الفرصة متاحة الآن لدور عربي مميز في العراقوفلسطينولبنان ونحو الولاياتالمتحدة كما نحو الجمهورية الاسلامية في إيران، فالحاجة ماسة لصقل هذا الدور وإشهاره إما درعاً يحمي أو سيفاً يطال. لا عذر لدى العرب للتغيب أو الامتناع لأن الاختباء اليوم وراء ضعف وعجز هنا أو نفاد صبر هناك سيأتي عليهم بندم يأكلون أصابعهم عليه غداً. فالعراق مهدد بالانهيار مجدداً إذا استمرت المعادلات السياسية فيه بالتوازن المفقود. ومن واجب العرب أن يكون لهم دور مباشر وفوري وفعّال يطوّق رفض مَن لا يريده ويضمن للعراق حماية استقلاله من خلال تحقيق التوازن في المعادلة السياسية العراقية. فلسطين في حاجة الى استراتيجية عربية تختلف تماماً عن تقاليد مراعاة الفصائل والعمل على مصالحات لتستبدل هذا النمط بمطالبة من يعطّل السلطة الفلسطينية أن يكف عن ذلك، والآن. فالجهد العربي يجب أن يتخذ أكثر من منحى في آنٍ واحد. وفي هذا المنعطف يجب أن ينصب على دعم مبادرة رئيس حكومة فلسطين سلام فيّاض بأن تقوم السلطة بالاشراف على المعابر. وفي لبنان، ان العرب مطالبون بألا يتذمروا من اللبنانيين وهم على يقين بأن المشكلة الأساسية آتية من سوريين وايرانيين. عليهم أن يضعوا أموالهم بجانب أفواههم لا سيما وأن ايران تضخ الأموال والمعدات والأسلحة وتقوم بتدريبات، وتنكر كل ذلك علناً كما فعل وزير الخارجية الايراني منوشهر متقي في دافوس من دون أن يرف له جفن. أما في العلاقات الأميركية - الايرانية التي تُصنع حيناً عبر الحديث عن العراق وقنوات سويسرية، فإن على العرب أن يقرروا ان لهم دوراً في تلك العلاقة، شاء الايرانيون والأميركيون أم أبوا، طالما أن ما يتساير به الطرفان في حديثهما الشيق ليس شأناً ثنائياً وأنما يشمل المصير العربي. عراقياً، من الضروري قراءة ما يحدث على الساحة السياسية الداخلية في العراق للاستفادة من الاستعداد الكردي لإعادة النظر في ما سبق وافترض أنه يضمن التوازن في المعادلة السياسية العراقية. في الماضي، ظن أكراد العراق أن التحالف مع الشيعة هو السبيل الى حكم جديد في العراق. انما اليوم، فقد توصل الأكراد الى الاستنتاج أن العراق يجب ان يُحكم من خلال علاقة متوازنة شيعية - كردية - سنية. جاء هذا الاستنتاج في أعقاب نقاش حاد بين القيادات الكردية أدى الى التقويم بأن لا مستقبل لهم في زمن الاستفراد. بكلام آخر، استخلصت القيادات الكردية أن الدعم الكردي لنوري المالكي أدى الى تفرده بالحكم واستفراده بالسلطة. وعلى ضوء هذا التقويم، تقرر أن من الضروري ايجاد تحالفات بديلة تتعدى مجرد استبدال الدعم لنوري المالكي من حزب"الدعوة"بعادل عبد المهدي من"المجلس الأعلى". كان التقويم، باختصار، أن من الضروري إعادة التوازن الى المعادلة العراقية. فإذا وافق المالكي على الاصلاحات التي أرادها الأكراد، كان به وإذا لم يقبل فهناك خيارات أخرى. احدى أهم النوافذ التي فتحها الأكراد على الدول العربية هي نافذة"الخيارات الأخرى". بعض القيادات الكردية شرح للعرب أن هذه دعوة صريحة كي يقوموا بتوظيف التقويم الذي توصل إليه الاكراد وهي دعوة صريحة ليتفضلوا الى العراق ليلعبوا دوراً مباشراً. وفي رأي هؤلاء أن التحسن الأمني الذي يسود الآن في العراق"سيتبدد"إن لم تكن هناك اصلاحات حقيقية، وهم يحذرون من أسابيع وليس سنوات. رأيهم ان على العرب دخول الساحة العراقية كطرف فاعل، لا سيما في هذه المرحلة من العلاقة الأميركية بالعراق والعلاقة الأميركية - الايرانية في العراق. والاجراءات المتاحة عديدة، منها أن يكون الوجود الديبلوماسي مثلاً بسفارات وليس بعلاقة ديبلوماسية من بعيد، وأن يكون النفوذ العربي في الملف العراقي عراقياً واقليمياً ودولياً. حكومة طهران وحكومة المالكي لا تريدان الدور العربي الفاعل في العراق، بل يفضلان تعقيده لاستبعاده. تطويق هذا الرفض يتطلب من العرب المغامرة، حتى في ظروف أمنية صعبة، والانطلاق من مفهوم واضح وهو ان الصراع على المنطقة يحدده مستقبل العراق. على الصعيد الاقليمي، لا مجال لإبرام ما يسمى ب"الصفقة الاقليمية الكبرى"، طالما ان ايران بهذه القوة الاقليمية وطالما انها تنخرط، عمداً، في صراع مع الولاياتالمتحدة ينقلها من خانة الاقليمية الى خانة المواجهات الدولية بين الكبار. وحتى اذا كانت العلاقة الاميركية - الايرانية في صدد الإعداد نحو تلك الصفقة الكبرى، والتي يلعب فيها العراق دوراً محورياً رئيسياً، فإن تغيب أو استغياب او غياب العرب عن هذه الصفقة مضر بهم ومضر بالعراق. عندما قررت طهران ودمشق التعاون مع الولاياتالمتحدة في الساحة العراقية، كان لكل منهما أسبابه. سورية تعاونت لأنها خافت، وما تزال تخاف جداً من نمو عناصر وقوة شبكة"القاعدة"في اراضيها. ان استمرارها في لعب دور القناة المفتوحة لعبور"القاعدة"الى العراق لإلحاق الهزيمة بالقوات الأميركية بدأ يجعل منها شبه قاعدة ل"القاعدة"، فارتجفت وتعاونت. طهران من جهتها تعاونت خوفاً من ان يؤدي استمرارها بالتصعيد ضد القوات الأميركية عبر ميليشيات تدعمها في العراق الى انهيار مشروع الحكم الشيعي في العراق. ففضلت ان تتعاون لتحمي حكومة المالكي والهم الشيعي في العراق مع الاستمرار بالتحدث أحياناً باسم العراق. واعتبر متقي ان الدعوة الى انسحاب قوات الاحتلال الاميركية"قرار عراقي، والأجدى بالجيران عدم التدخل في شأن داخلي، فلو كان الوجود الأميركي احتلالاً، لكنا حاربناه أنفسنا"وتحدث عن ضرورة"الحفاظ على التحسن الأمني"وصيانته عبر"حلول جذرية"للمشاكل السياسية داعياً الى تحمل المسؤولية بين جميع الفرقاء العراقيين. ففي رأيه يجب العمل الدؤوب على تحويل ما هو اليوم بحسب تعبيره"وقف نار"بين الفرقاء في العراق الى"سلام دائم"من أجل العراق. العراق واقع ليس فقط بين وقف نار وتظاهر بالتعايش والتوازن في سلام وانما هو، حسب تعبير أحدهم، ضحية"صراع الايرادات والارادات". فالدور الاميركي في العراق له طموحات بقواعد عسكرية وبأموال نفط. والدور الإيراني في العراق يطمح الى أكثر من حكم شيعي موال لطهران، وفي باله ابعاد نفطية واستراتيجية. انما الصراع كبير داخل العراق، ليس فقط نحو مستقبل الدور الاميركي، وانما ايضاً حول مستقبل الدور الإيراني في العراق. حماية مستقبل العراق تتطلب بيئة اقليمية متوازنة وعلى العرب ان يظلوا طرفاً فيها، فوراً، لا سيما ان ايران لا تمانع بفراغ أمني في العراق، وقد اتخذت الاستعدادات لقيام الايرانيين بملء ذلك الفراغ. فكما الفراغ منشود ايرانياً وسورياً في لبنان لتعطيل الانتخابات الرئاسية وفرض فراغ رئاسي، فإن الفراغ منشود في العراق لأسباب تكتيكية واستراتيجية معاً في آن. الايرانيون ذهبوا الى دافوس للاستفادة من"المنبر"بحسب أحدهم. استمتع رجال الحكم الايراني بذلك المنبر الى درجة توجيه الدعوة الى رئيس المنتدى، كلاوس شواب، ليعقد مؤتمراً اقليمياً في ايران، كما يعقد في البحر الميت في الأردن أو في شرم الشيخ في مصر، ولكن طبقاً لقوانين الجمهورية الاسلامية بحسب متقي. وهذا يعني من دون مشاركة اسرائيليين، بل بإشراف وانتقاء من هو صالح من وجهة نظر الجمهورية الاسلامية. فإذا كان هناك عالم لامع سيقدم أهم طرح عن مستقبل العالم، حدث وانه"منحرف"من وجهة النظر الايرانية لأنه مثلي لا يحق له الوجود وعليه ان يصحح انحرافه وان يخضع الى عملية جراحية تغير جنسه، كما أبلغ أحد الايرانيين المشاركين في دافوس احدى جلسات المنتدى. في احدى الجلسات العلنية التي جمعت مستشار الرئيس الايراني ووزير الخارجية متقي والسفير الاميركي لدى الأممالمتحدة زلماي خليل زاد، عكف الايرانيان على إلقاء المحاضرة وابداء الصلابة ورفض المرونة تحت أي ظرف. قالا: لماذا استثناء ايران من المراقبة النووية؟ لماذا اخضاع الجمهورية الاسلامية للتحقيقات الصارمة لبرنامجها النووي؟ لماذا مطالبتها من دون غيرها؟ هذا تمييز عنصري. ايران تريد ان تكون جزءاً رئيسياً من الحل فما الخطأ في ذلك؟ ليس صحيحاً ابداً ان ايران جزء من المشكلة. والجمهورية الاسلامية تنكر إنكاراً قاطعاً ان لها علاقة بتسليح ميليشيات. هذا افتراء وتعد. فالجمهورية الاسلامية بريئة وجريئة ومصرة على رؤية الأمور كما قررت مسبقاً فمهمتها ليست ان تتعلم وانما ان تلقن وان تبلغ العالم انها لن تتغير. الوفد الايراني في دافوس تحصن أكثر ما تحصن بالوكالة الدولية للطاقة الذرية ومديرها العام محمد البرادعي الذي ساعد ويساعد ملالي طهران في مسعاهم الرئيس باخراج ملف ايران من مجلس الأمن الدولي في نيوريوك حيث شبح مضاعفة العقوبات، واعادته الى مقر الوكالة الدولية في فيينا، فهناك صديق لايران، من وجهة النظر الايرانية، وهناك رجل عمل عمداً كشريك لايران على تفكيك المطلب الذي اجمعت عليه الدول الخمس الدائمة العضوية تعليق ايران لتخصيب اليورانيوم كشرط مسبق. صدمة الوكالة والبرادعي من تقرير وكالات الاستخبارات الاميركية الذي جاء فيه ان ايران"توقفت"عن برنامجها النووي العسكري عام 2003 جاءت بسبب اكتشاف الوكالة الدولية للطاقة الذرية برئاسة البرادعي ان ايران"امتلكت"حقاً البرنامج النووي العسكري الذي"توقفت"عنه عام 2003. فإذا كان العذر انها لا تمتلك طاقات التحقق ما دامت الطاقات الاستخباراتية ملك الدول، فمن المفيد للوكالة الدولية القليل من التواضع لأن الجهل والادعاء معاً أمر خطير. على صعيد الملف النووي، كانت الرسالة الايرانية: ماذا بكم؟ انتظرتم حتى الآن فلماذا لا تنتظرون 40 يوماً أكثر موعد تقديم الوكالة الدولية تقريرها."مارسوا ضبط النفس - هكذا نصحناهم"، قال متقي متحدثاً عن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن"واتركوا قراراتكم الأخيرة"في شأن تعزيز العقوبات"الى ما بعد"تقرير الوكالة. تحدث عن لبنان بفوقية رهيبة، ونكران فظيع وقال ان الكلام عن تسليح ايران ل"حزب الله"ليس سوى"ادعاءات". ونفى ايضاً ان تكون ايران تدرب ميليشيات في العراق. قال ان"الاميركيين توصلوا الى إدراك واستنتاج أن عليهم دعم حكومة المالكي التي تتمتع بشبه اجماع عليها". ودعا الى مد العون الملموس"باعطائها سلطة ملموسة أكثر"بما في ذلك"ايكال الملف الأمني الى حكومة المالكي". وهل ايران على استعداد للتوقف عن تدريب الفصائل العراقية؟ يأتي رد منوشهر متقي ايرانياً جداً فيقول"لا نسعى وراء حرب مع أي دولة... مهما تم استفزازنا". وهكذا هي سيرة الحكاية الايرانية في هذ المنعطف: تدريب ميليشيات وتمويلها ودعمها في العراقولبنانوفلسطين من دون الاعتراف بذلك انما مع التسجيل الرسمي في رسائل واضحة ان كل هذا التدريب والتمويل للميليشيات ليس هدفه حرب شاملة. فالحرب قرار استراتيجي، انما المعارك المتمثلة بدعم"حزب الله"ضد الدولة اللبنانية، ودعم"حماس"ضد السلطة الفلسطينية، ودعم الميليشيات الشيعية في العراق ضد التوازن والموازنة في الحكم في العراق، انما هي معارك تكتيكية ضحاياها شعوب عربية، وليست فارسية. الجمهورية الاسلامية تريد استبعاد العرب عن هذه الملفات المهمة في العراقوفلسطينولبنان. فليكن القرار العربي الذي سترفض سورية وقطر الالتحاق به واضحاً وليبلغ كل من يعنيه الأمر مفاجأة الانخراط في كامل الملفات، فوراً، وباستراتيجية حية وجديدة تشهر السيف بإبلاغ: نحن هنا حقاً وبجدية وسنردع كل محاولات ونزوات الاستبعاد أو الابتعاد.