات تطبيقها. هناك فرق كبير إذاً بين القول بتقنين الفقه، والقول بتطبيق الشريعة. والفرق ليس لفظياً، بل هو مبدئي ويتصل بالحقبة التي يمر بها الفكر الإسلامي، ويمر بها الاجتماع العربي والإسلامي. ولله الأمر من قبل ومن بعد.