في "رخام الماء" احتفال رعوي بالطبيعة. ويظهر لي جوزف حرب في هذه القصائد الأخيرة عن دار رياض الريّس في بيروت - 2007، بهيئة لاجئ شعري الى العناصر: المطر، الريح، الماء، الزهور، الشجرة، الشمس، القمر، لا كعابد لها، بل كمغتسل فيها، كغاسل لوحشته فيها، حيث تدخل معه وحشتُه الى حيث يدخل، لا بشكل صاعق وتراجيدي، لكن بلطف، وبمرح أحياناً هو مرح ما يصبح فيه المفارق مألوفاً، إلا أنه حين ينسحب، تنسحب معه وحشته: حال هو أقل من الصوفية أكثر من الرومانسية، ولو كان لي أن اسأل نفسي لماذا؟ لوجدتني داخلاً في الأصول السرية، والمسارب الخفية لشعرية الشاعر، تلك التي هي في أصل الجينات الشعرية التي تملي على لاوعيه، ما تمليه من مكوّنات القصيدة، تلك"الجينات"الآمرة التي غالباً ما تتدخل في أي نص شعري يكتبه الشاعر، وتقود أصابعه من حيث تقود كلماته من حيث تقود أصول الكلمات ومنابتها، الى عنصر ما من عناصر الطبيعة: ريح، شجرة، ماء، ليل، قمر، يتدخل ويتسيد، ويغدو النواة لأية فكرة أو معنى مهما كانت الفكرة أو المعنى على بعد أو مسافة أو مفارقة مع العناصر. ثمة إذن تداعيات تكاد تكون لاواعية، تكاد تكون آلية، وتكاد تكون آمرة، في هذا اللجوء الشعري للشاعر الى العناصر، يتكلم على النساء فإذا بالأشجار بين يديه، يتكلم على الموت فإذا به يصوّر انفصال الأوراق الصفر عن الأغصان في الخريف، يتكلم على الشمس وحولها الكواكب وإذا بالنص يقودنا الى القراءة قصيدة مخطوطة:".. الشمس مخطوطة نار/ فتحت في قبّة السماء/ وحولها كواكب/ آفاقها قُرّاء/ وكل أفق يقرأ الشمس كما يشاء"، يتكلم على المدرسة في قصيدة"أستاذي"فإذا أول من أرضعته حليبها غيمة بيضاء، وأول من غطّاه تشرين بغطاء ملموم من رقع الشمس، وأول امرأة أحبها تدعى"مسا".. وسريره قصب، ولصوص الطير خَدَمه وأعوانه تسرق الخيطان والصوف والحشيش لتصنع فراشه. يقول:"أدخلتني الأرض دير الوعر/ لم أعجب بصفّ مثل صفّ السنديان/ كان أستاذاً بتاريخ الشتاء"وهذا الاستاذ العالي الصاعد نحو الجبال، ينام ثمة، مع العقبان والينابيع ورعيان الغمام... ركيزة"الشعرية"عند جوزف ركيزة باستورالية. لا هي صحراوية ولا هي مدينية. لهذه الناحية هو شاعر من شعراء المكان اللبناني كجبل وثلج، ريح ومطر وبحر وشجر ووعر سنديان. لا نقول إننا كأصحاب مخيلة... شعراء أو روائيين لا نستطيع ابتكار بحر وشجر وثلوج ورياح جبلية، ونحن في عزّ الصحراء... لا حدود للمخيلة. هذا صحيح، والصحيح أيضاً سلطان المكان واقترانه بالمخيلة... هذا بالضبط هو أساس عبقرية ابراهيم الكوني في"المجوس"، ملحمة طوارق الصحراء والسحر والدين، وفي أساس عبقرية الطيب صالح في"دومة ود حامد"و"مريود"، فجوزف حرب ليس أمام عناصر المكان الذي تكوّن فيه وكوّنه، انطباعياً أو فوتوغرافياً، بل هو تعبيري... بل إحيائي، بل توليدي... وفي أماكن متباعدة سريالي. ولو أردنا النبش عن آبائه الأبعدين والأقربين في هذا الخط لتلافينا ابن الرومي والشعراء الأندلسيين في روضاتهم، و"أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً/ من الحسن حتى كاد أن يتكلما"، وربما تلافينا سعيد عقل في لغويته ورخاميته على الرغم من خيط خفيف منه في قصيدة رخام الماء بخاصة، ولكننا لا نستطيع أن نتلافى السحرية الرعوية للأخوين رحباني من جهة، ولا إحيائية الشعراء الالمان من أمثال شيلر وهولدرلن ونوفاليس وريلكه... ومع كل ما ذكرنا، يبقى جوزف حرب في"رخام الماء"وليد ذاته، بل تلميذ ذاته، وهو في هذه الطريقة، طريقته، مؤسس وليس مقلداً، أكاد ألمس فيه، من قصيدة لأخرى، ومن ديوان لآخر، قدرية ما، تجعله كالساري في النوم، وفي أي مكان كان، وأي طريق سلك، منتهياً لمفردات الطبيعة... فهي بحره وأساسه وأسفاره وتحولاته ومبتدؤه ومنتهاه. وأكاد أصوّر صنيعه بقطرة الماء... فهي سواء كانت قطرة في سيل أو في نهر، أو حبة في المطر، أو قطرة من الندى، أو تغلغلت في التربة، أو مشت في عروق النبات، أو الشجر أو في عروق الانسان، أو في عروق الصخر، وسواء تجمدت أو سالت أو تبخّرت في الغمام، وأينما ذهبت مع الرياح، الى أعالي الجبال أو في مطارح السهوب أو مع عواصف البحار... إنها هي هي: قطرة الماء العظيمة. ثمّة حرز أكيد، يعصم جوزف حرب من بهوت الرومانسية. إنه حرز الانفعال بالعناصر، وادخال عناصره البشرية الخاصة، من تأمّل وحبّ، لوعة، نشوة، خوف، رجاء... الخ في رخاميتها. فالرخامية، بنفسها، بذاتها، باردة. جوزف حرب ليس محايداً إذن... فهو إذ يحتفل بالورود الطالعة يحتفل بولاداته، أو ولادات بشر: نساء، أطفال، رعيان... الخ وإذ يتأمل مفاصل الفصول ويتربص بالورقة وهي تسقط عن الشجرة، والبذرة إذ تجفّ، وخيط الشمس إذ يذوب في البحر أو الليل... فهو يتأمل في الموت.. موته الشخصي وموت الكائنات... فالقصائد على تتابعها، هي بين احتفالات شعرية للولادة والموت. ثمة مرات كثيرة غير مباشرة للشاعر في نفسه، وله في الناس.. ولكن دائماً، ودائماً، من خلال محوّل العناصر. ومحوّل العناصر يعني حركة لا تهدأ بين الداخل والخارج. الداخل ذات الشاعر يقتحم الخارج دائماً. يفترسه.. يخضعه لأحاسيسه وتأملاته، لحقيقته وأوهامه، يصبغه بالمخيّلة، ثم، ومباشرة، وبلا فواصل أحياناً، ما يلبث الخارج الطبيعة أن يرتد على الداخل، يقتحمه، يفترشه ويكاد يفترسه، كأنما هو يثأر لنفسه. تكاد تصور قصيدة"كل شيء فيّ"الفكرة..."لا شيء يحيا خارجي/ فإليّ غادرت النجوم قبابها/ كل البحار الي منذ البدء خلت خلفها شطآنها وعبابها/ وإليّ ودعت الوحوش الريح والاشجار والينبوع والعصفور جوف صخورها/ غاباتها وجهاتها وترابها/ لكأنما الاشياء خارج أن لي روحاً/ تعيش غيابها". تجاه هذه القصيدة، وهي نموذجية في الديوان، نجد أنفسنا أمام الفكرة وتكاد تكون عارية حين تكتسي لحم ودم العبارة لتصبح قصيدة. الفكرة مركزة جداً، ما يسمح لنا، على امتداد قصائد الديوان، بسؤال حول تقنية كتابة القصيدة عند جوزف حرب، سواء طالت أو قصرت، كيف هي؟ بالتأكيد نحن أمام شاعر مدرّب، بل شديد اليقظة، ولا يترك شياهه تفلت من عين الراعي وعصاه وحجره، فتعربش كيفما حلا لها السرحان، فوق الصخور، أو تفلت في السهل فتضيع. رقابة جوزف حرب على قصيدته قوية، بل صارمة. تبعاً لذا، فالشعر بين يديه ليس اشتعالاً صاعقاً أو مجنوناً والحال لا يأخذه الى مطارح الهلوسة والجنون، ولعل وعيه بالفكرة وسوقها الى حيث يريد هو، لا إلى حيث تفلت هي من بين يديه، يترك بصمته على مجمل صنيعه الشعري... ذلك ما يمنع ايضاً سرياليته احياناً من ان تجمح وتجنح وتتشظى... هو قادر على الإمساك بخيوط الطيران مهما راوغت طيارته. في قصيدة"طبشورة"مثلاً، وهي سريالية طفولية، لا يظهر أن الهذيان السريالي متروك لآليته وانفلاته... بل هذا التحول السحري، هنا، يبدو وكأنما يمسك الساحر بمآلاته وخواتيمه. إن مفارقة القصيدة المبنية بعناية، الإيقاعية، تظهر حين، فجأة، يأخذ تلميذ الصف الشاعر بيده، بدلاً من الريشة، طبشورة مكسورة بيضاء ليكتب بها على اللوح الأسود. والمفارقة هي في ما وجده بداخلها:"كان بداخلها طائرة صيف لا ريش له/ فتح المنقار/ لمّ الريشات من الأطفال/ وحوّلها قوس جناحين وطار". نقول إن تدخّل الفكرة في صنع القصيدة، يمنح الشاعر ميزتين ويحرمه من واحدة. اما الأولى فقدرته المميزة على ان يختصر ما يستطيع، أو يمد بساط الكلام ما يستطيع، من دونما حواش وزوائد... يكتب احياناً باختصار مبرم اسئلة بمثابة أجوبة:"إن كنت في يوم ستقطعُها/ فلأي شيء تزرع الشجرة؟"أو"لا ثلجَ عندكَ في الشتاء/ فلأي شيء تصنع الموقد؟"أو"لا سطح فوق/ فلأ شيء ترفع السلّم؟"... أو"كلامي حبات قمح/ وقراء شعري حمام"ونحن هنا امام قصائد مكتملة في الديوان". ... وأما الثانية فقدرته على ضبط بناء القصيدة، والبناء هنا هو معمار القصيدة: السياق والكلمات وتوازنات الكتل... الخ. فجوزف حرب شاعر معمار... لكن الثالثة التي تفوت الشاعر، قوة الهذيان سلطانه واكتساحياتُه... بل تخريبه ومفاجآته، بل بعض ظلماته وكوابيسه التي يرتجف دونها الضوء. الفكرة لدى الشاعر كون، شاسع، مختلط، متنوع. الكون أوزان، عدد وموسيقى... والكون كتاب، العصفور وزن، والريح وزن آخر، البرق اللامع ايقاع، وتشرين ناقد تفكيك... الله كتب البحر على وزن الملح... أما الشاعر فقد كتب الماء على وزن الغيمة، محذوفاً منها وزن الملح... كنا قد سألنا في المطلع عن حال أقل من الصوفية اكثر من الرومانسية، ولم نجبْ. لعل السبب هو في ان جوزف حرب ليس شاعراً ميتافيزيكياً بالمعنى الروحي والفلسفي للكلمة... يظهر لي أحياناً شاعر ميتافيزيك مضاد، جسدي، حسي، إنه شاعر وجودي على كل حال، مفرداته العناصر.