تتقدم الحاجة الى الإدلاء بشهادة على التمسك بالشروط الفنية غالباً في"جروح في شجر النخيل : قصص من واقع العراق"الصادر عن دار رياض الريس، بيروت، الذي تحتفظ اللجنة الدولية للصليب الأحمر كل حقوقه. يذكر الكاتب أمين معلوف في المقدمة:"هنا الأدب يرتقي، مع كل صفحة، الى معناه الأعمق والأسمى. هنا الأدب، في كل قصة، يجاور الموت بترفع ويصارع قوى الفناء ولا يكفر لحظة واحدة بالحياة". لوحة الغلاف للفنان العراقي بلاسم محمد، واللوحات الداخلية للنحات العراقي محمد غني احمد الذي تستدير خطوطه أو تستدق لتدين وحشية الحرب ومجازرها وسط صمت القطيع، وربما كانت أجملها اللوحة التي تتقدم قصة"ثلاثة وجوه لامرأة عراقية". يسجل تسعة كتاب وست كاتبات ملحمة الموت والخوف والجوع والخسارة في حروب العراق الثلاثة منذ الثمانينات. أولى القصص"صورة لجسد ناقص"تتميز باستكشاف عميق، مر وجميل، لمعوّقي الحرب الذين يعرف الراوي اثنين منهم: عمه عبدالله الذي ذهب لغم بقدمه اليسرى، وعمه علي الوسيم، اللامبالي بالسياسة، الطامح الى المتعة وحدها، الذي افقده القتال ذراعه وشتت ساقه فربطت بالبلاتين وأجلسته على كرسي بدواليب يجرها ابن شقيقه في الأماكن التي ارتادها قبل الإعاقة. يروي كاتب القصة أحمد السعداوي تجاور صور قتلى الحرب والرسوم المتحركة في البث التلفزيوني، وإعداد الأطفال السوريالي والعنيف لحقائق الحياة العراقية التي خالطها الموت الكثير. يرى المعوق شخصاً دخل قسم منه في عالم الموت وبقي القسم الأكبر في دنيا الأحياء. لا يقبل جسد المعوق وفكره خسارة طرف ما، وتتمسك الذاكرة به الى ان يتعلم الجسد الاستغناء عنه ويستبدله بالطرف المقابل. يتحدث الراوي بغيظ عن طاقة عمه المزعجة، وإصراره على المساحة السابقة لحياته بالتجوال الطويل في كرسيه كأنه ينفي عجزه عن المشي. يعوض العم عن خسارته وينفيها بما يتوهمه عيشاً عادياً الى أن يتقن استخدام يسراه ويمشي على عكاز ويبني حياة أخرى. يحرص معظم الكتاب الآخرين على كشف كل التفاصيل والتجارب كأنهم في سكبهم شهاداتهم يتطهرون من فواجعهم ويدينون الرجل الذي تسبب بها من دون ان يسموه مرة واحدة ربما لكي يطمروا ذكراه شخصياً ويخلّدوا ما يرمز إليه فحسب. يتخففون من حملهم كأنهم يقومون بواجبهم نحو شعبهم سواء كانوا من الأقلية أو لا، ويركزون على هباء الحياة التعسفي وضياع الحب والفرص والبراءة والممتلكات. مع ذلك يستدير كثر بعد رحلة الى الجحيم ويتمسكون بالأمل بعودة عزيز مفقود ولو بعد ربع قرن. بطلتا إرادة الجبوري وسلوى زكو تتمسكان بالوهم لكي تستطيعا الاستمرار وحدهما من دون الزوج والابن. ترفض الزوجة في"أسرى"للجبوري القبول بموت زوجها الذي يعود إليها جثة مفحمة في صندوق. تبقيه في البيت وتقاوم الرغبة في فتحه، وتعلل نفسها بأن الجثة ليست لزوجها وتذهب الى مكان عودة الأسرى علها تجده هناك. في"ثلاثة وجوه لامرأة عراقية"لزكو يفقد الابن الوحيد لأم هجرها زوجها فتؤمن أولاً بأن"الحكومة لا تترك أبناءها"، ثم تتحول حياتها الى رحلة بحث عنه طوال ربع قرن لأن قلبها ينبئها بأنه حي"وقلب الأم لا يخطئ". في مشهد آخر لزكو تعتقل صحافية وتعذب ويعتدى عليها، لكنها تصر أمام أسرتها على أن أحداً لم يلمسها. لطفية الدليمي تكتب في"محنة البقاء في بلد الظلال"بلغة مشغولة عن عيشها وحدها"وسط حدائق الموت المزدهرة بجثث مجهولة ورؤوس مقطوعة". تمارس اليوغا وتروي الزهور وتصنع الشراب وتطعم القطة، وتشارك في الاحتفال بصدور مجلة جديدة. شهادتها احتفال بالحياة وإيمان بعودتها الحتمية الى طبيعتها وان اختتمت بمقتل جارها الجامعي، والتنكيل بزميلته والخوف من الموت مشوهة لا يتعرف إليها أحد. تتناول هناء حسن غالب في"وهربت الألوان"وفاة فنان بالسرطان وفجيعة زوجته التي تستمر في حياتها لإعالة بناتها الثلاث، وتعود الى الجامعة لدراسة الإنكليزية. أسماء محمد مصطفى تميل الى الصناعة في"قبلة قبل الموت"التي تروي زواج حبيبين وإنجابهما طفلة مشلولة تأمل والدتها في موتها باكراً خلافاً لرغبة الأهل في العمر الطويل لأولادهم. ويشكل الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي خلفية لخطف صحافي في"وللموت لون وطعم ورائحة"لنرمين المفتي. تمتنع زوجته عن غسل كوب الشاي الصغير الذي استعمله قبيل خطفه حتى بعد 12 سنة على خطفه. يكتب حسن العاني في"ملقم ومقبرة وحلم كبير"عن خسارة شباب يعرفهم ويشعر بالذنب لپ"تورطه"في فعل خير عادي خلال السلم حولته بشاعات الحرب تواطؤاً في جريمة. شجع أطوار بهجت وشاباً آخر على امتهان الصحافة ولام نفسه بعد مقتلهما الموجع. تتقلص حياته ويلزم بيته"مثل حريم السلطان"غير أن التكور على النفس لا يحميها، إذ انه يتلقى ظرفاً فيه رصاصة ليعرف انه مستهدف. صباح آرام يسترجع مراراً في"ذكريات يوم كئيب في ربيع مهاجر"امتناع أهل البلدة عن قبول طفلة يؤونها في بيت أحدهم لإنقاذها من أعوان الآغا بعد الهجوم على قريتها. يرفض الجميع استعطاف الوالد القروي خوفاً من الانتقام، ويشعر الراوي بأنه أصغر من حجمه بمليون مرة كلما تذكر. يظهر الاشمئزاز من تفوق غريزة الحياة على الوجه الإنساني في"حطام للذكرى"التي يأكل الجنود فيها بشراهة قرب جثتي صديقين. يعرف الراوي انه فقد إنسانيته عندما يعجز عن البكاء في جنازة ابن عمه، على انه لا يلبث أن يتقيأ عندما يشاهد أشلاء صديق ويتأمل في"حيوانيته". يذهل أحمد خلف في"ترنيمة الإله والذهاب الى أقصى الخراب"من الانهيار الثقافي عند سرقة المتحف وحرق المكتبة الوطنية في بغداد التي ساهمت في بناء الحضارة والتمدن، وإذا بها اليوم ضحية"كل ما هو متوحش ولا إنساني غريب عنها". في"ذاكرة مثل طريق الموت تكتظ بالجثث وتشهد للحياة"لعماد كاظم حسين يكتشف ربان سفينة ان الجثة الطافية التي أمر بدفنها في قبر ضحل على رصيف المرفأ تعود الى ابن الموظف الذي يسلمه راتبه. في"متاهة الجندي: داخل الشاشة خارج الشاشة"يحكي محمد سهيل أحمد مأساة إلغاء الحياة العادية. يهرب مجند من الجيش مراراً ويختبئ في دار السينما ثم يختفي. الفتاة التي التقاها في الحافلة وعشق يديها أولاً تنتظره سنوات الى أن يدهمها العمر فترضى بالزواج من ابن عمها في تنازل يفرضه المجتمع التقليدي. يدين تيلي أمين المواجهة المزيفة بين هويتين متصالحتين فردياً في"رحلة الى المجهول"التي تروي تشرد الأكراد الطويل في 1991، وتصرخ ضمناً:"انظروا ما فعله بنا ذلك الرجل". يهجر مليون كردي بيوتهم هرباً من النظام، فتضع أمهات مواليدهن على الطريق أثناء القصف، ويتوسلن من استطاع الحصول على خيمة القبول بالرضّع داخلها على أن يبقين هن في الخارج. في لحظة التباس الوطن والنظام يرمي الراوي الوثائق والشهادات الدراسية رفضاً لدولة تطارده حتى عبر الجبال، وهو في طريقه الى إيران فتركيا. يبقى العراق وطنه وإذ يعود يجده نهب للمرة الرابعة، واقتلعت أبوابه ونوافذه دلالة على فقده حرمته وتحوله مشاعاً. التركماني طورهان كتانة اكتشف اختلافه المرفوض في الثانية من عمره عندما جاء مسلحون لقتل والده الضابط. في المدرسة تتجاهل الكتب التركمان، ويغرزه زميل بقلم حاد في ظهره:"تركماني وتطلع الأول علينا". لا ازدواج لديه في عراقيته وتركمانيته، على ان التمسك بهما معاً يشعره بأنه ممسك بالجمر.