في سوق الكمأ الجمة، تنمو حبة الكمأ وتبرز في الرمل، كالحصى في مواسم المطر، ويجلبها العرب البدو الملثمون من بادية السماوة الى البصرة، وبالقرب من سوق الخفافين، حيث تصنع الأخفاف النجدية المعروفة، التي غالبا ما تكون من جلود الإبل، في الدكاكين الصغيرة الواهنة أمام مسجد تتراكم الأتربة على عتبته، حيث لا أحد يقيم الصلاة فيه بعد مقتل خطيبه الشيخ خالد في العام الماضي على يد جماعة مسلحة. هنا، يطيب لنا أن نستحضر مدينة لم يبن العرب قبلها مدينة بعد الفتح الإسلامي، تلك هي مدينة الزبير... قبل سنوات قليلة كان عدد المصلين الخارجين من مسجد مزعل باشا وسط الزبير بالمئات، أما اليوم فالمسجد خال من المصلين، بينما تضم مقبرة الحسن البصري العديد من قبور شيوخ مساجد الزبير التي أغلقت أبوابها بعد مقتل عدد منهم في خلال السنوات الخمس الماضية بفعل الاحتقان الطائفي الذي عصف بالعراق منذ سقوط بغداد عام 2003 . لم تعد غالبية الناس من"أهل السنة"في الزبير يحرصون على أداء الصلاة في المساجد، بعد حوادث القتل التي تعرض لها عدد من المصلين قبل الخروج من الصلاة وبعدها، إذ لم تجد نفعاً محاولات"الحزب الإسلامي العراقي"وپ"الوقف السني"والصلاة المشتركة مع قادة التيار الصدري في مسجد الشويلي شيعي وفي المساجد السنية المتخمة في حماية جموع المصلين من التعرض لمحاولات الاغتيال على يد المجموعات المسلحة التي غالباً ما تستغل مثل هذه الأوقات لتنفيذ عملياتها. ولم تعد بلدة الزبير التي بناها النجادة، الذين قدموا الى البصرة من نجد، قبل المئات من السنين مدينة محكومة من سكانها، فقد توافد عليها الآلاف من أبناء العشائر ممن كانوا يسكنون محافظات الناصرية والعمارة والسماوة وما فتئوا يتوافدون حتى غيروا طبيعة البلدة وحولوها إلى مدينة تجمع بين طوائف متنافرة ومختلفة عن طبيعة سكانها الأصليين. مؤرخ البصرة المرحوم حامد البازي وفي كتابه"البصرة في الفترة المظلمة"ومعه كثير من الباحثين والدارسين، لم يستبعد أن يكون كل مبنى جميل وأثري وتاريخي في البصرة اليوم سكناً سابقاً لعائلة زبيرية نجدية الأصل. وهكذا لم يجد الصحابة إلا قبر المبشر بالجنة الزبير بن العوام ليدفنوا فيه الصحابي عتبة بن غزوان 638 م القائد الذي استأذن عمر بن الخطاب في بناء البصرة. ومنذها دفن في المكان طلحة بن عبيد الله، وانس بن مالك، ومن ثم كل من الحسن البصري ومالك بن دينار ورابعة العدوية، والمئات من الفقهاء والعلماء والشعراء الذين ليس آخرهم أحمد نور الدين الأنصاري والشاعران بدر شاكر السياب ومحمود البريكان . وفي فترة الحكم السابق كانت القيادة والإمرة لأسرة السعدون في الزبير قاطبة، لكن الحال اليوم شهدت تراجعاً للوجود السني فيها لمصلحة أحزاب وميليشيات غريبة، حتى خرجت المدينة من يد أحفاد الرجال الذي بنوها وعمروها قبل قرنين من الزمن وكانوا حكام وقادة البصرة بأجمعها، وها هي تشكو اليوم الخراب والإهمال على يد ممثلي الحكومة المحلية، قادة الكتل والأحزاب التي تدير شؤون البصرة. كانت المئات من الأسر النجدية العريقة وجدت في بلدة الزبير، ومنذ أكثر من ثلاثة قرون من الزمان الملاذ الآمن هرباً من حروب القبائل ومتوالية العطش والقحط، وطلباً للرفاه والنعيم، ولما سكنوها وتحسنت طباعهم، وصاروا أميل لفهم الحياة ومعاني العيش قرب الماء، اشتروا بساتين النخل في القرى والقصبات على الأنهار في أبي الخصيب وعلى ضفتي شط العرب، حتى صارت الأماكن التي عمروها مع فلاحيهم واحة من نخيل وأشجار. في فترة ازدهارها وتمدنها، في الثلث الأول من القرن الماضي، كان المستكشفون النفطيون عثروا على أول بئر نفط فيها، وعلى غير العادة، حيث كان من المتوقع أن تكون الزبير أو البصرة عموماً إحدى مدن الخليج العربي النفطية اليوم، انتشرت التجمعات السكانية العشوائية النازحة من شمال البصرة، مثل بثور على وجه البلدة الغض، من الذين دخلوها فقراء، باحثين عن فرص العمل، ثم معسكرين بطبائع غير مدينية لم تعد تنفع معها الكلمات الممدودة المهموسة التي كانت تسيل كحليب الصباح الطازج من شفاه السكان الزبيريين . وهكذا، وفي غفلة من الزمن غارت السكك الرطبة الضيقة التي كانت تفرش لترش بماء الورد في مواسم الأعياد والأفراح، وأمحت"الدروازات"وتعطلت الشمس على الرواشن البيض، وسدت"البادكيرات"الباردة، وطمرت"الجلبان".. ولم يبق من المدينة النجدية البصرية الخالصة غير أسمها، فهي اليوم خريبة تذكرنا بالخريبة البصرة القديمة التي هجرها أهلها بعد أحداث الزنج المعروفة، إذ ليس بالحرق دائماً تباد المدن . ولعل من يمشي في شوارعها المتربة وأسواقها المتهالكة لا يسمع كلمة نجدية واحدة، لقد ضاعت الجمل القصيرة المعبرة الدالة، كلمات العرب البدو وپبهاستهم واختفت اليشامغ الغتر الحمر، وصارت تحوم حول من يرتديها الشبهات، فهو"إرهابي"في نظر السكان الجدد على رغم المحاولات التي تقوم بها بعض الكتل الطائفية، حتى باتت حكاية الصلاة المشتركة نكتة سمجة لا ُتضحك أحداً. والزبير اليوم مدينة لا علاقة لها بالمدينة القديمة بكل معنى الكلمة، إذ لا يشكل سكانها الأصليون أكثر من 16 في المئة من مجموع سكانها البالغ 800 ألف نسمة بعد الهجرات المتكررة لسكانها الأصليين والتي كان آخرها وأشدها بعد تفجير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء، والمشكلة ليست شيعية - سنية بحسب رأي الكثير من السكان والباحثين الذين لا يجدون في الوجود الشيعي من سكان البصرة الأصليين مشكلة حقيقية"فهم مسالمون يفهمون الدين على انه النصيحة"، لكن المشكلة في"الأطياف الجديدة"التي تحمل أبناء الحاضر أوزار الماضي، وهكذا كان عام 2006 من أكثر الأعوام دموية كما يعبر عضو في الحزب الإسلامي العراقي الذي قال:"لم يعد بمستطاعنا حضور مجالس العزاء كلها في إشارة إلى تعاظم عدد المقتولين". لقد طوى الزمن في عطفه الموجع تاريخ أسر وبيوتات مثل الذكير، والمنديل، والعون، والعوجان، والزهير، والدغمان، ... الخ، هذه البيوتات التي دوت زمناً في المجتمع البصري الزبيري، وكان لها حضورها في سوق المال والاقتصاد حلت محلها أسماء، ليس بين أصحابها من يفهم معنى أن تكون زبيرياً بصرياً من نجد.