أواسط سنوات الثلاثين من القرن العشرين، كان أورسون ويلز، خلال عمله المسرحي الذي استبق والعمل الإذاعي، بداياته السينمائية، أخرج للخشبة مسرحية "ماكبث" لشكسبير. وعلى العادة التي سيسير عليها بعد ذلك، في معالجته الخاصة لأعمال أدبية أو مسرحية، لم يشأ ويلز، الذي بالكاد كان تجاوز العشرين من عمره آنذاك، أن يقدم شكسبير كما هو، فأضاف من عنده لمحات من طقوس الفودو الهاييتية، التي يبدو أنه كان اطلع عليها باكراً... وهو أدخل هذه الطقوس في مشاهد الساحرات والنبوءات. ومن هنا جرت العادة بعد ذلك على أن يطلق على إخراج أورسون ويلز المسرحي لپ"ماكبث"اسم"فودو ماكبث". وفي عام 1948، يوم لم يكن ويلز، بعد، قد أقدم على نقل أي عمل شكسبيري للسينما، نراه يحقق للشاشة الكبيرة فيلماً عن"ماكبث"، لم يكن الأول الذي يحققه مبدع عن هذه المسرحية ولن يكون الأخير، لكنه كان - وظل لفترة طويلة - الأبرز، حتى وإن كان قد اشتهر بكلفته الضئيلة، وكذلك بالسقوط الجماهيري والنقدي الذي لا يضاهى. لكن هذا كان قبل سنوات الثمانين من القرن العشرين، حين أعيد الاعتبار للفيلم بعد نسيان طويل، وعلى الأقل في الولاياتالمتحدة، علماً أن الأوروبيين كانوا خصّوه باستقبال حافل منذ البداية، متسائلين: ماذا دهى الأميركيين ليتجنبوه؟ الحقيقة ان من الصعب العثور على جواب واضح لهذا السؤال. غير أن ما أراح ويلز بعض الشيء هو أن شركة الإنتاج التي مولت الفيلم، منذ البداية ? وهي شركة صغيرة كانت اشتهرت بأفلام المغامرات زهيدة الكلفة ? تدخلت في الفيلم قصاً وتشويهاً بعد عرض أول لم ينل استحساناً. ثم تدخلت كذلك مرة أخرى بعد عروض تالية. بيد أن ثمة لسقوط الفيلم سبباً جرى الحديث عنه لاحقاً، وضمن إطار تفسير نجاح الفيلم في البلدان الناطقة بغير الإنكليزية. وهذا السبب بسيط: لقد أصر أورسون ويلز حين صور الفيلم على أن تكون حواراته بالاسكتلندية القديمة، نظراً الى أن أحداث المسرحية تجرى في اسكتلندا العصور الوسطى. وهذه لغة لم يعد أحد يفهمها باستثناء جماعات من الاسكتلنديين... وفي الوقت نفسه سيبدو وضع ترجمة للحوارات على الشاشة أمراً سخيفاً. وهكذا اجتذب الفيلم جمهور الناطقين الإنكليزية. وفي المقابل، لما كان وضع ترجمات في لغات أخرى معقولاً، عرض الفيلم وحقق النجاح الخارجي الذي نعرف. وكان هذا هو التفسير المتداول. غير انه تفسير، على منطقيته، لا بد من أن نضيف اليه تفسيراً آخر، يتعلق بالفوارق في الذهنية في ذلك الحين، بين الأوروبيين والأميركيين. إذ نعرف أن العالم كان خلال النصف الثاني من سنوات الأربعين، قد خرج لتوّه من أتون الحرب العالمية الثانية، محملاً بأفكار غريبة حول قضية المسؤولية الإنسانية ومسؤولية العوامل الخارجة عن إرادة الإنسان. وكانت أوروبا، في شكل خاص، تخوض سجالات واسعة حول هذه المسائل، في وقت سادت الأفكار الوجودية... فيما كانت أميركا، المنتصرة في الحرب من دون كبير معاناة من جرائها، في منأى عن تلك السجالات. وأورسون ويلز، الذي كان فكره - في ذلك الحين، ثم دائماً بعد ذلك - أَمْيَل الى سجالات الفرنسيين، منه الى يقينيات الأميركيين، أحدث في روحية المسرحية، تعديلات فكرية جوهرية، لعل أهمها أنه جعل ماكبث غير متحمل - كلياً - للمسؤولية عن الشر وعن الأفعال التي يحمله إياها شكسبير في المسرحية الأصلية. لدى أورسون ويلز، صار ماكبث ضحية... ولكن ليس فقط ضحية زوجته الليدي ماكبث، التي تجسد الشر، بل ضحية الأقدار، ما جعل"ماكبث"ويلز تبدو، في جوهرها، أدنى الى التراجيديات الإغريقية أوديب، مثلاً منها الى الأعمال القائمة على مفاهيم الثواب والعقاب والمسؤولية، المسيحية. غير أن هذا البعد، يبقى محملاً في الخلفية الفلسفية للعمل، أي انه لم يلامس المجرى الحقيقي للأحداث التي أخذها أورسون ويلز، من شكسبير كما ينبغي لها أن تكون. إذ هنا أيضاً، لدينا الحكاية المعهودة نفسها عن القائدين العسكريين ماكبث وبانكو، عائدين من المعركة منتصرين الى الوطن الاسكتلندي، حيث يلتقيان في طريقهما بالساحرات الثلاث، اللواتي يتنبأن لهما بالمجد والسلطة وإن على عرش من الدماء. وتقول النبوءة كما نعرف ان ماكبث سيعتلي بنفسه عما قريب عرش اسكتلندا، غير أن ورثة بانكو هم الذين سيتولون هذا العرش من بعده، لا ورثته هو. ولاحقاً، حين يكون دانكان، الملك الحالي، في زيارة لماكبث في قلعة هذا الأخير، يندفع ماكبث بتحريض من زوجته، وبعد تردد طويل منه يتناقض مع طموحاته البينة، الى ارتكاب تلك الجريمة الدامية التي تحقق الجزء الأول من النبوءة: إنه يقتل الملك في جريمة نكراء تسجل، على أي حال، أول هبوط له الى جحيمه. مهما يكن، فإن ماكبث لن يبدو هنا غافلاً عن أن تحقق النبوءة الأولى سيعني - بالضرورة - تحقق ما يليها من نبوءات. ومن هنا، حتى يحول دون التخلص منه ومن ورثته، وتسلم أولاد بانكو للعرش، يقدم على مذبحة كان يتوخى منها أن تخلصه من هؤلاء. يتمكن طبعاً من قتل بانكو، لكن فليانس، ابن هذا الأخير يتمكن من الإفلات بجلده ويهرب. وهنا يستدعي ماكبث الساحرات الثلاث كي يقلن له ما الذي سيحدث بعد ذلك... وكيف قد يتمكن ابن بانكو من الحلول على العرش مكانه، الآن وقد أتى مقتل بانكو، ليلغي الفكرة من أساسها. عن هذا السؤال يأتي جواب الساحرات، كما كان في المرة الأولى: ان أي شخص ولد من بطن امرأة لن يجرؤ على إيذاء ماكبث... طبعاً لن نسترسل هنا في رواية بقية الأحداث. فالذين قرأوا شكسبير يعرفونها، وسيلاحظون إن هم شاهدوا الفيلم انها لا تتبدل إلا في التفسير الفلسفي، أما الذين لا يعرفون المسرحية أو الفيلم، فإن من الأفيد لهم ألا يعرفوا البقية مسبقاً، لأنها حافلة بكل أنواع المفاجآت والدماء وضروب العنف والصراع. ومن هنا ما يقال عادة من أن مسرحية"ماكبث"هي المسرحية الأكثر دموية التي كتبها شكسبير. لكن الغريب في الأمر أن السينما، بدءاً من أورسون ويلز، وصولاً الى رومان بولانسكي الذي حقق بدوره فيلماً عن المسرحية نفسها، بدت دائماً أكثر عنفاً من المسرحية. وإذا كان في إمكاننا أن نفهم دموية فيلم بولانسكي وعنفه - إذ حققه بعد أشهر قليلة من اغتيال زوجته شارون تيث الحامل، وأصحابهما على يد عصابة تشارلز مانسون -، فإن من الصعب علينا أن نتصور خلفيات العنف الفظيع في"ماكبث"ويلز، إلا إذا ربطناه بدموية الحرب العالمية الثانية وتأثر ويلز بها. مهما يكن من أمر، بقي أن نذكر أن أورسون ويلز لم يقدم على تحقيق ماكبث في ذلك الحين، إلا لأنه كان سئم انتظار تمويل تأخر وصوله لفيلمه الذي كان يستعد منذ زمن لتحقيقه وهو"سيدة من شانغهاي"، وتقول الحكاية ان ويلز، في انتظار أموال هذا الفيلم الأخير، دعي للمشاركة في مهرجان مسرحي في سالت ليك سيتي، حيث سيقدم مسرحية"ماكبث"، فأخذ فرقته وديكوراته وحصل على مبلغ يسير من المال، وإذ قدم المسرحية بقي نحو ثلاثة أسابيع أخرى، مكنته من أن يصور المسرحية في قالب سينمائي. وهكذا ولد - صدفة الى حد ما - هذا الفيلم الذي إذ استعاد قيمته لاحقاً، بات يعتبر من أبرز تدخلات سينما أورسون ويلز 1915 - 1985 في المسرح الشكسبيري، الى جانب"عطيل"الذي حققه بعد ذلك بسنوات قليلة جداً وفاز عنه بسعفة كان الذهبية باسم المغرب، والى جانب"فالستاف"المأخوذ عن مسرحيات شكسبيرية عدة، وأخيراً الى جانب"تصوير عطيل"الذي كان واحداً من آخر الأفلام التي حققها خلال حياته وخلال مساره الطويل. وقد يكون مفيداً أن نذكر هنا أخيراً أن ثمة فيلمين لويلز، على الأقل يبدوان الأكثر تأثراً بپ"ماكبث"من أي عمل شكسبيري آخر وهما:"السيد آركادان"وپ"لمسة الشر". [email protected]