اقدمت السلطات الأردنية في الأشهر القليلة السابقة على خطوة اعتبرت انعطافة في موقع الأردن في الصراعات المحيطة به، وتمثلت الخطوة بمباشرة عمان تقارباً مع حركة"حماس"ترافق مع انفراجات في العلاقات الأردنية السورية، والأردنية القطرية. وكان للخطوة الأردنية ارتدادات داخلية نُسبت اليها تغييرات شهدتها الإدارة السياسية للمملكة، وانعكاسات على الحركة الإسلامية فيها، لا سيما وان"حماس"التي تعتبر ابناً شرعياً للإخوان المسلمين في الأردن، كبرت وصارت تطمح الى رعاية من ولدت من رحمه. يقول أحد مثقفي الإخوان المسلمين في الأردن"ان التقارب بين الدولة الأردنية وحركة حماس أدى الى تهميش التيار الأردني في حركة الإخوان المسلمين وتصدر التيار الحماسي نسبة الى حركة حماس، وهو أمر اذا ما اضيف الى خطوات سبقته تتمثل بقانون الانتخابات، وما جرى في الانتخابات البلدية والنيابية، فإن ذلك يعني ان ثمة قراراً بالتعاطي مع الحركة الإسلامية بصفتها حركة فلسطينية لا أردنية". تلخص اشارة المثقف الإسلامي هذه بعض ما يجري في الأردن هذه الأيام، وما جره التقارب بين السلطات فيه وبين حركة"حماس"بعد سنوات من القطيعة والتباعد. اذ لا شك ان التقارب سينعكس على مختلف وجوه الأداء السياسي والاجتماعي والأمني في المملكة، وسيعيد ترتيب الأولويات وفقاً لمعطيات مختلفة في دولة لطالما اعتبرت جزءاً من تحالف عربي ودولي لا مكان فيه لحماس. فالتقارب قرار اردني من دون شك، واستجابة حماس له، لا بل اندفاعتها بأتجاهه يؤشر الى اهمية الأردن في طموحات الحركة الفلسطينية، فالمملكة بالنسبة للحركة الفلسطينية ليست ساحة"إسناد"بل امتداد اجتماعي وجغرافي للداخل الفلسطيني. وارتدادات التقارب تمس كل الملفات الداخلية في الأردن كما في الضفة الغربية وقطاع غزة. موجبات التقارب من وجهة النظر الأردنية اصبحت معروفة، واذا كان تعثر عملية السلام في مقدمها وعدم شعور الأردن بأن ثمة استجابة اسرائيلية واميركية لشروط"الاستقلال الفلسطيني"، فإن ما يرشح في عمان من موجبات غير معلنة لهذا التقارب يتمثل في ريبة اردنية مستجدة في حركة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لجهة استبعاده عمان في مفاوضته اسرائيل والمجتمع الدولي حول عدد من الملفات، وابرزها موضوع اللاجئين الفلسطينيين، وهو ما اثار حفيظة الإدارة الأردنية التي اعتبرت ان حركة حماس تشكل ضمانة لمواجهة"الوطن البديل"في حين"لا يبدي محمود عباس حماسة تذكر لحل قضية اللاجئين في الأردن". يقول سياسي اردني:"ان اول ما لفت المسؤولين في عمان عندما زار محمود عباس بيروت أخيراً قوله بأن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان اولوية في برنامج التفاوض مع الأسرائيليين"، ويضيف السياسي الأردني"لم يسبق لنا ان سمعنا منه كلاماً مشابهاً عن اللاجئين في الأردن". انها لازمة السياسة في المملكة الهاشمية، حيث الهوية المتأرجحة بين ضفتي نهر الأردن، وبين توسع الطموحات في مملكة تضم مجتمعي النهر ومن ثم انحسارها في زمن ارتداد الهويات وضمورها. يؤكد اكثر من مصدر في عمان ان التقارب مع"حماس"حاصل ومستمر وإن لابسه بعض الغموض والتكتم، وهو لن يأخذ أشكالاً استعراضية ولن تتخلله خطوات تستبق حصول مؤشرات موازية تسمح بتقدمه، وهو أمر متفق عليه من قبل طرفي التقارب. فزعيم"حماس"خالد مشعل المقيم في دمشق لن يزور عمان قريباً، وكذلك لن تفتتح الحركة الفلسطينية قريباً مراكز لها في الأردن، وخطوات من هذا النوع تبقى مرهونة بتطورات تتعدى العلاقة بين الطرفين. لكن الانفراج تمثل في وقف التضييق على نشاط الحركة في الأردن وفي الإفراج عن ناشطين منها كانوا اعتقلوا لأسباب"أمنية"، ناهيك عن تجديد جوازات سفر لعشرات من قيادي الحركة الذين يحملون الجنسية الأردنية. أما التطور الأهم على هذا الصعيد وهو ما أثار اشكاليات كبيرة فتمثل في تعزيز نفوذ حماس داخل تنظيم الإخوان المسلمين والدفع باتجاه تراجع قيادات شرق اردنية في الجماعة عن استقالات كانوا تقدموا بها من القيادة احتجاجاً على وصول قيادات حماسية الى رأس زعامة الجماعة. وفي حين يشير قيادي في الإخوان المسلمين الى ان التقارب خلف انفراجات شكلية في اوضاع الجماعة في الأردن، يظهر هذا الانفراج غير مرتبط بالموقع الداخلي للاخوان، انما بصفتهم جزءاً من"حماس"، اذ لا مضمون داخلياً لهذا الانفراج خصوصاً لجهة مطلب الأخوان بتعديل قانون الانتخابات مثلاً أو سن تشريعات داخلية تطالب بها الجماعة. الانفراج يتمثل بمستويات امنية وسياسية عامة، وهو بهذا المعنى يشمل الجزء"الحماسي"من الجماعة. اما فيما يتعلق بالجمعية الإسلامية التي تعتبر الذراع المالية والاجتماعية للاخوان المسلمين والتي كانت السلطات الأردنية أعلنت الحجر عليها وعينت ادارة لها، فإن احتمالات فك الحجر عنها سيكون تأثيره بمثابة تعزيز لدور"حماس"بعد ان تولى مقربون منها قيادة الجماعة إثر الانتخابات الأخيرة. تشكل مقولة"الوطن البديل"الهاجس الدائم الذي لا يمكنك ان تزور عمان من دون ان تشعر بمركزيته في الوعي السياسي الأردني. وانطلاقاً من هذه الثابتة يمكن تفسير متغيرات قد لا تشكل امتداداً لانتظاراتك من الإدارة الهاشمية للمملكة. والتقارب بين المملكة وپ"حماس"هو احد هذه المؤشرات. فصحيح ان انطلاقة"حماس"في الساحة الفلسطينية كانت واحدة من"الانعكاسات الأردنية"على الساحة الفلسطينية بحكم ولادة الحركة الفلسطينية من رحم جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وصحيح ايضاً ان ثمة أبوة مضمرة تشعر المملكة بها حيال"حماس"، ايضاً بحكم العلاقة التقليدية بين النظام في الأردن وبين جماعة الاخوان المسلمين، لكن الصحيح ايضاً ان الوقائع باعدت كثيراً بين الأب وابنه بحيث اندرجا في سياقين ومسارين لطالما رسم الصراع بينهما شكل الانقسامات في المنطقة كلها، الى ان شكلت مخاوف"الوطن البديل"في ظل تعثر عملية السلام مناسبة للقاء الأب بالإبن، لكنه يبقى لقاء مبنياً على تقارب في المصالح، اما الجانب الشعوري منه فلا يبدو ان له حظاً كبيراً في ظل احتمالات انقلاب الأوضاع مجدداً. يعدد القيادي في الاخوان المسلمين في الأردن ما يعتقد انه الأسباب الفعلية لخطوة المملكة تجاه"حماس"بقوله ان قوة محمود عباس مستمدة من الاعتراف العربي والدولي به، وهو ما يجعله في موقع يمكنه من الانخراط في مشاريع قد تكون على حساب الأردن ولا تراعي مطلب حق العودة وغيرها من شروط إقامة الدولة الفلسطينية. واذا ما اضفنا الى هذه المخاوف والكلام للقيادي الاخواني تبخر وعود الإدارة الأميركية بدولة فلسطينية وانعدام انجازات محمود عباس وصعود اليمين الإسرائيلي، فنصل عندها الى نتيجة واحدة:..."حماس"هي الحل. لكن وجهة النظر الأردنية هذه تضمر بدورها مجازفة من نوع آخر، فإذا كانت الريبة من سياسات محمود عباس وحركة"فتح"المحرك المستجد للمخاوف الأردنية من فكرة"الوطن البديل"، فماذا عن حركة"حماس"؟ فپ"فتح"تنظيم"وطني"فلسطيني لا تخرج دعاويه عن تطلب إقامة الدولة الفلسطينية، وتبدو فكرة"الوطن البديل"بمثابة ضربة قاضية له، في حين يشكل الامتداد الأردني لحركة"حماس"، أي جماعة الاخوان المسلمين، احتمالاً اكبر لتأردن"حماس"ولإضمارها طموحات داخل المملكة. واذا ما اضفنا الى هذا الافتراض حقيقة تصدع المضمون الأردني للإخوان بفعل التقارب بين الدولة وبين حماس وتصدر الجناح الحماسي قيادة الإخوان، فعندها ستتعزز هذه المخاوف وتتقدم على ما اثارته خطوات محمود عباس من ريبة في الأوساط الحاكمة في الأردن. عن هذه المخاوف يجيب مسؤول اردني ان الريبة بالموقع المستجد لعباس لا تشمل حركة"فتح"انما ما يمثله الموقع الذي نقل اليه عباس القضية الفلسطينية، وهي ليست نهائية وانما تكتيكية ومرتبطة بوقائع عملية التفاوض على موضوع اللاجئين في شكل خاص. وفي الأردن دائماً ما يرتفع منسوب المخاوف من حل للقضية الفلسطينية على حساب المملكة في المراحل الانتقالية. انها اقرب الى حرب وقائية على ابواب تسلم الإدارة الأميركية الجديدة ملفات الشرق الأوسط من الإدارة السابقة، وعلى ابواب انتخابات اسرائيلية من المحتمل ان تأتي باليمين الإسرائيلي صاحب نظرية"البديل الأردني"، وعلى ابواب استحقاقات ما زالت غامضة ربما مثلت الأزمة الاقتصادية العالمية احد وجوهها، لا سيما انها قد تترافق مع احتمالات وصول شتات فلسطيني من الخليج الى عمان. لكن للحرب الوقائية ارتداداتها الداخلية، ليس اقلها ما اشار اليه المثقف الإخواني لجهة حصول التقارب مع"حماس"على حساب النزعة الأردنية في جماعة الاخوان المسلمين في المملكة، فالإخوان مكون رئيسي في التركيبة الأردنية، وربما كانوا المكون الوحيد الى جانب المكون الهاشمي، ومشاركة"حماس"في هذا المكون هي اقرب الى مجازفة بأحد عناصر الهوية الوطنية لجماعة الاخوان. اما الارتدادات الأخرى فيتمثل بعضها في اختيار شريك فلسطيني في عملية السلام تبعث شراكته على ريبة تفوق الريبة من"فتح"اذا ما نظرنا الى الموقع الإقليمي لحماس، ولقدرة سورية وايران على التأثير الكبير عليه. لا شك ان المؤسسة الحاكمة في الأردن تملك قدرة التحرك والمناورة اكثر من أي طرف آخر، واستدراج"حماس"الى الداخل الأردني، وان لم يفض الى فك ارتباطها بالمحور السوري - الإيراني، فهو سيفضي الى تعزيز اجندتها الفلسطينية. هذا استنتاج بعض الجهات الحاكمة في الأردن، وهو صحيح الى حد ما، لكنه لا يلغي تساؤلات حول مدى رغبة الحركة الإسلامية الفلسطينية في سلام مبني على مقررات مؤتمر مدريد، ناهيك عن الطموحات الحمساوية في جماعة الإخوان المسلمين في الأردن وهو ما كشفت عنه الانتخابات الأخيرة داخل الجماعة والتي اوصلت قيادات قريبة من"حماس"الى مراكز القرار، في حين كانت التوجهات في السابق تتمثل في المحافظة على وجوه شرق اردنية في هذه القيادة، او على الأقل تقاسم الزعامة بين الاخوان وحزب جبهة العمل الإسلامي، بحيث تتولى شخصية شرق اردنية قيادة الإخوان، وشخصية من اصول فلسطينية قيادة الحزب. ومن الصعب الاعتقاد أن السلطات الأردنية غافلة عن وجوه ارتدادات تقاربها مع"حماس"على الساحة الداخلية، وهي اذ تستمر في تقاربها هذا، تدرك عواقب ذلك وربما تتحسب له، ولكن يبدو ان المخاوف الناجمة عن انسداد افق السلام ومندرجاته لجهة إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وحل موضوع اللاجئين بما يكفل استقرار الأردن وتوازنه، كل هذا يدفع باتجاه حلول"دفاعية"لها اثمانها الداخلية. واذا سلمنا بحق الأردن في اختيار وسائل مناعة حيال انسداد افق التسوية، فهذا لا يلغي الحق في التساؤل وفي تسجيل ملاحظات عابرة من عمان في ضوء تقاربها مع حماس: - إحالة معضلة الهوية الأردنية الفلسطينية الى معضلة سياسية، بحيث نجم عن التقارب مع"حماس"تخفيف شكلي لمضمونها الوطني وتحويل طاقتها باتجاه حركة"فتح". ومثل هذا حلاً لمن كابدوا في ظل هويتهم الأردنية مرارة الفصام بين فلسطينية الاخوان واردنية الهوية. - تذمر واضح في اوساط شرق اردنية في جماعة الاخوان المسلمين من ان الحل مع"حماس"جاء على حسابهم، وان ما لم تدفعه الحكومة لهم دفعته طائعة لحماس، بحيث تعاظم نفوذ الأخيرة داخل الجماعة وصار من الصعب مقاومته. - ارتفاع وتيرة الاتهامات على نحو لم تشهده المملكة سابقاً خصوصاً في ما يتعلق بملفات داخلية مرتبطة بالانعطافة الأردنية، كأن يُتهم مسؤول سابق من قبل عدد من المتابعين والمهتمين بأنه"عميل"لمحمود عباس، وانه كان يعمل لتوطين الفلسطينيين في الأردن. - ارتفاع في منسوب الحسابات الناجمة عن احتمالات التوطين وما يجره على الهوية الأردنية، وضمور دعاوى هضم الأردنيين من اصل فلسطيني في هوية اردنية جامعة، وذلك برضا متبادل بين طرفي هذه الهوية ومكونيها. نشر في العدد: 16689 ت.م: 13-12-2008 ص: 21 ط: الرياض