الكتاب: "صراخ النوراس" المؤلف: مهدي عيسى الصقر الناشر: دار الاداب - بيروت 1997 لا تكاد نقطة التماس مع الحرب تبدو في هذه الرواية حتى تختفي. وقد يجد القارئ نفسه مدفوعاً الى التساؤل حول الضرورة الموضوعية أو الفنية التي جعلت الكاتب يعزو عجز والد البطل الى اصابته في الحرب ثم أسره وما ترتب على ذلك من وضع جسدي ونفسي بالغ الاعاقة، يكشف عن مستورٍ في العلاقات الاسرية ويوصل الى موت مأسوي مزدوج ملتبس لم يتم التأكد من جوانبه الجنائية، بل وحتى الوقائعية. فما الذي كان سيتغير لو ان الرجل المعطوب كان قد أصيب في حادث سيارة مثلاً، ذلك ان الحدث ظل طيلة زمن السرد ذا خصوصية اسرية لم تتسع ابداً الى الاجتماعي المحيط، بل على العكس عمدت الى التغلغل باتجاه النفسي - الذاتي للبطل، حامل وزر الثأر للأب المعذور بكرامته ثم بحياته. لعل الكاتب أراد ان يقول بأن لا شيء يمكن ان يكون قد حدث مما تحمله ذاكرة العراقي الا وله علاقة سببية بالحرب. في الواقع، فان اجتماع رجل معوّق عائد من الأسر وزوجته وأخيه في جو محمل بالالغاز والوساوس، أوحى اليّ بأن الأمر يتعلق باحدى المشكلات الاجتماعية التي عانت منها أسر المفقودين الذين لا يُعلن عن وجودهم كأسرى فيحق لزوجاتهم ان يعتبرن أرامل فيتزوجن مجدداً، ثم لا يلبثن بعد عودة ازواجهن ان يصبحن واياهم أبطال مآسِ انسانية موجعة. غير ان الكاتب ذهب بعيداً عن هذا الاحتمال، حيث بدا بعد صفحات معدودة منهمكاً في الكشف عن مأساة انسانية مختلفة تماماً تبدو الحرب "بريئة!" من نسج خيوطها، الا بالقدر الذي لعبته في ابعاد الزوج عن شابين يافعين الزوجة وشقيق زوجها حيث صار البيت مرتعاً لاستيقاظ الغرائز التي لعبت بمصائر الجميع واوصلتهم الى قلب المأساة. وسرعان ما اتضحت حقائق أشدّ هولاً تعلقت بنسب الصبي - بطل الرواية، وهو أمر ظل غائباً عن الأب الذي رحل عن الحياة وهو موقن من ان الولد ابنه. والغريب ان الأمر ظل غائباً حتى عن الصبي، الشاب في ما بعد الذي لم يدرك الاشارات المتواترة التي ظلت توميء بحقيقة انه في الواقع ابن من كان يظن بانه عمه. وحتى بعد ان قام البطل بقتل عمه في النهاية ثأراً لأبيه فانه لم يفهم مغزى صراخ امه الملتاع: "أتدري ماذا فعلت ايها المجنون"! في الواقع ان الاشارات حول نسب البطل ظلت تتواتر منذ كان في الثالثة عشرة حين كان يرافق أباه المعطوب الى صيد السمك في البحيرة المجاورة. لكن الاستقطاب العنيف الذي كان يُحسه عداء بين ابيه من ناحية وعمه وأمه من ناحية اخرى كان يدفعه باتجاه الأب، حتى انه كره عمه ورفض كل محاولاته للتقرب منه، بل وشملت كراهيته امه ايضاً على رغم محاولاتها المستميتة للدفاع عن نفسها ضد ما كانت تصفه بانه ظلم لها وهواجس زوجها المريضة بشأنها. على صعيد بنائي يعتمد الكاتب موقع البطل الراوي في زمن تال لذروات الاحداث، أو لذروتي الحدث المتمثلتين بموت الاب الذي يُسجل انتحاراً، لكنه يدرك انه قتل متعمد. وموت العم بالطريقة نفسها والمكان نفسه بعد أحد عشر عاماً وهو موت يخطط له البطل وينفذه نسخة طبق الأصل عن موت الأب ويسجل هو الآخر قضاءً وقدراً. ومن موقعه في الزمن التالي للاحداث يبدأ البطل بسرد الوقائع التي بدأت تتكشف له بعد عام من عودة ابيه من الاسر وهو معوّق الجسم ومدمر النفس. يتذكر البطل قول أمه: "لقد اعطبوا له عموده الفقري عندما كان يحارب، لهذا تراه يا ولدي اذا مشي يتأرجح مثل نبتة في وجه الريح... وافقدوه عقله في قفص الأسر... ومن يومها وهو يهذي ويبتدع أناساً يتمثلهم واقفين أو جالسين أمامه، فلا تصغ اليه اذا كلمك علي، فهو ليس في كامل وعيه، رجل كثير الظنون يتوهم اشياء شنيعة لا أساس لها، محض تصورات حمقاء يفرزها عقله المختل". لا يعتمد الكاتب اذن بناء الزمن المتصاعد بالاحداث باتجاه الذروة الدرامية، ولا المجتمع من الاطراف نحو البؤرة، بل يعتمد البناء الاستدراكي بغض النظر عن موقع الحدث في الزمن الذي هو في واقعه زمن نفسي. وصحيح ان الرواية تنتهي بمشهد درامي عنيف حيث يدفع البطل عمه المخمور الى مياه البحيرة، الا ان المشهد لم يكن مفاجئاً، بل سبق الاعلان عن حدثه اكثر من مرة في فصول سابقة. فما الذي اراد الكاتب انجازه في الواقع: طرح الاسئلة حول رابطة الدم ومعنى الابوة؟ فها هو البطل يتعلق بذكرى وحب أبيه حتى حدود ارتكاب جريمة قتل عمه على رغم ان شكوكه حول ضلوع عمه في قتل مزعوم لأبيه كان مجرد هواجس فتىً في الثالثة عشرة ولم يقم عليها دليل سوى الاسشارات عن علاقة محرمة بين العم والأم تأكدت باعلان زواجهما بعد موت الأب بشهور. صراع مراهق يتخلص من عقدة أو ريب تحت وطأة ظروف شديدة القسوة والتجريح. أم على النقيض من ذلك تماماً حيث قتل الأب الحقيقي في محاولة مؤسية للاحتفاظ بالأم خالصة للصورة الامومية الطقسية... يتساءل البطل وهو في حمأة حقده على عمه: "أمك تشاركه آثامه، فلماذا لا تحقد عليها هي ايضاً"؟ الحبكة البوليسية النفسية حول أوضاع ووقائع لا يتم الكشف عنها وتظل حتى النهاية معلقة في فضاء من الغموض والاحتمالات: هل مات الأب قتلاً على يد أخيه الذي يقرر حل معضلة ازدواج العلاقات داخل الأسرة؟ وهل الصبي هو ابن أبيه، أم ابن الآخر؟ وهل العلاقة المحرمة بين الام وشقيق زوجها حقيقية أم هواجس الزوج المعطوب أورثها ابنه المراهق وهو يستولي على عاطفته نكاية بزوجته وأخيه؟ بعد أحد عشر عاماً من غرق الاب، والبطل قد تزوج وأنجب، يأتيه من يقول له ان قبعة أبيه القشية "وكان يتمسك بارتدائها ليلاً ونهاراً" ما تزال تطفو على سطح البحيرة، فيعتبر ذلك نداءً من ابيه لانجاز الثأر. فيخطط لرحلة سياحية الى المكان الذي شهد غرق الأب، وهنا تقع الرواية في مبالغات ميلودرامية تبدأ من قصة القبعة التي يتبين انها حقيقة، وان القبعة تطفو بالفعل في مكان غرق الأب قبل أحد عشر عاماً، والأدهى من ذلك انها تهبط الى اعماق البحيرة لحظة ان يرمي البطل بعمه الى مياهها ويغرقه! بالاضافة الى تفاصيل غير ضرورية من نوع مصادفة استئجارهم البيت نفسه الذي شهد وقائع الماضي... الخ! يستخدم الكاتب الهوامش ضمن النص لاستدراك اختلاف الزمن، أو نبرة الخطاب أو الوضع النفسي، أو لمجرد شرح ملابسات وتوضيح وقائع محددة. وقد جرّب عدد من الكتاب في السبعينات خصوصاً مثل هذا البناء للفصل بين مستويين من السرد، سواء في ما يتعلق بأزمات الحدث الروائي، أو اختلاف وجهات النظر باختلاف الرواة أو باختلاف المستوى النفسي لرؤية الحدث... غير ان تلك التجارب عمدت الى تقسيم النص بين متنٍ وهامش، ويبدو ان الكاتب ادرك تأثير هذا البناء في القراءة، فعمد الى نوع من الفصل الأقل حدة عن طريق استخدام الاقواس. غير ان اغلب "المقوسات" لم تكن تأتي دائماً بخطاب أو سرد وقائعي أو رؤية مغايرة، خصوصاً ان الرواية العربية الحديثة انجزت الكثير على طريق مفارقة السرد الوقائعي والتاريخي التقليدي للاحداث والرؤية النفسية الى البطل الراوي عن طريق التجوال في الزمن من موقع يقع خارج الاحداث المكتملة وقائعياً أو نفسياً، وهذا ما فعله الكاتب بالفعل في كتابته لروايته هذه. ولكن، ونتيجة لاقتراب البطل المخطط له باحكام من عمه بقصد تطمينه وجره الى لحظة الانتقام، يوشك في وقت ما ان يحبه او ان يستجيب لعاطفته الدافقة. في الواقع يبدأ البطل باكتشاف جوانب ايجابية لشخصية عمه، فيهرع الى ذكرى ابيه يستمد منها الحقد والكراهية اللازمتين للانتقام، فهو في الواقع قد تحول الى آلة مشحونة تتهيأ كل تلك السنين للقيام بعمل وحيد: القتل واخذ الثأر. يطغى صوت البطل على خطاب الرواية، وتقمح الاصوات الاخرى التي تحاول الايحاء والايماء الى حقائق جوهرية من مثل نسبة الصبي الى ابيه الطبيعي، الأمر الذي انتهى بالرواية الى ان تصبح صوت "هواجس" بطل مضطرب الشخصية ومن قبله رجل معطوب الجسد والروح بفعل الحرب والأسر. فهل أراد الكاتب ان يقول في النهاية ان هذا هو ما تنتجه الحروب، وما تفعله بالبشر الذين تمتصهم من حياتهم وتدور بهم في مداراتها الجارحة المجنونة، مدارات الموت، موت الاجساد وموت الارواح، موت الاموات وموت الاحياء؟