كانت الطائرة محتشدة. شرحت لابنتي الشابة بإسهاب، سعيت لإخفاء ما كان يخالط شرحي من اعتزاز، أن الركاب في غالبيتهم، هم ممن هاجروا إلى الأميركتين أو إلى إفريقيا، ولكنهم يعودون كلما سنحت لهم الفرصة، لتعلقهم ببلدهم. ورحت أتوسع في التفاصيل، موضحة الفارق بين البيئات السوسيولوجية للهجرات، مما شككتُ في أنه يضجرها ربما، ولكني استغليت أدبها لأمعن في تعريفها بلبنان، تعويضا في زعمي عن عيشها في سواه، رغم أنها تزوره بكثرة. وبقيت هي منصتة، تطرح أسئلة استفسارية بين الحين والآخر، كعلامة"خارجية"على الاهتمام. كنت أوظف بطريقة مفيدة الدقائق الطويلة التي تفصل الصعود إلى الطائرة عن الإقلاع. تباً لجديتي التي كانت موضع تندر لطيف من أصدقائي في مرحلة الشباب! عدتُ وقلتها لنفسي أثناء الشرح ذاك، وكنت اعترفت بها أمامها حين لاحظتْ ضاحكة، وإنما مع نبرة لوم خفيفة، كمية الحقائب التي كان يسجلها المسافرون اللبنانيون، فيما أجبرتها على تنظيم حقيبتها بعقلانية من سيمضي أسبوعا خارج منزله، فلا يحتاج لكل تلك الملابس، واضطرتْ هي إلى التفاوض معي حول كل الزيادات، والى إبراز حجة الأعياد... ثم احتلتْ ما يعتبره المسافرون اللبنانيون ? هذه تقاليد وطنية، قلت لها مازحة! ? حقائب يد، هي في الحقيقة حقائب فحسب، احتلت كل الخزائن فوق رؤوسنا، فاحترنا في كيفية حشر الكمبيوتر الشخصي الذي ننقله معنا، لدواعي العمل المستمر، بينها. واقترحتْ مسافرة كانت قد شغلت الخزانة أن نبقيه إلى جانبنا على المقعد أو نضعه تحت الكرسي، رغم أنها سبقتنا وموضعتْ في المكان حقيبة ماكياج جلدية مستديرة، قائلة أمام انزعاجي الذي لا بد أنه رشح منه شيء في نظرتي،"ولو؟! بسيطة". أما المضيفة بذاتها ? وهي معتادة على الموقف أو"متعووودة"على قول عادل إمام الشهير? فاقترحتْ أن تأخذه هي وتضعه في خزانة ما بعيدة عن مكان جلوسنا، ومدت يدها بادئة بالتنفيذ، وفق السلطة التي تمنحها إياها البدلة التي ترتديها، مما رفضته قطعياً، مطالبة بحقي بحصة في الخزانة فوق رأسي!! وأمام صرامتي، جرت إزاحة الأغراض المتكدسة وانزلق الكمبيوتر بينها، فحُلت المشكلة. واستعدتُ الشرح لابنتي التي علت وجهها ابتسامة خفيفة، أغاظتني، ولكني تجاهلتها تماماً: فهي أرادت الوقوف بسرعة في الصف الصاعد إلى الطائرة، ولم أستجب لذلك، واصفة هذا الاحتشاد والتسابق بالسخافة! ومع بدء مرحلة عدّ الركاب، ومطالبتهم بلا طائل بالجلوس في أماكنهم وتأجيل الزيارات لما بعد الإقلاع، لاحظتْ المضيفة أن حقائب عديدة رُكنت في الفسحة أمام مخارج الطوارئ، فحاولت إعلاء صوتها قدر ما تقدر، مخففة بابتسامة غنجة طلبها المزعج بنقل تلك الحقائب من هذا المكان. فلم يستجب أحد. عاودتْ الطلب بواسطة الميكروفون هذه المرة، وخلتُ أني سمعت تضاحكاً في صف غير بعيد عني، يحتله شبان لم يعودوا صغاراً، يرطنون بمزيج من لهجة لبنانية مكسرة هل حقاً عشرون عاماً مثلاً، في"الستايتس"أو في"الفنزويلا"? مثلاً أيضا - تشوه اللهجة إلى هذا الحد؟، وبعض البرتغالية، يفهم منها ومن بعض أسماء المدن المذكورة أنهم مسافرو ترانزيت قادمون من البرازيل. واعقب ذلك محاولة ثالثة من مضيفة اكبر سناً، خلتُ ? يا للظن! ? أن التضاحك بعد ندائها امتزج برنة بذيئة، من تلك التي تعقب عادة التعليقات الجنسية. وفي الإثناء كان صوت ذكوري يطلب من أصحاب الهواتف النقالة إغلاقها لأنها تعرقل آلات الملاحة. وعاد الصوت الذكوري بعد دقائق ليعرف عن نفسه? سلطته: القبطان فلان قائد الرحلة، محدداً انه ما زالت هناك هواتف نقالة مفتوحة، مهدداً انه لن يتحرك بطائرته قبل إطفائها! بقيت الحقائب العديدة ? تفوق السبعة على ما حاولتُ العد ? أمام مخارج الطوارئ. حضر مضيف بدأ الشيب يخط رأسه وقال بصوت جهوري إن الطائرة لن تتحرك قبل تعريف أصحاب الحقائب بأنفسهم. لا فائدة! فقال مرة ثانية، بعدما التحق به مضيف آخر أكثر شباباً، بينما وقفت المضيفات الإناث في موقع خلفي منسحب، انه سُينزل الحقائب إلى الأرض! وراح يقرن القول بالفعل، رافعا أولاها نحو من اعتبره مساعده الذي هم بنقلها نحو مقدمة الطائرة، إيحاءً بباب الخروج. عندها تحرك بتثاقل أحد هؤلاء الشبان، وقال ? من دون أن يبدو عليه خجل أو ارتباك، بينما قلتُ في نفسي إني لو كنت مكانه لوددت لو تنشق الأرض وتبتلعني ? أن الحقيبة له. وانتقل إلى مفاوضة المضيف حول مكان تخزينها الممكن. وتطلّب التعريف بسائر الحقائب تكراراً"للضغوط"من قبل المضيف ومساعده، ليظهر أن أصحابها متنوعون، وليسوا فحسب تلك"الشلة البرازيلية". أخّرَ هذا التهريج الإقلاع بما لا يقل عن نصف ساعة. وأما ما فاجئني بداية، فهو خلو ردة فعل المضيفين من أي غضب أو لوم، وتعاملهم مع تقاعس أصحاب الحقائب بعد مخالفتهم للقواعد، وكأنه شيء طبيعي للغاية. بل ان المضيفات، في الطريق نحو تعيين أماكن التخزين الجديدة، رحن يمازحنهم بشيء من الإعجاب بالشطارة التي حاولوا ممارستها، وبدا لي أن هناك تبادل عناوين على وشك الوقوع! وما فاجئني بعد ذلك هو الاختلاف في سلوك المسافرين ما بين ركوبهم في طائرة الخطوط الجوية اللبنانية هذه، أو في تلك الأخرى الفرنسية، وهما الشركتان اللتان تحتكران السفر المباشر من باريس إلى بيروت: اختلاف يشي بأن ممارسة ال"كود"السلوكي، المستند إلى تقاليد التجاوز على حقوق الآخرين وعلى القانون، ثم التشاطر، ثم التسامح مع المخالفة بوصفها شيئاً طبيعياً، ثم التواطؤ على التسوية، ثم الذكورية المعتمدة من الرجال والنساء على السواء... كأن هذه الممارسة واعية، تطلق العنان لنفسها في البيئة اللبنانية، وتعرف موجبات الانضباط، وإن الظاهري، في سواها. إنه مشهد من الانفصام اللبناني، لعله يضيء على سواه من المشاهد اليومية! في الأثناء، نسيتُ تماماً ابنتي التي اعترفتْ لي في ما بعد أنها خالتْ أن أمراً جللاً يجري! نشر في العدد: 16704 ت.م: 28-12-2008 ص: 24 ط: الرياض