تنهال الاستراتيجيات على الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما بهدف التأثير في التغيير الذي وعد به كعنوان لسياساته الخارجية. هذه الدعوات تأتي بالذات من الذين عملوا في إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون - ويتمنون العمل في إدارة أوباما - فيتقدمون بنصائح بعضها بعيد كل البعد عن التغيير الضروري في السياسة الأميركية الخارجية، لا سيما نحو منطقة الشرق الأوسط. بعضهم يحتج على المحاسبة وهم يروجون للمكافأة كأداة من أدوات الترغيب بإعادة صوغ تحالفات استراتيجية جديدة، وفي ذهنهم، أولاً، إيران وسورية. أما عندما يتعلق الأمر بمعادلة المحاسبة والمكافأة في السودان، مثلاً، يقلع معظمهم عنها بسرعة ويدعون الى تكبيل المكافأة وتصعيد المحاسبة. والسبب الأساسي هو اسرائيل التي لا مصلحة مباشرة ولا دخل لها بالسودان بقدر ما ان أصابع اخطبوطها ممتدة في ايران وفلسطين وسورية ولبنان. اسرائيل اليوم في حاجة الى شراء الوقت، ولا مانع لديها من صفقات المكافأة على ظهر المحاسبة. فإذا وقع الرئيس المنتخب فريسة قدامى السياسات الفاشلة التي يحن اليها رجال ونساء الإدارة الديموقراطية السابقة، فإنه بذلك لا يخون وعده بالتغيير فحسب وانما يستهل عهده بخسارة كبرى هي خسارة قوى الاعتدال في المنطقة العربية والعالم الإسلامي. فالتغيير يجب أن يكون ورشة عمل صادقة بين هذه القوى وبين الرئيس المنتخب في سياسات يصوغها لتأخذ طريقها الى شراكة حقيقة تدمج التطلعات في استراتيجية مختلفة عن الحسابات السياسية الضيقة التي يروج لها البعض. أخطاء الأمس عديدة منها ما تمثل في لوم الفلسطينيين وحدهم وإعفاء اسرائيل من أي لوم، كما حدث في عهد بيل كلينتون في سنة انخراطه في صنع السلام بعدما ترك فريقه لسبع سنوات لعملية السلام في الشرق الأوسط يتخبط بين المسارات الفلسطينية والسورية واللبنانية بعيداً عن اهتمام وزخم الرئاسة. بل ان ما فعله ذلك الفريق - بإيعاز أو بتوكيل من الرئيس كلينتون - يمكن تلخيصه في كلمة"إدارة"عملية السلام، وليس الدفع بها الى نتيجة. أخطاء الفلسطينيين بدورها متعددة وكثيرة، منها ما ساهم في إلصاق الإرهاب بهم من خلال عمليات ضد المدنيين، ومنها ما قوّض السلطة الفلسطينية بسبب النزاع على السلطة والخلافات مع"حماس"وفصائل فلسطينية ترفض خيار الدولتين والمفاوضات من أجل التسوية بسلام. الفارق هو أن الفلسطينيين يدفعون ثمن الأخطاء وثمن اللوم الموجه حصراً إليهم، فيما الاسرائيليون يعاملون دوماً وكأنهم الضحية الدائمة بلا محاسبة على استمرارهم في الاحتلال، وبإفلات دائم من العقاب على تجاوزات للقوانين الدولية وممارسات تتنافى مع واجبات احترام حقوق الانسان. كل ذلك بحماية اميركية يدفع الأميركيون ثمنها من دون أن يتجرأوا على الاحتجاج خوفاً من تهمة اللاسامية. وقد حان الوقت اليوم للكف عن الخوف وبدء التعبير عن الرأي ورفض الرضوخ للتخويف. الرهان على رئاسة باراك أوباما في رفع راية العدل والعدالة ليس رهاناً اعتباطياً ولا هو ناتج عن لون بشرة أو خلفية الرئيس المنتخب، كأفريقي بجذور اسلامية. انه الرهان على شخصية ووعد باراك أوباما، ولهذا من بالغ الضرورة التنبه لابعاد خسارته. فإذا كان في ذهن الرئيس المنتخب أن ينفذ تعهداته نحو دارفور، مثلاً، فهو في حاجة لأن يفكر بعمق في كيفية حشد أكبر قدر من الدعم العربي والافريقي والاسلامي وراء ضمان مبدأ عدم الإفلات من العقاب، إن كان الجاني رئيس دولة أو رئيس ميليشيات. وإذا كان في ذهنه تأكيد التزامه بالعدالة وإبراز اعتزامه رفض الازدواجية، عليه تطبيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب أينما كان ومهما كان. وهذا يعني رفض الصفقات السياسية على حساب هذا المبدأ، إن كان الجاني سودانياً أو سورياً أو اسرائيلياً أو أياً كان. ففي الحرب على الإرهاب يحتاج الرئيس المنتخب الى الشريك العربي والمسلم. وفي المعركة ضد الطغيان، شريكه هو الاعتدال العربي والاسلامي. وفي مكافحة الازدواجية والنفاق، فالسياسة المبنية على العدالة هي أهم وأفضل سلاح. والازداوجية ليست حصراً أميركية إذ أن لمواقف الكثير من العرب والمسلمين ازدواجية لا سيما عندما يمثلون شهوداً في حال انكار ونكران لواقع الجرائم التي يرتكبها قادتهم وميليشياتهم ضد شعوبهم البريئة وذلك بذريعة غضبهم واحتجاجهم على ازدواجية الغرب في عدم محاسبة نفسه على جرائم حرب ارتكبها كما في حرب العراق وفي غض نظر الأميركيين بالذات عن جرائم ترتكبها اسرائيل كالتنظيف العرقي. اليوم، هناك تطورات في كل من السودان ولبنان يجب أن تلفت انتباه جميع المعنيين، كما يجب أن تلقى اهتمام الرئيس الأميركي المنتخب وفريقه. فالذين راهنوا، في الحكومة السودانية، على شراء الوقت كوسيلة للنسيان وللتغطية على جرائم الحرب وللإفلات من العقاب والعدالة، سيواجهون قريباً وضعاً مهنياً ومخيفاً واللوم عليهم. فلا الصين التي تمسكت بها حكومة السودان درعاً لحمايتها من المحاسبة في دارفور معتمدة على علاقاتهما النفطية ستحول دون اصدار مذكرة اعتقال الرئيس عمر البشير. ولا المنظمات الاقليمية كالاتحاد الافريقي وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ستتمكن من ضرب الصفقات السياسية احباطاً لمجرى العدالة. ولا دول تسعى لايجاد صيغة تأجيل للعقاب وترغيب بتصحيح الأخطاء، مثل قطر ومعها أحياناً الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ستنجح بحسب المؤشرات. فالمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو دعا مجلس الأمن هذا الأسبوع إلى التهيؤ لقرار القضاة في شأن اصدار مذكرة اعتقال للرئيس السوداني"قريباً"بتهمة تحمله مسؤولية جرائم جماعية تُرتكب في دارفور الآن، وترتكب لأن البشير يريد ذلك. المحكمة الجنائية الدولية محكمة مستقلة دائمة تحقق وتقاضي المتهمين بارتكاب أخطر الجرائم ذات الطابع الدولي. ولا يحق لهذه المحكمة التدخل إذا كانت السلطات الوطنية في البلد المعني التي لها فيه الولاية القضائية قد بادرت إلى المحاكمة على هذه الأفعال ضمن قوانينها المدنية. ولا يحق للمحكمة التدخل في دولة لم توقع على اتفاقية روما التي أقرت تشكيل المحكمة الجنائية الدولية، ما لم يطلب إليها مجلس الأمن أن تتدخل وتحقق في مكان ما. وهكذا حدث في موضوع دارفور على رغم أن السودان ليس عضواً موقعاً على اتفاقية روما. فلقد وضع مجلس الأمن مسألة دارفور تحت الفصل السابع من الميثاق الملزم لجميع الدول وأوكل إلى المحكمة الجنائية التحقيق والمحاكمة على أي تجاوزات. أوكامبو، بصفته المدعي العام، اصدر القرار الظني ضد الرئيس السوداني، والقرار النهائي في ايادي القضاة. محاولات تعليق أو تأجيل تنفيذ القرار الظني واصدار مذكرة اعتقال تعرقلت على عجرفة الحكومة السودانية ورفضها اتخاذ اجراءات محلية على الصعيد الوطني، مثل بدء محاكمة المسؤولين عن المجازر الذين أدانتهم المحكمة الجنائية الدولية، أو مثل الإقرار الضمني، أقله، بأن الاغتصاب كأداة حرب يجب أن يتوقف، وأن قتل أكثر من 135 ألفاً وتشريد حوالي ثلاثة ملايين ليست تهماً باطلة ولا هي من صنع الخيال. مع حلول السنة المقبلة، وفي شباط فبراير في أقصى الحالات، سيصدر القضاة في لاهاي قرارهم المتوقع له أن يؤكد على القرار الظني الذي أصدره المدعي العام أوكامبو، الواثق جداً من الأدلة المتوافرة لديه ويقول علناً أنه لم يخسر حتى الآن قضية واحدة قام بمرافعتها. عندئذ، ستصدر مذكرة اعتقال لا سابقة لها بحق رئيس ما زال في السلطة، وسيكون على الدول واجب تنفيذ أوامر المحكمة الجنائية الدولية. كثير من الدول العربية يتصرف على اساس أن لا دخل له بقرارات هذه المحكمة، لأن الدول العربية - باستثناء الأردن وموريتانيا وجيبوتي - ليست ملزمة بالمحكمة الجنائية باعتبارها ليست طرفاً في اتفاقية روما. القانونيون يختلفون على هذا الرأي، ويقولون إن احالة مجلس الأمن لحالة دارفور إلى المحكمة الجنائية بموجب الفصل السابع يلزم الدول إن كانت وقعت أو رفضت التوقيع على اتفاقية روما التي تضم 108 دول والتي ترفض الولاياتالمتحدة أيضاً الالتحاق بها. خلاصة الأمر، أن لا مناص من مواجهة الرئيس السوداني لاستحقاقات عدم الافلات من العقاب بعدما فات الأوان على الصفقات. قد لا يُعتقل في غضون سنة أو حتى لسنوات، وقد يبقى في السودان من دون قدرة له على السفر، وقد ينتقم باجراءات اضافية في دارفور وضد القوات الدولية - الافريقية المشتركة، إنما كل ذلك سيكون بمثابة قطع الأنف للانتقام من الوجه. فالشعب السوداني هو الذي يدفع الثمن. وقد حان للرأي العام العربي أن ينظر إلى الغابة بدلاً من التركيز - والاختباء وراء - الشجر. كذلك الامر في ما يتعلق بتطبيق مبدأ رفض الافلات من العقاب في مسألة لبنان. فلقد راهن البعض على الصفقات السياسية لإلغاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية، وها هي الآن جاهزة لبدء أعمالها في آذار مارس. الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون تعهد في حديثه الى"الحياة"السبت الماضي بأن"لا تراجع عن اصرارنا على انهاء الافلات من العقاب"، واصفاً بدء المحكمة الخاصة بلبنان بأنه"تطور تاريخي في الشرق الأوسط"، ومؤكداً على مثول مرتكبي الجرائم الإرهابية أمام العدالة"أينما كان وفي أي زمن كان وأياً كان". الغضب العربي من افلات إسرائيل دوماً من العقاب له مبرراته التي يجب على الرئيس المنتخب باراك اوباما الاستماع جيداً إليها اذا كان حقاً جاداً في رفع راية العدالة والالتزام بضرورة وقف أنماط الافلات من العقاب. ويجدر بالذين يكيلون الاستراتيجيات على الرئيس المنتخب أن يكفوا عن الازدواجية المسيئة للجميع والمبنية على صون إسرائيل من المساءلة، وتقديم الحصانة لها للإفلات من العقاب. هذه الازدواجية الأميركية تضر بالمصلحة الأميركية ويجب على الرئيس المنتخب الحرص على ازالتها كي يتمكن من حشد الشريك العربي والمسلم للقضاء على الافلات من العقاب. أما الازدواجية العربية القابلة لتجاهل جرائم قياداتها بحق الابرياء العرب متذرعة بعدم محاسبة إسرائيل، فإن واجبها رفع رؤوسها من الرمال والالتحاق بمعركة مصيرية للمنطقة أجمع أساسها انهاء زمن الافلات من العقاب والمحاسبة. نشر في العدد: 16681 ت.م: 05-12-2008 ص: 15 ط: الرياض