بالنسبة الى الكثيرين "هاملت" هي المسرحية الأهم التي كتبها ويليام شكسبير 1564- 1616. ومع هذا يرى كثيرون أن "ماكبث" أكثر ارتباطاً بالإنسان ودلالة على نوازعه. بمعنى أن "ماكبث" هي المسرحية الإنسانية الأولى في تاريخ الكتابة المسرحية. أي المسرحية الأولى والأكبر التي جعلت من الشر موضوعاً لها. الشر كمسؤولية بشرية لا كمسؤولية آتية الى الإنسان من خارجه. من الصعب طبعاً، في مثل هذه العجالة، المقارنة بين شخصيتي هاملت وماكبث، ولكن يمكن، باختصار، القول إنه بينما تدور الصراعات داخل هاملت، ما يخلق لديه ذلك التوتر والتردد اللذين صارا علامة أساسية من علامات الخلق البشري المعبر عنه في الفن، فإن ما يحرك ماكبث ليس تردده أو أية صراعات داخلية. ما يحركه هو نزعة الشر التي إذ تدفع الإنسان الى القتل وإلى التعطش الى الدم تقتله في الوقت نفسه. لأن ما نشاهده أمامنا على المسرح في هذه المسرحية، إنما هو سقوط ماكبث نحو الجريمة وفي الجريمة. لسنا في حاجة هنا الى التوسع في رواية ما يحدث في فصول هذه المسرحية التي كتبها شكسبير في العام 1606، بعد خمس سنوات من كتابته لهاملت، مستنداً فيها الى بعض التواريخ الاسكتلندية. فمعظم القراء يعرف أنها تروي حكاية القائد ماكبث الذي، إذ يعود منتصراً من معركة مع ملك النروج الخائن، ليزف أنباء النصر الى مليكه دانكان، وفي رفقته القائد بانكو، تطالعهما ثلاث ساحرات وسط ليل الغابات المدلهم بنبوءة تقول إن ماكبث سيستولي على العرش، لكنه سوف يقتل على يد من لم تلده امرأة، يوم تتحرك الغابات، وفي النبوءة أيضاً أن بانكو يلد الملوك من دون ان يكون هو ملكاً. حتى هنا تبدو "ماكبث" اشبه بتلك التراجيديات الإغريقية المليئة بالنبوءات وبمشيئة الأقدار. غير أن الجديد هنا، الإنساني المفتتح لعصر الفنون المرتبطة بالنوازع البشرية النابعة عن الإرادة البشرية، هو وصول النبوءة الى الليدي ماكبث. فلئن كان ماكبث نفسه ارتعب أمام ما تنبأت به الساحرات واعتبره تخريفاً. فإن الليدي تتعامل مع الأمر بشكل مختلف: تجعل من نفسها المحرض على الجريمة، وإلى حد كبير مقترفها أيضاً. وهكذا لا تعود مشيئة الأقدار قابلة للتنفيذ إلا عن طريق وسيط هو الجشع البشري الذي تمثله الليدي ماكبث وتجر زوجها فيه الى جحيمهما. من هنا ليس غريباً، أن تكون إحدى أكثر عبارات المسرحية إثارة للرعب، تلك التي تقول أن "عطور الجزيرة العربية كلها لن تكون قادرة على تطهير يد الليدي ماكبث" مم؟ من بقعة الدم التي تركتها الجريمة عليها. في "ماكبث" وحسب تحليل مبدع للبولندي بان كوت نقله الى العربية جبرا ابراهيم جبرا في كتاب "شكسبير معاصرنا"، التاريخ والكابوس صنوان لا يفترقان. التاريخ، تاريخ الجريمة، والكابوس، كابوس العقاب والهبوط الى الجحيم. والمسألة هنا "قرار واختيار وقسر". الجريمة هنا ترتكب على مسؤولية الفرد الشخصية و"عليه أن ينفذها بيده هو" وهكذا فإن ماكبث إذ يقع تحت تأثير تحريض زوجته يقتل دانكان بنفسه. وهذا ما يجعل "التاريخ في المسرحية مضطرباً كما الكوابيس" إذ يقول ماكبث: "لقد خطوت في الدم بعيداً، فحتى لو لم أخض المزيد لكان النكوص مرهقاً كما المضي". لم يعد في إمكان ماكبث أن يتراجع. ليس لأن الأقدار فرضت ذلك عليه، بل لأن تلك هي شيمة الرجال وماكبث لا يفوته هذا إذ يقول في حوار مع زوجته: "أرجوك كفى، إني أجرأ على أي فعل يليق برجل، ومن يجرأ أكثر مني فهو ليس برجل". مسرحية "ماكبث" في نظر الباحثين هي "في سيكولوجيتها، أعمق مآسي شكسبير. وتحديداً لأن الشخصية الرئيسية فيها هي ليدي ماكبث، تلك، التي بحسب يان كوت "تنتقم لهزيمتها في الحب وفي الأمومة"، جارة ماكبث الى الجريمة، الى الكابوس، بعيداً عن النوم. ولعل أهم ما لاحظه الكثيرون هو أن الكلمتين المسيطرتين أكثر على ماكبث هما "الخوف" و"النوم". الخوف كلي الحضور أما النوم فغائب تماماً. لأن ماكبث، إذ اقترف جريمته، ليس في إمكانه أن يسلم أمره الى الآلهة ويعتبرها، كما لدى الإغريق، مسؤولة عنه. المسؤولية مسؤوليته، وما يرعبه ويحرمه النوم ليس خوفه من العقاب. أبداً. ما يرعبه هو أنه كان قادراً على ارتكاب الجريمة، وبكل بساطة، أما العقاب فلربما سيكون هو خلاصه، لا نهايته. جريمة ماكبث ليست امراً، إلهياً، إنها ثورة على الأمر الإلهي. ثورة تجعل الظلام يعم والتاريخ يتوقف والجريمة شريعة الإنسان... الجريمة باعتبارها أولاً وقبل أي شيء آخر جريمة ضد النوم... لأن ماكبث، إذ يقتل، لا يعود أمامه لكي يخرج من كابوسه، إلا أن يقتل ويقتل حتى اللحظة التي يقتل فيها، فهل نحن بعيدون كثيراً عن شريعة العنف والسلطة في القرن العشرين؟