مهما اختلفت الآراء حول القرار البريطاني بسحب ثلث القوات من العراق أو حول الدفع المتزايد لقيادات الحزب الديموقراطي نحو الانسحاب الفوري أو التدريجي للقوات الأميركية، فالرئيس جورج بوش مستفيد من هذه السياسات وإن بدا للوهلة الأولى انها تؤذي عزمه في العراق. فالرسالة من هذين المعسكرين موجهة بالدرجة الأولى الى العراقيين عامة والحكومة العراقية خاصة وفحواها: هذا عراقكم وهو مسؤوليتكم. انها رسالة تصغي إليها ايران بكل حذر لأنها تفهم منها أن القوات الأميركية والبريطانية في صدد إعادة الانتشار في أماكن آمنة داخل العراق وفي قواعد وأساطيل في جيرتها تطل عليها بقوة عارمة وتخرج القوات من معادلات الانتقام والرهينة والبطة الجالسة في العراق هدفاً مستباحاً. ولأن ايران تأخذ ببالغ الجدية هذه التطورات، قررت سوية مع حلفائها ان المرحلة الراهنة يجب أن تكون مرحلة الاختباء وشراء الوقت وتفادي المواجهة ريثما تصفّي القوات الأميركية المعززة أعداء لايران وحلفائها انما من دون أن تخلو هذه المرحلة من العصيان والتحدي حرصاً على صيانة انطباع القوة والتعالي وعلى نفي ملامح الخوف والقلق. وهذا يفسر لماذا تصعّد طهران في الملف النووي، لفظياً، في الوقت الذي تبعث فيه بذبذبات الرغبة في التحاور والصفقات لا سيما مع الولاياتالمتحدة على أساس المصالح"المتبادلة". هذا يفسر لماذا تحرص طهران على الإيحاء بأنها راغبة في حديث اقليمي عميق حول العراق وفلسطين ولبنان وتحرص على عدم المزايدة على الجهود الرامية الى مصالحة فلسطينية والى تفعيل المسار الفلسطيني - الاسرائيلي من المفاوضات. فالمؤسسة الدينية - السياسية الحاكمة في طهران فهمت تماماً ماذا تعني القرارات الآتية من بريطانياوالولاياتالمتحدة، بغض النظر عن العناوين البارزة المتناقضة، ولذلك قررت السعي وراء فسحة أخذ نفس فإذا كان هدفها التقاط أنفاسها والاستفادة من زخم المعركة التي تخوضها القوات الأميركية ضد أعداء ايران في العراق، يجب على الادارة الاميركية أن تعي أبعاد وإفرازات تكتيك استيعاب العاصفة على الطريقة الايرانية لأن طهران محنكة في مثل هذه الألاعيب. أما إذا كانت طهران قد اتخذت حقاً قرار الشراكة الاقليمية والدولية بقفزة نوعية مستبعدة، فأمامها شتى الفرص لاثبات حسن النية. واضح ان حرب العراق تدخل منعطفاً قد يؤدي إما الى خلاص العراق من الاحتلال ومن أخطاء الاجتياح بحيث يتحول المنقذ الى جزء عضوي من المشكلة، أو قد يكون فيه انهيار العراق الى الشرذمة أو انسياقه الى التقسيم. لربما يتحول العراق رسمياً الى موقع قدم انزلاق الولاياتالمتحدة من مرتبة التفرد بالعظمة ليسجل التاريخ تقهقر القوات الأميركية تراجعاً. ولربما يتحول العراق الى ساحة خلاص العرب والمسلمين من حملات التطرف والارهاب وتسييس الدين والاستبداد بحيث تولد حقاً ديموقراطية ناشئة بعد مخاض صعب ومؤلم. ما هو واضح الآن ان حرب العراق ليست اليوم على نسق أن الأمور تسير كالمعتاد. انها حرب أتت، جزئياً، بإيحاء من معارضة عراقية أدركت ان لا مجال للتخلص من الطاغية صدام حسين سوى عبر القوة العسكرية الاميركية. وهي حرب ترثها معارضة الأمس التي أصبحت الآن سلطة اليوم ذات التحالفات المتعددة. فالأميركيون والبريطانيون وبقية دول"التحالف"تقول للعراقيين الآن ان حروبهم الطائفية لهم حصراً وأن المصالح العليا تقتضي حسم الأمور. التفكير الأميركي البعيد المدى، أي في أعقاب تعزيز القوات وشن المعارك الهجومية في بغداد، يتوجه نحو واحد من سيناريوهين: إما سحب القوات الاميركية كلياً من العراق لإعادة انتشارها في قواعد دول مجاورة وعلى متن حاملات الطائرات، أو إعادة الانتشار داخل العراق في قواعد في مناطق آمنة. هناك كلام عن انسحاب الى مناطق آمنة في اربيل والسليمانية وكركوك. وهذا ما تتمناه قيادات كردية تود تعزيز التحالف مع الولاياتالمتحدة كدرع يحمي كردستان اما من تفاهمات تركية - ايرانية - سورية على حساب الأكراد، أو من تشرذم أو تقسيم في العراق يترك كردستان العراق معرضة للانتقام. رائحة التقسيم والشرذمة تفوح من العراق مع ارتفاع وتيرة الحرب الأهلية والانقسامات الطائفية. القيادات الكردية تدرس مختلف السيناريوهات للمحافظة على ما أنجز في كردستان ولصيانة كردستان العراق من جيرة تخاف استقلال كردستان واحتمال اقتضام مثل تلك الدولة المستقلة أراضي في الاقاليم الكردية التابعة لتركياوايران وسورية. أكراد العراق يبدون، ظاهرياً، أكثر الفئات تنظيماً وتبدو المنطقة الكردية أكثر المناطق استعداداً في حال التقسيم والشرذمة، لا سيما اذا تمكنت من ضمان انضمام كركوك الغنية بالنفط الى"الدولة الكردية"في حال قيامها كأمر واقع مهما عارضت ذلك تركيا. انما هناك قلق مبطن لدى القيادات الكردية في حال سحب الحماية الأميركية عن كردستان بانسحابات اميركية كاملة من العراق باستغناء عن قواعد في مناطق آمنة. واقعياً، هذا تطور مستبعد ليس فقط في عهد جورج دبليو بوش وانما حتى في ظل رئاسة ديموقراطية بعد سنتين من الآن. ولكن، وفي ظل فرز التحالفات وموازين القوى في منطقة الشرق الأوسط، لا أحد في أمان. والقيادات التركية تذكّر من لا يريد أن يتذكر انها كانت طرفاً أساسياً في توفير الحماية للأكراد في العراق إذ كانت شريكاً عسكرياً للولايات المتحدةوبريطانيا في فرض منطقة حظر الطيران في شمال العراق في عهد صدام حسين. العنصر الكردي مهم جداً في الحديث الدائر بين تركياوايران حول مستقبل العراق وما تعنيه التطورات فيه ان بقيت القوات الاميركية فيه وإن غادرته بانسحابات مفاجئة. وزير خارجية تركيا عبدالله غل وصف تلك المحادثات بأنها مستمرة شأنها شأن محادثات ثنائية مشابهة مع السعودية وجيران آخرين للعراق. قال:"جميعنا يريد عراقاً مستقراً وعراقاً واحداً. ونحن لن نعترف بأي دولة ناشئة في المنطقة. ايران لا تريد دولة شيعية تنسلخ عن العراق. والسعودية لا تريد عراقاً مقسماً. لا أحد يريد ذلك"في العراق. ايران تود إقامة محور اقليمي يضمها وسورية والعراق معاً، تكون هي في موقع قيادته، يتحول الى نظام اقليمي جديد مبني على قوة اقتصادية ضخمة، تدعى إليه تركيا بشبه عضوية فخرية. إنشاء مثل هذا المحور هدفه ابلاغ كل من يعنيه الأمر ان الكلمة الأخيرة هي لايران في الشرق الاوسط. وهذا كلام جاء على لسان القائد العام لقوات"الحرس الثوري"الايراني، اللواء يحيى رحيم صفوي، قبل يومين بأن"ايران لها الكلمة الأخيرة في قضية إحلال الأمن في الشرق الأوسط. ولا يمكن لأميركا تغيير البنية الأمنية في هذه المنطقة بدون ايران". بمثل هذا المحور أو بدونه، ان الجمهورية الاسلامية في ايران تسير هذه الايام في سكتين متوازيتين: سكة رفض الاذعان لمطالب مجلس الأمن الدولي بتعليق تخصيب اليورانيوم كنطقة انطلاق، الى رزمة ترغيب ومكافأة لطهران على التعاون وذلك بحجة الكرامة والعنفوان. واقترن هذا التصعيد مع مناورات عسكرية تبين تطور القدرات الصاروخية الايرانية تزامنت عمداً مع اعلان الأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصرالله ان حزبه الموالي لايران أحضر المزيد من الصواريخ الى لبنان. هذا الى جانب تنسيق ايراني - سوري أثناء زيارة الرئيس السوري بشار الأسد للقاء الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد تلاه تحرك سوري عسكري للإيحاء باستعداد سورية لحرب مع اسرائيل، الأرجح عبر لبنان. السكة الأخرى تمثلت في إرسال طهران رسائل إعلامية تبين رغبتها في الحوار مع الولاياتالمتحدة لبحث المصالح"المتبادلة"حيث للدولتين مصالح. وجاءت هذه الرسائل الإعلامية في أعقاب حملة مشابهة عبر مختلف الاقنية، بما فيها قناة المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي، الذي أخذ على عاتقه جهود اقتلاع ايران من زاوية الضغوط الدولية وإيصال رسائل استعدادها للتعاون إذا حصلت على ضمانات. كذلك حمل وزير الخارجية التركية رسالة مشابهة من ايران أثناء مخاطبته مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك إذ قال ان طهران تريد الضمانات والتطمينات بالتزام الولاياتالمتحدة برزمة الترغيب والمكافأة وبفتح صحفة جديدة غير تلك التي وضع الرئيس الاميركي ايران فيها في صفحة"محور الشر". هاتان السكتان المتوازيتان تتداخلان عمداً في التكتيك والاستراتيجية الايرانية. انهما تعكسان حنكة سياسية من جهة وعقلية البازار من جهة أخرى. انهما مرآة القوة والضعف في تداخلهما على الطريقة الايرانية. فإيران قلقة وخائفة أكثر مما تعترف به، لكنها تمتلك أوراقاً تخريبية مهمة في العراقولبنان بشراكة مع سورية ومع"حزب الله"حالياً. وقع القرار في العراق على تخفيف المواجهة العسكرية مع القوات الأميركية وعلى فوائد انحسار ميليشيات مقتدى الصدر مع"اختفاء"له بتوقيت لافت ريثما تأخذ ايران وحلفاؤها نفساً من أجل إعادة النظر في التكتيك المطلوب مرحلياً واستراتيجياً، لا سيما على ضوء الانسحابات البريطانية من البصرة والتعزيزات الاميركية في بغداد. كذلك، ترى ايران ان اسوأ ما يؤذيها الآن هو ان تبدو زعيمة وقائدة في الاقتتال الطائفي بين السنة والشيعة. فذلك يحرض الأمة الاسلامية، ذات الأكثرية السنية، ضد ايران ويأتي عليها بالعداء من المغرب العربي الى اندونيسيا. وعليه، سعت طهران وراء فترة تنفس لترتيب أوراقها من جديد. إذا كانت الجمهورية الاسلامية صادقة في رغبتها في ايقاف الاقتتال الطائفي في العراقولبنان وما بعد، لديها الأدوات وما عليها سوى ان تبادر الى صفحة جديدة في علاقاتها الاقليمية والدولية بما يؤدي الى حفظ مكانة ايران، أما إذا كان النظام الايراني يسعى وراء ضمانات مسبقة بالاعتراف به مخرَباً في جيرته ومحفزاً على حروب مذهبية وراغباً في الهيمنة الاقليمية ومصدراً لانماط حكمه غير الديموقراطي، فإنه سيلاقي المزيد من العزلة واللوم على إشعال الحروب الطائفية. ايران في صدد فرز خياراتها وكذلك دول عربية مجاورة لها وللعراق. كثيرون في هذه الدول يدركون تماماً ان شيعة العراق ليسوا مجرد مجموعة تابعة لايران وان طهران تخشى الانسحاب الاميركي من العراق الذي يتركها وريثة لعراق محطم ومكسر وساحة لمواجهات الميليشيات وربما ايضاً ساحة مواجهة بين شيعة العراق وشيعة ايران. انما ما يحتاجه العراق من جيرانه العرب ليس دخولهم طرفاً وممولاً لحروب طائفية وأهلية فيه وانما انخراطهم مع العراق في حوار ضروري يتطلب قرارات صعبة من الطرفين. فعروبة العراق قرار عراقي أولاً، لكنه يحتاج الى جهد عربي والتزام جدي بمساعدة العراق ومرافقته الى التعافي بعيداً عن الاستقطاب المميت. العبء الاكبر يقع في هذه المرحلة على الحكومة العراقية. فهي قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية على رغم هشاشة وضعها ووضع العراق. فعندما هددت الحكومة العراقية باستخدام ورقة المعارضة السورية ضد النظام في دمشق عبر الحدود العراقية - السورية، أسرعت الحكومة السورية الى التعاون جزئياً مع بغداد. كذلك عندما أنكرت دمشق دعمها لحركات التمرد، فيما توفرت الأدلة الاستخباراتية لدى بغداد على ذلك، هددت الحكومة العراقية برفع شكوى رسمية ليس امام الجامعة العربية فحسب وانما في مجلس الأمن الدولي. عندئذ خافت دمشق وكوَعت أمام القرار الجريء لبغداد باعتزام فضحها. هذا مثال على ان لدى الحكومة العراقية أوراقاً في وسعها استخدامها كما لديها أدوات يمكن ان تعزز استقلالها وتطمئن جيرانها لحشد دعم جدي لها. فالعراق لا يجب ان يصبح ساحة حروب المحاور الطائفية بعدما استبيح ساحة لحروب الارهاب. ومع بدء انسحابات قوة التحالف من العراق وازدياد المؤشرات على حتمية انسحاب اميركي لاحقاً، ربما حان الوقت لتفكير جماعي لدول مجلس التعاون الخليجي في سيناريوهات ما بعد الانسحابات بما يعزز استقلال شيعة العراق عن ايران. فالاستقطاب يقوي أوراق ايران وقدراتها على شن حروبها من الساحات العربية وبالذات العراقولبنان. اما الاستراتيجية العربية الذكية، فإنها تلك التي تستفيد من ضعف وخوف ايران وحليفها في دمشق، لتقبل على العراق بجديد نوعي لمرحلة ما بعد الانسحابات.