تشكّل قصة الشاحنة الأردنية المحمّلة بالأغذية التي صادرتها حماس في غزة قبل أيام، لتوزعها بنفسها على سكان القطاع وما تلا تلك الأزمة من حملات إعلامية متبادلة، جزءاً من سياق مأزوم تمر به العلاقة بين الطرفين منذ سنوات، ويسير بخط تصاعدي دون توقف. ففي الوقت نفسه تتم محاكمة عدد من المتهمين الأردنيين على خلفية علاقتهم بحركة حماس ومحاولتهم القيام ب"عمليات إرهابية"داخل الأراضي الأردنية. وتتبدّى المفارقة في أنّ هذا السياق المأزوم يتقاطع بصورة فجّة مع طبيعة العلاقة السابقة، خلال مرحلة الملك حسين، عندما كانت حماس تتمتّع بوجود سياسي وإعلامي معترف به في الأردن، ويحظى قادتها برعايةٍ واهتمام خاص من الدولة، وقد تجلّى ذلك بتوسط الملك الراحل، حسين، لدى السلطات الأميركية لإخراج موسى أبو مرزوق من السجن ومنحه حق الإقامة في الأردن، وكذلك إنقاذ الملك لحياة خالد مشعل عام 1997، بعد محاولة الموساد اغتياله في عمان، وإصرار الملك على أن تُقدّم إسرائيل للأردن العلاج الخاص بالمرض وإطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين زعيم حماس الراحل مقابل الإفراج عن الإسرائيليين اللذين حاولا اغتيال مشعل. ماذا حدث حتى شهدت العلاقة بين الطرفين انقلاباً كاملاً خلال السنوات الأخيرة؟ التحول الكبير في العلاقة كان مع بداية عهد الملك عبد الله الثاني، إذ أبدى اهتماماً خاصاً بالشأن الاقتصادي الداخلي، وقدّم أكثر من رسالة في عدم رغبته بالقيام بدورٍ سياسي في الضفة الغربية، ما أدّى إلى التخفيف من حدة التنافس التاريخي السابق بين الأردن وحركة فتح، على تمثيل الفلسطينيين. ومثّل إخراج قادة حماس من الأردن وإنهاء تواجد الحركة الرسمي، الرسالة الأهم في هذا السياق، إذ كانت السياسة الأردنية تعتبر حماس بمثابة"ورقة"قوة بيدها في مواجهة الرئيس عرفات. في الوقت نفسه كان هنالك قلقٌ واضح لدى الأجهزة الأمنية الأردنية من أنّ يؤدي التساهل مع حركة حماس، ومنحها مجالاً سياسياً وإعلامياً، وتواجد قياداتها السياسية في مكاتب كل من جبهة العمل الإسلامي وجماعة الإخوان، إلى تجذّر الحركة وامتدادها، ليس فقط في فلسطين، بل داخل المجتمع الأردني من أصول فلسطينية الذي تحظى فيه جماعة الإخوان بنفوذ كبير. لم يكن هذا موقف الحكومة الأردنية وحدها، فقد كان الصراع يتصاعد ويبرز داخل جماعة الإخوان نفسها بين تيارين"الأول المقرّب من حركة حماس، ويحظى بدعم مكتبها السياسي، ويتبنى خطاب حماس ومواقفها، فضلاً عن إدارته لاستثمارات الحركة في الأردن ومؤسساتها الإعلامية والبحثية والاقتصادية، والتيار الثاني يتبنى قضية"توطين خطاب الحركة"والحفاظ على المسافة الفاصلة عن حركة حماس، مما أدّى إلى حالة من الاستقطاب التنظيمي الشديد داخل الإخوان إلى اليوم. التطور الثاني حدث مع اكتساح حماس الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، ما أجّج بصورة كبيرة هواجس الحكومة الأردنية، والتيار الأمني تحديداً، من تداعيات هذا الفوز ومن الدور السياسي القادم لحركة حماس، وهو ما لم ينعكس فقط على علاقة الأردن بحماس، بل على سؤال العلاقة الداخلية بين الحكومة وجماعة الإخوان المقرّبة من حركة حماس. يتمثل الهاجس الرئيس للحكومة الأردنية على صعيد الحل النهائي للقضية الفلسطينية"فبينما يراهن الأردن على مسار التسوية السلمية خياراً استراتيجياً وحيداً، ويعتبر ذلك مصلحة حيوية وطنية، تحمي الحقوق والسيادة الأردنية، فإنّ حماس ترفض المسار الحالي من التسوية وتتحالف مع المحور الآخر الإيراني- السوري، إذ يقع اصطفافها الاستراتيجي على الطرف الآخر من موقف ما يسمى ب"معسكر الاعتدال العربي". وعلى الرغم من إدراك الأردن لمدى ضعف الرئيس عباس وتفكك حركة فتح وتمزقها وصعوبة الرهان عليها، إلاّ أنّ إصرار الأردن على دعم عباس والوقوف إلى جانبه، يأتي في سياق الخشية من انهياره وانفلات الأوضاع في الضفة الغربية، وشيوع حالة من الفوضى تؤدي إلى سيطرة التيار الإسلامي، سواء جسدته حركة حماس أو حركات راديكالية أخرى، ما يؤثر في المحصلة على الأمن الوطني الأردني من ناحية، ويؤدي إلى انهيار التسوية ويخلق أعباء استراتيجية أمنية وسياسية واقتصادية على الجانب الأردني. في المقابل"فإنّ قوة حماس وحضورها في الشارع الفلسطيني بات يقلق الحكومة الأردنية من الناحية الداخلية أيضاً. فحماس تمثل امتداداً لتيار الإخوان المسلمين ودوره السياسي، ما دفع بعدد من المسؤولين والسياسيين المقرّبين من الحكومة إلى الخشية من فتح شهية الإخوان للحكم في الأردن، وارتفاع مستوى نظر الجماعة ورفع سقف طموحها السياسي. ولعلّ ما عزز الهواجس الرسمية صدور العديد من تصريحات مسؤولين في الإخوان، على مقربة من حماس، تشير إلى رغبة الجماعة في توسيع مدى مشاركتها السياسية، وهي التصريحات التي اتخذها التيار الأمني واليميني ذريعة أخرى لإعادة هيكلة دور جماعة الإخوان وإضعاف حضورها السياسي والاجتماعي. ويرتبط التخوف السابق بالعصب الحسّاس في المعادلة السياسية الأردنية الداخلية، وهي العلاقة الأردنية- الفلسطينية. إذ تخشى الحكومة الأردنية من نفوذ حماس الكبير في جماعة الإخوان في الأردن، التي تمتد داخل الأردنيين من أصول فلسطينية بصورة كبيرة. ولا يخفي مسؤول أردني رفيع تخوفه من أن يعيد نفوذ حماس"أجواء السبعينات"، أي الصراع بين الجيش الأردني والمنظمات الفدائية الفلسطينية. إذ يقول هذا المسؤول"في الأردن لا مجال لتعدد المرجعيات، فالدولة تمثل الجميع، ومن غير المسموح لأحد خارج الدولة أن يدّعي تمثيل شريحة من الأردنيين". وتخوف المسؤول الأردني ليس بعيداً عن الصحة، إذ أدّى نفوذ حماس أيضاً إلى أزمة داخل"إخوان الأردن"، بخاصة بعد قرار حماس قبل شهور فك الارتباط تنظيمياً عن الإخوان، مع محاولة إبقاء الهيمنة السياسية على الجماعة، من خلال المجموعة المقرّبة من حماس داخل الإخوان. فالفلسطينيون الحاصلون على الجنسية الأردنية يشكلون أكبر تجمع للفلسطينيين خارج فلسطين، فهم مجال حيوي للصراع بين حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، بخاصة خارج الأراضي المحتلة، إذ يرمي المكتب السياسي لحركة حماس بثقله الكبير داخل هذه التجمعات للهيمنة على التنظيم القادم للإخوان المسلمين الفلسطينيين، وهو تنظيم دولي وليس فقط محلياً. إذاً، ثمة أبعاد استراتيجية حيوية إقليمية وداخلية تقع في خلفية الأزمة المتفاقمة بين الحكومة الأردنية وحركة حماس، فيما تشكل الحوادث المختلفة التي تطفو على السطح مجرد تجليّات خارجية لمضمون تلك الأزمة وجوهرها. * كاتب أردني