تعرضت البصرة منذ الغزو الاميركي للعراق إلى هزات اجتماعية واقتصادية وسياسية عنيفة عرّضت نظام حياة أبنائها إلى خطر حقيقي، قد يصبح كارثياً في الأسابيع والأشهر المقبلة، فيما"الأخطاء"الحكومية العراقية مستمرة في حق العاصمة الثانية التي يقطنها نحو 3 ملايين مواطن. وإذا كانت قسوة واليها الحجاج بن يوسف الثقفي قد بلغت حد قتله كل من طاولته يده من النبط والزط وغيرهم من سكانها الأصليين حفاظاً على"العراق العربي"كما تشير كتب التاريخ وبحسب وصية الخليفة عبد الملك بن مروان كما يوردها الجاحظ في"البيان والتبيين"، فقد طاولت يد القسوة في الزمن الحديث العديد من سكانها من العرب الاقحاح لا لشيء سوى اختلافهم الفكري أو المذهبي أو السياسي أو الاقتصادي مع حكامهم، وهكذا ظلت المدينة تخسر يوماً إثر آخر فريقاً من سكانها حتى انك تجد اليوم أن نسبة سكانها من الوافدين أعلى بكثير من نسبة سكانها من العرب. ربما لم يدرس بعد تأثير هجرة اليهود من البصرة بعد أحداث فلسطين عام 1948، وخروجهم النهائي من العراق آخذين معهم رؤوس أموالهم الكبيرة بعد أن باعوا متاجرهم وضياعهم وبساتين نخيلهم واستحواذ طبقة من صغار الموظفين عليها، ومن ثم لتستولي الدولة على ما لم يتمكن هؤلاء من بيعه وليصير تحت رعاية مديرية الأموال المجمدة التي فرطت بها تحت تأثير آراء حكام وفقهاء ذلك الزمان. وهكذا خلت المدينة من ملاكين كبار، بعد ان نشأت طبقة جديدة جلها من كبار الموظفين المسيحيين من الذين استفادوا من دخول البريطانيين آنذاك فتسلموا مناصب مهمة في الدوائر المالية وفي الموانئ والمطارات والسكك الحديد. وفي غضون السنوات الخمسين التي سبقت قيام الحرب العراقية - الإيرانية كان مسيحيو البصرة يتمتعون بنفوذ تجاري ومالي كبيرين لكن حرب الأعوام الثمانية بين العراقوإيران أتت على ذلك كله حيث هاجر هؤلاء هرباً من ويلات الحرب بحيث انخفض عدد العائلات المسيحية من 10 آلاف عائلة قبل الحرب إلى 500 عائلة حالياً بحسب آخر إحصائية للأب سولاقى دانيال راعي كنيسة السريان الكاثوليك في البصرة. وفي الوقت الذي غادر أبناء الطوائف المسيحية البصرة كانت طائفة أخرى تهم بالمغادرة ألا وهي طائفة الصابئة المندائيون الذين يعتقدون بأنهم سكان العراق الأصليون حيث ينحدرون من أصول كلدانية سكنت العراق قبل أن يسكنه السومريون، وترجع لهم إحدى تسميات مدينة البصرة بصرياثا وهي أقدم تسمية للمدينة في كتب التاريخ. امتهن هؤلاء صياغة الحلي الذهبية والفضية منذ أقدم العصور، وعرفوا بديانتهم المائية، وهي أقدم ديانات وادي الرافدين، وما زالوا يتكلمون اللغة المندائية القديمة حتى اليوم وتراجع عددهم من 2000 عائلة قبل الحرب إلى أقل من 200 عائلة حالياً كما يقول سلام الخدادي المتحدث بلسان الطائفة في المدينة. وتشير التقديرات غير الرسمية إلى تراجع عدد العائلات السنية في المدينة بسبب تعرضها إلى مضايقات المتشددين من الشيعة، واستبعادها نهائياً من الحياة السياسية حيث لا يوجد ممثل لها داخل مجلس المحافظة على رغم أن نسبة السنّة بين السكان حالياً لا تقل عن 25 في المئة، وقد انخفض وجودهم في مناطق كانت مقفلة لهم قبل 75 عاماً كبلدة الزبير وأبي الخصيب بسبب تدفق آلاف العائلات الشيعية على المدينة. ولم يسلم سكانها من الشيعة الأصليين من عمليات المضايقة والتهميش أمام زحف عشائر المعدان من سكان الاهوار على قراهم حتى صارت جواميس وأبقار هؤلاء تجوب بساتين الملاكين في أقضية الفاو وأبي الخصيب وشط العرب ما أضطر الكثير منهم إلى مغادرة البصرة بعيداً من الصدامات اليومية مع هؤلاء . ويهيمن كبار قادة الأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية تحديداً وجلهم من غير سكان البصرة الأصليين على مسرح المدينة السياسي مستعينين بنفوذهم القبلي عبر منظومة ظاهرها ديني مذهبي وباطنها ارتباط بأجهزة استخباراتية إيرانية، لم تكتف بالعبث بأمن المدينة بل تعدته إلى إرهاب أبناء الطوائف الأخرى تحت ذرائع تقع دائماً تحت مسمى الدفاع عن الدين والمذهب وحماية الإسلام من تطاول الآخرين. وشكّل صعود قادة الكتل والأحزاب هذه من المأزومين مذهبياً ومن الذين دخلوا المدينة عقب سقوط النظام السابق قادمين من إيران عنصر طرد لكثير من الطاقات الحقيقية من المسيحيين والصابئة والسنة ومن الشيعة المعتدلين حتى صار إنفرادهم بالسلطة مؤشراً على تدمير حياة البصرة السياسية وخراب اقتصادها. اتسعت رقعة المصالح المالية والهيمنة السياسية بين الكتل والاحزاب التي تتصارع في المدينة، ويحاول كل من هؤلاء أن يجد له الدائرة المناسبة، فحزب"الفضيلة"يحاول الإمساك بمفاصل"شركة نفط الجنوب"ونقاط التصدير بينما يبسط"الصدريون"سلطتهم على دائرتي الكهرباء والصحة، في حين يهيمن"المجلس الأعلى الإسلامي"وپ"حزب الدعوة"على الأجهزة الأمنية والمنافذ الحدودية، ومثلهم تحاول منظمة"ثأر الله"فرض سيطرتها على الموانئ في أم قصر وأبو الفلوس والفاو بالتعاون مع المهربين من ذوي القدرة المسلحة، حيث تشهد سواحل نهر شط العرب والجزر الصغيرة فيه مواجهات مع شرطة الحدود ورجال الجمارك . وتلقي الخلافات السياسية والمصالح المالية بين الكتل والأحزاب بظلالها على امن وحياة المواطن البسيط، ولم يَرُق حسم مجلس القضاء الإداري قضية عزل المحافظ التي نادى بها أعضاء قائمة البصرة الإسلامية لصالح محمد مصبح الوائلي من الفضيلة لمديري مكتب رئيس الوزراء نوري المالكي حيث أصدروا تعميماً للدوائر الرسمية في المدينة بعدم التعاون مع الوائلي من اجل تحجيم دوره الإداري السياسي، وهكذا تم تعليق المعاملات الرسمية بين دوائر الوزارات والسلطة التنفيذية في المدينة الممثلة بشخص المحافظ. ويعاني قائد الشرطة من موقف مجلس المحافظة منه حيث تبادل الطرفان التهم بالوقوف وراء تدهور وضع المدينة الأمني وتعطيل حركة الاعمار والاستثمار فيها. وإذا كان الدافع المالي أو النفوذ السياسي وراء الخلافات بين الكتل فهناك خلافات من نوع مغاير تغذيها فتاوى ونشرات وصحف تصدر هنا وهناك، يتعرض فيها قادة وفقهاء هذا المرجع إلى قادة وفقهاء ذاك المرجع كما تفعل صحيفة"الصراط المستقيم"التي تصدر عن كتلة تسمي نفسها"أنصار الله"حين فند رئيس تحريرها عبد الرزاق الأنصاري في العدد 3 الصادر منتصف رمضان الماضي آراء السيد محمود الصرخي الذي كان اصدر بياناً كذب فيه السيد احمد الحسن اليماني رئيس كتلة"أنصار الله".