حين سئل ميشال طراد صاحب ديوان "جلنار" - بالمحكية اللبنانية - عن شروط القصيدة قال: "لازم تخشخش فيها أصابيع الحياة"... فالمحكية اللبنانية تعتبر تبعاً لذلك، في مواجهة العربية الفصحى، لغة الحياة، ولغة المهد، في حين ان الفصحى هي لغة التراث والثقافة. ومنذ ان استولدت الفصحى اللهجات العامية ، وحصل ذلك على الأرجح في تاريخ مبكّر بسبب اختلاط العرب بالشعوب، ما أدخل اللحن على العربية الأم ، وهذه العاميات تخط لهجاتها ومحكياتها على ألسنة العامة، ولم تكتف بأن تكون لغة الحياة اليومية بين مختلف فئات المجتمع، بل خطت خطوة الى الأمام، في الأندلس بداية ومن ثم في المغرب العربي، فغدت لغة أشعار سميت بالأزجال، وأقدمها وأشهرها أزجال ابن قزمان. وقد تم حفظ هذه الأزجال، فوصلت الينا من طريق التدوين. ومذ ذاك، لم يعد مقدراً للشعر العربي المكتوب بالعاميات، أو اللهجات العربية المحكية، ان يبقى شفهياً مصلوباً على الشفاه على رغم صعوبة التشكيل والتدوين، وعدم الوصول ، بل استحالة الوصول ، الى ضبط موحد واصطلاحي لكتابة أو لفظ اية محكية من العاميات العربية. فقد جرت محاولة لم يكتب لها النجاح في مصر على يد توفيق الحكيم، ومحاولة قام بها سعيد عقل في لبنان في ما سماه اللغة اللبنانية، معتمداً الحرف اللاتيني للهجة اللبنانية المقترحة مع بعض الضوابط، وأخرج بها كتابه "يارا"، دونما نجاح يذكر، بسبب عوائق جوهرية في اللغة والنحو والصرف والتدوين معاً... والمحاولة الاخيرة لضبط المحكية واقتراح تدوين موحد لها، قام بها يوسف الخال، من خلال ما سماه "اللغة الثالثة"، وأصدر بها عدداً من الكتب، من بينها "كليلة ودمن" و"وصية كلب"... وقد قام الخال بهذه التجربة، كحل مقترح لغوي لمشكلة الشعر، أطلق عليها في حينه تسمية "جدار اللغة". فقد احتجبت مجلة "شعر" اللبنانية في نهاية العام 1964، وكان الخال من أبرز مؤسسيها، وجاء احتجابها الاول عامذاك، مشفوعاً ببيان موقّع من يوسف الخال، يبرز فيه احتجابها بسبب "اصطدامها بجدار اللغة". والعودة بالشعر الى أصله في المحكية، عودة به لأصله في اللغة. فالشعر في الاصل شفهي... بل سابق حتى على الغناء، ومرتبط بالتمتمات البدئية للانسان. يبدأ من "دادا"... ويكون أول اقتراحات الدادائية. ولعله في الاصل موجود ومحروس في منطقة بين الحنجرة والأذن والقلب. ربما الانسان، كما يقول العلايلي، غنّى قبل ان تكلم باللغة ولكنه تمتم قبل ان غنّى. يقول ميشال طراد "القصيدة أهم من الحياة"، لذا وجب سبر أغوار هذا الكائن الخطير والرائع ، الجميل والمخيف ، الغامض والسري، القصيدة. ما كيمياؤها؟ ما لغتها؟ ولماذا الاصطدام بها قريب من الاصطدام بجدار الموت ذاته؟... وهل اللغة تصنعها على حدة من الحياة أم هي تصنع اللغة والحياة ايضاً؟... ثم، مَن سيخلّص مَن؟ الشعر اللغة أم اللغة الشعر؟ هذا على ان مشكلة اللغة مسألة، ومشكلة التدوين مسألة اخرى، كما ان علاقة القصيدة بلغتها مسألة ثالثة. والإطلال على هذه المشكلاات ضروري ويطرح فيها السؤال حول علاقة المغامرة الشعرية بالمغامرة اللغوية والمغامرة الوجودية معاً. ويغدو ذلك أكثر ضرورة حين الشعر بالمحكية... نظراً لكونها تختلف عن الفصحى من حيث النحو واللفظ والتركيب حتى ولو اقتربت منها كأصل، وهو ما نخالف به رأي رشيد نخلة اذ يعتبر الزجل اللبناني تفريعاً من الشعر العربي. ولعلّ ميشال طراد الذي غرق حتى أذنيه في العامية مع اسعد سابا - يؤيد وجهة النظر القائلة بالتفريق بين الفصحى كلغة للقصيدة والعامية كلغة لها، وهو بذلك يعزز رأي شيخ الأدب اللبناني بالعربية مارون عبود، في كتابه "الشعر العامي"، فهو يرى ان "شعرنا العامي يمشي عند بعض شعرائنا نحو الفصحى، وهذا مقتله... فخير للشاعر العامي ان يلمّ ألفاظه من الشارع لا من الكتب". واذا كان ميشال طراد واسطة العقد وجسر تحول الاتجاهات في صنيع الشعر الابداعي بالمحكية في لبنان. ومن زجليات ابن القلاعي المولود العام 1447 والناظم نحو خمسة آلاف بيت من الزجل على الأوزان السريانية التي تنشد في الكنائس وأخصها القرّادي الأفرامي ذو السبعة مقاطع والوزن اليعقوبي ذو الاثني عشر مقطعاً... الى قصائد ميشال طراد وسعيد عقل، الأخوين رحباني عاصي ومنصور وطلال حيدر وايليا أبو شديد، والياس لحود وجوزف حرب، فإن الأخير في مجموعته الجديدة المسماة "سنونو تحت شمسية بنفسج" ? دار رياض الريس للكتب والنشر، وسّع من أفق هذه التجربة الخاصة والثمينة في الشعر اللبناني، من خلال وصوله الى كيمياء شعرية تخصه في النسيج الشعري العام، وهي كيمياء صعبة ومركبة في كل حال وسنأتي على ذكر أبرز العناصر المكونة لها... جوزف حرب، بداية، ليس في شعره بالمحكية اللبنانية من دون أسلاف. دعك من ميشال طراد وقليلاً قبله عبدالله غانم، وقليلاً بعده سعيد عقل، والرحابنة وطلال حيدر ومن بعده عصام العبدالله، وايليا بو شديد وصولاً الى الياس لحود في ثلاثيته "دواوين العشاق"، دعكَ ايضاً من سائر المبشرين بالشعر من القوّال الاول ابن القلاعي الى أمير الزجل رشيد نخلة، فالى إمام الزجل بتعبير يوسف الخال عبدالله غانم، فخليل روكز والأسعدين سابا والسبعلي والأسعد الثالث أسعد سعيد... فهؤلاء الأسلاف جميعاً، في ناحية، والشاعر نفسه في ناحية مقابلة. ولا ننسَ ان جوزف حرب هو سلف ذاته. من زمان، كتب وغنّت له فيروز، قصائد بالعامية. "إسوارة العروس" مثالاً. ثم جمع قصائده المختارة في ديوان أول بالمحكية هو "مقصّ الحبر"، 1995. ويسجل له انه في غالبية قصائد مجموعته الاخيرة الراهنة "سنونو... ..." خرج من سجن الغنائية - سجن فيروز تحديداً ? الى حرية القصيدة، وتجريبيتها، واكتفائها بذاتها... بل الى ما يصعب، ويستعصي أحياناً على الحنجرة الغنائية... الى التأملية المحض، والى "مجانية" التركيب والجمالية المكتفية بذاتها، حتى ولو جاءت ضد شعبية، أو خاصة جداً، أو ضد تعليمية، او بلا غايات، اوللتفكّر... وهذا الخروج يسجّل لمصلحة توسيع أفق الشعر بالمحكية... فقد أضيف الى أصله الديني التعليمي المسيحي بخاصة، الزجل المغنى من خلال الفرق المعروفة والدفّ والمبارزة بالردات، والارتجال على المسرح من خلال عِيد وزيدْ أي أعد وزِدْ، وأضيف الصوت المنفرد، والقصيدة لذاتها... كما انه تدرج من الكلاسيكية ببعديها الواقعي النقدي والجمالي الانطباعي / الى التعبيرية، الى الرومانسية الطبيعية فالرومانسية الحلولية عبدالله غانم، فالبرناسية الجمالية سعيد عقل وميشال طراد فالوجودية التأملية ايليا أبو شديد، فالتاريخية المستعادة المدمرة والمبنية من جديد طلال حيدر، ناهيك بالسحرية الطبيعية والأولية للأخوين رحباني، والقصيدة ذات الشطح السريالي الساخر الياس لحود. وثمة من كتب قصيدة النثر بالعامية عبده لبكي. فأين يقف جوزف حرب على تلك الأرض الشعرية؟ ما بصمته؟ ما كيمياؤه؟ فهو مثلما تخلص من ضغط الحنجرة الغنائية، تخلص من ضغط الاسلاف وضراوتهم، وهي ضراوة ليست بالقليلة على كل حال، اذا استذكرنا من ذكرنا منهم... وبخاصة صاحب "جلنار" و"دولاب"، والرحابنة. كيمياؤه الشعرية مؤسسة على "التحويل". ومقلعه العناصر: الماء والهواء والتراب والنار. وما اشتقّ منها كالريح والشمس والبحر والنهر والبستان وما فيه من ثمار... والطيور كالبلبل والنسر... فضلاً عن الراعي والناي والكمنجة... وهي جميعاً عناصر موجودة في الوجود، هكذا، بكل حياد، لمن اراد، لكنها حين تدخل في المصهر الشعري لجوزف حرب، يلحقها التحويل... تلحقها تلك الكيمياء. وهو أحياناً أشعر الإنس والجنّ لقدرته على التوليد والتحويل وإثارة الدهشة. وغالباً ما يتناول من كوارة الطبيعة والعناصر مواده ليصنع منها منمنمات شعرية سحرية مفارقة لأصلها وإن كانت طالعة منه. على يديه العناصر تنفصل بعيداً من أصلها لكي تعود اليه، على غير ما سافرت أو هاجرت... تعود "أخرى" وهذا هو التحويل الشعري، وهذا سرّ السحر في القصائد والخروج من الاطار الوصفي الى الإطار التوليدي هو المفتاح وأساس الحكاية الشعرية. فمن خلال ذلك تغدو شجرة اللوز امرأة، وثمة حكايتان لولادة المنجيرة، احداهما أن أصلها بلبل، والثانية عشب البحيرة... وهي أمثلة من عشرات الأمثلة في القصائد. جوزف حرب مبتكر ماهر للقصيدة انطلاقاً من فكرة. بل لعله احياناً صانع يتمتع بقدرة لا تضاهى على اشتقاق ما لا يشتق من أصوله. ولا أحد يعرف كيف يتحول البلبل ايضاً والقرنفلة الى إشارات موت وكيف بمفردات البحر والشمس والريح والبلبل والوردة، والغيم والنهر... تتألف قصائد حب وموت، صور جنائزية من عناصر البحر والشمس، أزمنة تحوّل من جراء احتكاك الريح بالسهل أو بالشجر... دورة وجود وعدم انطلاقاً من موجة في بحر تسحبها الشمس أو غيمة تقودها الريح تسقط كطريدة على أرض يسيل بها نهر الى اصلها... ومن ذلك أحياناً مرات مؤثرة وبليغة للجمال، وقدرة على اعادة تكوين الكائنات انطلاقاً من الفكرة... من رأس الشاعر المكنّى عنه بأدوات اصابعه الحبر أو القلم... والسنونو في العنوان إشارة الى طائر الكتابة، والبنفسج لون البكارة. فالسنونو هي القلم المفتض لبكارة الفضاء. وهذا هو الشعر برمز من رموز الشاعر واحدى استعاراته التحويلية. قلنا ان الفكرة هي أساس التوليد الشعري في قصائد جوزف حرب. فهو شاعر هندسة وضبط دقيق لمسارب طيور قصائده أو مياهها، أو رياحها وتحوّلات العناصر ومسارات الأفلاك، وكمعلّم، لا يتركها تفلت من قبضته لتطير او تتبدد بملء جنونها وهذيانها... إن في الحركة أو في اللغة. وينتج من ذلك قصائد مختصرة بمجملها ما عدا استثناءات قليلة ذات نار وجوهر ومفاجأة وقدرة على الادهاش. وهي مشغولة بمهارة طويلة ودربة. وهي لشدة تركيزها على منجم العناصر والطبيعة، الثمار والغصون، الطيور والكائنات الريفية الرعوية، تكاد تستأثر بهذا المنجم، بهذه المرجعية، على رغم امتدادها أي المرجعية الى حقول طراد وعقل والرحابنة. تولد الفكرة أولاً لدى جوزف حرب، ثم يكسوها أو يؤثثها بما يجعلها كائن الشعر. هو لا يكشط الزوائد عن حجر القصيدة، كنحّات بل يكسو هيكلها باللحم والدم والحياة... ثم يقول لها: انطقي. الشعر هنا فكرة وهندسة والصورة الأداة تأتي طائعة واللغة ايضاً، فالصانع الشاعر آمر وتطيعه كائناته. تحسّ ان جوزف حرب سيد القصيدة. ومهما لعب بعناصرها، وأرسل خيوطها بعيداً، الا انه يمسك بقبضته اطراف هذه الخيوط فلا تشذ ولا تشطح. ساحر يسيطر على سحره ولا يسيطر عليه سحره، وأعتقد لهذه الناحية، ان وقت كتابة القصائد قصير نسبياً على رغم ان الديوان كبير. وقتها قصير، لكن زمانها طويل جداً ومتشعب. وحين يغدو الشعر بمثل هذا الضبط وهذه الدقة، يلوح وكأنه يخرج من مكان ما، جالس وراء الستارة، خلف المسرح، ويحرك اللعبة بأدق تفاصيلها، وأكثر فصولها غرابة... او مفاجأة. المفاجأة للقارئ، اما الشاعر فسيّد المفاجأة. ولعل الوعي والهندسة وأدواتها في الصورة وخدمها في العناصر، تطرح سؤالاًً جوهرياً عن اصل هذا الشعر ومكانه من الوعي. هل القصيدة وعي؟ وهل اللغة ايضاً؟ وما نصيب الهذيان وانفلات المخيلة واللغة من إسار الوعي في صنع القصيدة؟ القصيدة ككائن غامض... انبثاق لا منتظر، وأحياناً هذيان صافٍ... يقترب جوزف حرب من سعيد عقل لجهة الهندسة. لكنه يفترق عنه في اللغة. كما يفترق عن طلال حيدر في اللغة ايضاً. فطلال حيدر أقرب الى الفصحى منه الى العامية. وجوزف حرب يقترب كثيراً من الأصل الرحباني في سحرية العناصر والتحولات... الطهرانية المسيحية... وتكاد تصير هذه السمات بصمته الراسخة في الديوان، أعني: الهندسة والفكرة، التحولات السحرية للعناصر، الدورة او الدوران، خصوصاً في الرياح والمياه، البحر والنهر، الثمار والاشجار والتراب... ومن ثم الوصول الى ما يشبه الحلولية، أي انصهار عناصر الطبيعة والكون في كيان الشاعر وتبادل الأدوار معها. تبعاً لذلك, يظهر لي جوزف حرب بنّاء قصيدة حديثة بالمحكية كبيراً. وهو بارناسي سحري، لكن سحره مضبوط بوعي وهندسة وليس صاحب شطح وانفلات او انبثاقات لاواعية. قصائده بمجملها مختصرة، مؤسسة على ايقاع وزني واحد يعتمد التفعيلة وغالباً ما هي "مستفعلن" كما في قصيدة "وجع".