أطلّ ريمون جبارة مطلع السبعينات مسرحياً طليعياً، جريئاً، جديد الطروحات، ساخراً، مكسِّراً قواعد المسرح التقليدي، على خلفية مرارة عبث أسود، مسكون بهواجس الإنسان في حريته المكلومة والأزمات الوجودية. اضافة قمع المؤسسات والخوف والوحدة. وعنده: حضارة خوفو أكثر"إنسانية"من صواريخ كروز، وشرائع حمورابي أشدّ عدالة ورحمة من قرارات المجتمع الدولي! يعرّف عن نفسه:"أنا سوريالي في تكويني. يوم بدأت، لم أكن أعرف شيئاً عن المسرح العالمي. كتبت كما أحسست. الأمّية تنفع أحياناً! أعتقد بأن المسرح الطليعي يأتي من المبتدئين، والخطر يأتي من النجاح لا من الفشل! المهم ان ننسى مع كل عمل جديد نجاحاتنا، حتى لا نصير أسرى لها، ففي ذلك كل الإعاقة!...". ريمون جبارة من الوجوه الطليعية في المسرح اللبناني الحديث. ممثل وكاتب ومخرج. بدأ ممثلاً في فرقة بعلبك التي أسسها المخرج منير أبو دبس بداية الستينات، وضمت يومها الرعيل المسرحي الحديث: انطوان كرباج، أنطوان ولطيفة ملتقى، رضى خوري، تيودورا الراسي، عبدالله خير الله... وعبر منير أبو دبس تعرَّف جبارة والرعيل الى التقنيات المسرحية في أوروبا، واطلع على مسرح ستانسلافسكي وعالمه... في مسرحيته"لتمت ديسدمونا"عام 1970. يقول ريمون جبارة:"سنبني بيوتنا بلا أبواب ولا حواجز، ولا خوف. وبلا خوف سيولد أولادنا ويكبرون، ولأنهم لا يخافون، سينتصرون على كل شيء، وعلى الجوع والطاعون... كابوس الإنسان في النهاية هو الخوف لا الموت!!!". يكاد لا يخلو عمل مسرحي لجبارة من هواجس الخوف والوحدة والتوق الى الحرية، وان اتكأ كلُّ عمل على مناخ سياسي أو اجتماعي أو حدث كبير. "لتمت ديسدمونا"مسرحية يعتبرها من أهم أعماله. كتبها تحت ضغط النكسة الحزيرانية عام 1967 التي هزَّت المجتمع العربي والضمير الشعبي. وديسدمونا كما يقول:"ضحية غبية، تشبه كل الضحايا الغبية من المحيط الى الخليج...". "تحت رعاية زكور"عام 1971، كتبت غداة رحيل جمال عبدالناصر الذي ضعضع الشارع العربي."دكر النحل"أو"انشودة الانكسار"جاءت في غمرة الحروب اللبنانية، من وحي حكاية ضابط متقاعد يعيش وحيداً ويرقّي نفسه بنفسه، الى أن يصير جنرالاً وحده! تيمة الوحدة والخوف بانتظار الموت. وتجيء مسرحية"شربل"، في زمن القتل المجاني والذبح على الهوية، رد فعل وصرخة رفض ضد همجية الحرب والمحاربين والعودة الى القيم والروح، والهروب من الأرض الى سكينة السماء. "صانع الأحلام"، أصلاً دون كيشوت، لسرفانتس، في إعادة اقتباس لمسرحية"رجل المانشا"للكاتب الأميركي ديل واسرمان، مسرحية تلخص مسار ريمون جبارة على الخشبة. كتب العمل في زمن الخطف والاعتقال ومصادرة الحريات 1985... صانع الأحلام: نشيد توق الى الحرية وتمجيد للكرامة ولحضور المرأة في ظلمة الحياة. حازت جائزة الإبداع في أيام قرطاج المسرحية 1985. "من قطف زهرة الخريف"قراءة ذاتية جداً، جاءت تحت وطأة المرض وأهوال العالم، في إدانة ساخرة، مُرَّة، حزينة لحرب لبنان وأدواتها... أما مسرحية جبارة"بيكنيك على خطوط التماس"، فهي تقاسيم إنسانية، وتهويم على متراس، ذات يوم في حرب لبنان، وإدانة لجيل شكّل أداة الجريمة وصار وقودها، والعمل استحضار مشهدي لموقف حاد، من واضعي سيناريوات مصائر الشعوب في مطابخ القرار... هنا حوار مع ريمون جبارة: كنت تطل علينا باستمرار بعمل جديد. لماذا هذا الصمت؟ - في مسرحيتي"محاكمة يسوع"... يقول يوضاس: يهوذا الاسخريوطي:"عندما أرى كذّابين يصفقون تصاب يداي بالشلل!!"الحقيقة أشعر بتفاهة هذا الزمن، لست متحمساً! لكنك كتبت وأخرجت أعمالاً مهمة جداً ورائدة في ظروف أكثر قسوة! زمن الحروب اللبنانية. - صحيح. لكنني أذكّرك بأن"صانع الأحلام"حصدت جوائز في بغداد وفي مهرجان قرطاج في تونس، وعندما عدت الى لبنان وقدمتها على مسرح كازينو لبنان، أذكر جيداً، ذات ليلة كانت المقاعد خالية تماماًّ هل تتصور؟ أعتقد بأن الإعلام المرئي عوّد الجمهور على مسلسلات ? إجمالاً ? بلا مستوى فني! صار مقياس الذوق والقبول بالنسبة الى الجمهور الواسع، هو ما يشاهده على الشاشة الصغيرة! من حين الى آخر أشاهد أعمالاً على خشبات بيروت راقية جداً، لكن الجمهور قليل العدد! تقول عن المسرح إنه هواية. كيف"جاءك"المسرح؟ - في الثامنة عشرة من عمري تقدمت الى امتحانات المدرسة الحربية على أمل أن أصير ضابطاً"تكلل النجوم كتفيَّ"، لكنني رسبت في الامتحان والحمد لله، فقلت: أتوجه الى البرازيل علّني أحرز ثروة! لكنني عدت في الباخرة نفسها الى بيروت! لم أتحمل البعد عن قريتي"قرنة شهوان"! كان المسرح في بالي... بدأت في مسرح الضيعة. كان كاتب المسرح والمخرج مختار الضيعة. وأذكر أول دور لعبته في"سقوط غرناطة"لفوزي المعلوف... قبل ذلك وكنت لا أزال مراهقاً. عُهد إليّ بدور صغير جداً، جُملة واحدة أردّ بها على كلام لممثل آخر... وكنا نتمرّن على أدوارنا طوال فصل الصيف، وكنت أكنس المسرح وأنظفه كل يوم... في ليلة العرض اليتيمة، حين تقدّم زميلي الممثل على الخشبة ليؤدي نسي النص المطلوب، فطار دوري... وطارت أحلام الصيف المسرحي!!! مسرحك يكتنفه ? إجمالاً ? مناخ سوريالي عبثي، من أين هذا المناخ؟ - تكويني هكذا! لبنان أيضاً في بعض ملامحه هكذا أيضاً. تصوّر، ذات مرة كنت أمرّ بالقرب من محطة بنزين، شاهدت لافتة مكتوباً عليها:"يوجد عندنا بنزين!"هل كانت تبيع قبل يوم"فلافل"مثلاً؟!! الى أي مدى تعتبر أن المسرح اللبناني في أشد لحظاته، التاريخية تألقاً، حرّك ركود المسرح العربي ? ونتكلم على فترة ستينات القرن الماضي -؟ - تألّق المسرح اللبناني منتصف القرن الماضي حصل ضمن فورة ثقافية فنية شاملة، في الشعر والرواية والفنون التشكيلية وحركة النشر بفضل مناخ حرية التعبير الذي كان سائداً يومذاك... أذكر الكثيرين من أصدقائنا المبدعين والمفكرين العرب، جاؤوا الى بيروت للنشر وللعرض. هذا الاحتكاك، والتواصل والتبادل، أدى الى تحريك حقيقي لمقاربة المسرح، مع ما أضافته الى المسرح اللبناني الاطلاعات على المسرح العالمي الحديث. غير ان المناخ السياسي السائد في العالم العربي لم يساعد كثيراً. فالمسرح هو أحد أهم أشكال التعبير ومن مستلزماته الأساسية: الحرية. بالعودة الى تلك المرحلة الذهبية من مسار المسرح اللبناني ? وأنت كنت واحداً من وجوهها، أية ذاكرة عن ذلك المشهد الثقافي؟ - حافظت تلك المرحلة، على زخمها والألق حتى اندلاع الحرب في عام 1975. غير انني لم أتوقف! أكثرية أعمالي المسرحية كتبتها وأخرجتها في زمن الحرب "شربل"1977،"دكر النحل"1982،"قندلفت يصعد الى السماء"1983،"محاكمة يسوع"1984،"صانع الأحلام"1985. في إحدى مقالاتك تقول:"أنا اليوم كالمقامر الخاسر"بمعنى الهارب الى أمام. ممن تهرب؟ والى أين؟ - لست هارباً الى أي مكان. لست مقاوماً ولست هارباً. من يقول لي أطال الله بعمرك أحسه يتمنى لي الأذى. لأنني أعتبر الحياة عقاباً! من قال لك ان الموت حالة أفضل من الحياة؟ - اعتقد بأن هذه الدنيا هي المكان الأسوأ! تضمن ذلك؟ - حتماً! هذه السخرية المرّة ? السوداء، هل ساءلت نفسك من أين جاءتك؟ - من تكويني النفسي والجسدي ربما. في طفولتي تناولت الكثير من حبوب دواء الكينا لمكافحة الملاريا وهو دواء مذاقه شديد المرورة. اعتقد بأنها زادت نسبة نكهة المرارة في كروموزوماتي!!! ذات مرة ترشحت لرئاسة الجمهورية عبر مقال منشور في جريدة"النهار". ثم انسحبت. هل تذكر؟ - صحيح. ترشحت للرئاسة زمن الوجود السوري في لبنان ثم تذكرت أنني لا أستطيع الركوع على ركبتيّ بسبب الحادث الصحي فانتبهت الى أنني لا أستوفي بعض مؤهلات الترشيح، فعدلت! في أكثر من مقال تمنيت لو كنت ولدت في العصر الحجري. لماذا؟ - هنيئاً لمن عاش في العصر الحجري! كان الإنسان أكثر حرية وأكثر"حيوانية"بالمعنى الإيجابي. يجوع فيأكل طريدة أو عشبة! وإذا خاف من الذئب يدخل الى امان الكهف ويشعل على بابه ناراً. في القرن الواحد والعشرين أصبح الذئب في عروقه، كيف وأين يشعل النار؟ أُغرمتَ بالتمثيل قبل مرحلة الإخراج, هل ان الأدوار التي أديتها، حققت عبرها"رغباتٍ"وهمية ما كانت لتحصل في الواقع؟ - التمثيل هو أهم نشوة على المسرح! عرفت بعد التمثيل متعة الإخراج. التمثيل شيء رائع مدهش! على الخشبة وبسبب الأضواء، رؤية الصالة. كنت اخترع جمهوراً على مزاجي، جمهوراً يغمرني بالمحبة، فأرتاح وأنتشي وأؤدي... وهكذا. كنت"تُزوِّر"بحثاً عن محبة ومحبِّين؟ - كلنا في حاجة الى محبة. حين نفتقد هذه الحاجة تنتهي الحياة. لو قيّض لك أن تكون سعيداً، تملك الصحة والمال والسلطة هل كنت تكتب للمسرح وتمثّل؟ - لا أعتقد. بشكل ما، الإبداعات الفنية بعامة، في بعض أسبابها، ناتجة من عدم الاتفاق مع الآخرين ومع أوضاع الحياة والدنيا. هل أفهم منك ان المسرح هو مصالحة مع عالم غير موجود، متخيّل مثلاً؟ - دعني أسميه حلماً بعالم غير موجود وليس مصالحة. اذا تصالح معه لا بد من ان يهرب منه لاحقاً. هل شكّل المسرح في حياتك جنة مفقودة؟ - في الحقيقة المسرح"مهنة"اتقنتها، لا أعرف أن أعمل شيئاً غيرها. عندي سهولة كبيرة في كتابة وإخراج عمل مسرحي. رفاقي في المسرح يعرفون جيداً، أنني أكتب واخرج عملاً في حوالى شهر من الزمن! لا أستطيع أن أكون نجاراً أو طبّاخاً أو اسقفاً!! في أية أدوار مسرحية أحسست أنك بلغت النشوة الكبرى خلال الأداء؟ - في دور راسكولنيكوف الجريمة والعقاب لدوستويفسكي وفي دور"سعدون"في مسرحية"الزنزلخت"لعصام محفوظ، وفي دور ريتشارد الثالث لشكسبير... كان ذلك في ستينات القرن الماضي! في عام 1848 في تقديمه لمسرحية"البخيل"لموليير قال مارون النقاش ان المسرح مرتبط بغاية أخلاقية تثقيفية وأنه يسهم بحركة إصلاحية؟!! بعد مرور أكثر من قرن ونصف على كلام رائد المسرح العربي، هل توافق على هذا التوصيف لدور المسرح؟ - لا. أنا ضد المسرح صاحب المهمة المباشرة. المسرح ليس مانيفستو حزب. أهمية المسرح أنه يحرّك الضمائر! أنت تكتب مقالاً أسبوعياً في الصحيفة وأحياناً توقّع باسم"عبدالله". ما علاقتك بعبدالله؟ -"عبدالله"هو أنا وأنت. ونحن العرب نعشق الأسماء الموصولة بالجنة: عبدالله: فضل الله، سعد الله، نعمة الله، شكر الله، فتح الله، خير الله... نصر الله والقائمة تطول... والحمد لله!!! ماذا تحضّر اليوم؟ - عندي مسرحية مكتوبة اسمها"عكس السير". يولد"البطل"عجوزاً ثم يعود بالزمن تدريجاً حتى يصير طفلاً!! لو كان الأمر حقيقة لكان رائعاً. تصور ان رحلة الحياة تتجه نحو السعادة والبراءة والفرح، وليس الى الشيخوخة والوحدة والأمراض والأوجاع والموت!!! وعندي عمل آخر"مقتل إن واخواتها"عمل اعتقده أقل صعوبة من الأول وأقرب الى تقبّل الجمهور... ريمون جبارة،"تعرّضت"لتكريمين في الفترة الأخيرة. ماذا يعني لك أن تُكرّم، خصوصاً أنك لا تزال على قيد الحياة"كما اعتقد"؟ - الحمد لله! تحضرني الآن واقعة حصلت قبل سنوات طويلة. اتصل بي أحد كبار المسؤولين في الدولة وأعرب عن رغبة"سامية"بمنحي وساماً رفيعاً من رتبة فارس!! أجبت:"فارس يعني ان ثمة حصاناً. أرجو ان تعطوني الحصان واحفظوا الوسام في أدراجكم!!! وللمناسبة اقترح على الدول أن تصنع الأوسمة من الشوكولا... على الاقل نستطيع أن نأكلها!!! ذات تكريم سئلت عما تتمنى الحصول عليه فأجبت: أريد نعشاً؟ - صحيح. لأنني ان لم"استعمله"، أبيعه!