لا يستطيع المراقب أن يغفل طويلاً حضور"القيصر"كارل لاغرفيلد، حتى ولو توارى عن الأنظار، فهو ممثَّل بمئات العارضات والعارضين على الخشبات، في الواجهات والمحال، ناهيك بما ترتديه النساء حول العالم من تصاميمه. مع ذلك، كارل لاغرفيلد مصرّ على تذكيرنا ب"اختلافه"في سياق سلسلة طويلة من التصرفات والصرعات آخرها إعلانه عن نفسه مصوراً فوتوغرافياً لا يقبل صفة الهواية ذات الإيحاء الانتقاصي نسبة الى شخصيته المميزة. يشهد على ذلك الاستوديو الضخم البالغ طولاً وعرضاً حجم ملعب كرة مضرب في قلب باريس، وحيث يعمل ستة مساعدين تقنيين الى جانبه، وحيث يدير بيت شانيل، وأزياء فندي، إضافة الى ماركته المسجلة باسمه، وحيث تتمدد المقاعد الوثيرة والأسرّة الجاهزة للعارضات المسافرات كي يرتحن قبل بدء العروض، وحيث تنتشر الكومبيوترات والكاميرات والطابعات والمكاتب والمرايا ومناضد الماكياج وتملأ الجدران - لا اللوحات الفنية - بل رفوف تضم 60 ألف كتاب من ثلاثمئة ألف موزعة على بيوته في باريسونيويورك وموناكو، وحيث أقام غرفة تصوير مجهزة بأحدث آلات العصر. شغفه بالعدسة بدأ سنة 1987 بعدما التحق بدار شانيل وكان يحضّر ألبوم عروضه الأولى. من هناك انتقل الى تصوير الأعمال الفنية واللوحات الإعلانية، إضافة الى نجوم السينما بمن فيهم جاك نيكولسون ونيكول كيدمن وكاترين دونوف، علماً أنه يفضّل المعالم الهندسية ويحضّر لمعرض في قصر فرساي سيتضمن لقطات منمّشة بالأبيض والأسود ذات منحى نوستالجي، على غرار مصوّري الحقبات المبكرة من القرن الفائت مثل إدوارد ستيشين، وألفريد ستيغليتس وإيرفينغ بن. يقول لاغرفيلد إنه لا يملك خطة أو أسلوباً محدداً، بل يتبع حدسه ويلتقط الصور كما تتشكل أمامه، لكنه يعترف بأن شخصيته لا بد من أن تشفّ من مجموعة اللقطات التي يعرضها:"صحيح، لذلك تراني أغيِّر كثيراً، كي أختبئ، كي ألعب وألجأ الى عدد غير محدود من التقنيات". ويقرّ لاغرفيلد أيضاً بأن عمله الفوتوغرافي لن يوازي في شهرته ونجاحه ما حققه في عالم الأزياء، لكن ذلك لا يبرّد حماسته بل تراه يكرّس نصف وقته للكاميرا والنصف الآخر لدارتي شانيل وفندي وتصاميمه الخاصة التي تتضمن مجالات في الهندسة والديكور بينها 80 فيللا فخمة لمشروع"فاشن لاند"في دبي. ويقول لاغرفيلد:"أرسلوا إليّ طائرة خاصة. لكنني قلت إنها صغيرة، أريد طائرة أكبر. أليس ذلك مسلياً؟". في التاسعة والستين من عمره، أين يجد كارل لاغرفيلد الحيوية اللازمة لمتابعة مشاريعه المتنوعة؟ يقول:"الحيوية كالتنفس بالنسبة إليّ. فأنا لا أفكّر فيها على الإطلاق". لعلّ سرّ شخصية لاغرفيلد يكمن في نشأته وطفولته، فهو من جيل الحرب العالمية الثانية. والده مزارع وتاجر موسر أدخل الحليب المركّز للمرة الأولى الى ألمانيا ووالدته صارمة التربية، طالما منعته من التحدث ببطء أو تلكؤ، لذا فهو اليوم يتكلم بسرعة ملحوظة."أنت في السادسة من عمرك، أما أنا فلا"، كانت تقول له. ورفضت أن تدعه يرتدي نظارات طبية على رغم حاجته إليها:"الأولاد الذين يرتدون نظارات هم أقبح شيء في الوجود"، كانت تقول. أرسلت شقيقتيه الى مدرسة داخلية واحتفظت به في البيت لأنه كان يوازيها شغفاً بالموضة. وعمد منذ حداثته إلى ترك شعره يطول وارتدى ملابس نمسوية لا وجود لها في شمال ألمانيا:"منذ البداية، شئت أن أكون مختلفاً عن الآخرين. لماذا؟ هنا السؤال الكبير. هدفي الأوحد كان الخروج من محيطي. ولذا انكببت على تعلّم اللغات فأصبحت أتكلم الفرنسية والإنكليزية قبل السادسة من عمري". مدمن معلوماتية من الطراز الأول، يملك مكتبة في باريس ودار نشر في ألمانيا، ويهتم بالتاريخ فوق كل شيء، خصوصاً تاريخ الأفراد المجلّين:"أنا مهتم بحياة الذين لم أعرفهم"، يقول، علماً أنه عرف معظم مشاهير القرن العشرين، لكن ما سبب هوسه بالمعلومات؟ يروي كارل لاغرفيلد:"كان لي خال أحبه كثيراً لأناقته وثقافته. وكنا نتمشى ذات يوم عندما رأينا نصباً لشاعر ألماني فسألني عن اسمه، وصفعني لأنني لم أكن أعرفه، مع أنه شاعر عادي جداً. لم أنس تلك الصفعة بل حفزتني منذ كنت في العاشرة على ملاحقة المعرفة بكل الوسائل المتاحة لديّ". في الخامسة عشرة من عمره، انتقل لاغرفيلد الى باريس للدراسة، وبعد سنتين دخل مباراة دولية للأزياء فربح الجائزة المخصصة للمعاطف، وبالتالي انطلق في سلّم تصاعدي من دارة بيار بلمان الى دور: بالانتاين، شارلز جوردان، فالانتينو، كلويه، وصولاً الى رأس الهرم في شانيل عام 1982، حين كانت الدار على وشك الأفول. سنة 1996، حاز لاغرفيلد جائزة الجمعية الألمانية للتصوير الثقافي، والعام الفائت حصل على جائزة نيويورك الدولية تقديراً لريادته في مجال الصورة من خلال إنجازاته في عالم الأزياء، فهل يتخلّى يوماً عن الأزياء لمصلحة التصوير أم العكس؟ يقول لاغرفيلد:"أفضّل الانتحار على مواجهة خيار كهذا. لماذا عليّ أن أفعل، فأنا أحب ما أقوم به وهذا يكفيني. ولا أهتم أبداً لرأي أحد". نشر في العدد: 16680 ت.م: 04-12-2008 ص: 29 ط: الرياض