لا يمكن ان نزعم أنها الأفلام الأفضل والأقوى والأنجح لهذه السنة التي بدأت تغيب، لكنها مع هذا أفلام مميزة، كل منها في مجاله... أفلام لفتت الأنظار لسبب أو آخر، أو لأسباب عدة في الوقت نفسه. بعضها فاز بجوائز أساسية، وبعضها أطل من بلدان لم يكن متوقعاً ان يكون فيها إنتاج من هذا المستوى، وبعضها قال قضايا شائكة، أو لعب على تناقضات أو على تاريخ ما، وهذا كله جعلها الأبرز والتي تستحق ان تبقى في الذاكرة، ليس طوال السنة نفسها، بل بعدها بسنوات، وربما في تاريخ السينما، في بلدانها أو على مستوى العالم، حتى وإن كان البعض أثار نقاشات بين من هو مع ومن هو ضد. في اختصار هي علامات أساسية في سينما عام 2008، سواء حققت إجماعاً أو لم تحقق. أول هذه الأفلام هو"تشي"المتحدث في أكثر من أربع ساعات عن حياة المناضل الأرجنتيني أرنستو غيفارا. لم يكن هذا الشريط الملحمي الذي حققه الأميركي ستيفن سودربرغ، أول فيلم عن بطل الثورة الكوبية وسيد البؤر الثورية، لكنه كان الأفضل والأكثر دلالة. فهو فيلم اميركي هوليوودي، على رغم ان تمويله أوروبي. ومن هنا يصح اعتباره رداً لا بأس به على ظلم هوليوود لغيفارا، حيناً، أو تجاهلها له أحياناً أخرى."تشي"المؤلف من قسمين من المفترض ان يعرضا معاً، كان الأبرز بين افلام السيرة السياسية كذلك، خلال السنوات الأخيرة، وزاد من مكانته وأهميته ان"دبليو"لأوليفر ستون الذي اختتم السنة، لم يأت كما كان متوقعاً له، فظل"تشي"متفرداً، يعيد الى الأذهان، حكاية صاحبه من ثورة كوبا الى النضال العالم ثالثي، الى المغامرة البوليفية التي انتهت بخيانة تذكرنا كيف ان ما من بطولات تبقى على مر التاريخ من دون خيانات تعطيها رونقها. من كندا، وعلى يد مخرج أرمني ولد في مصر، هو آتوم ايغويان، اتى فيلم مميز آخر من أفلام السنة، من الغريب انه لم يحظ بالنجاح الذي كان يستحق. وربما لأن العالم سئم بعض الشيء أخبار الشرق الأوسط وحكاياته، إن لم تكن مباشرة الى درجة مضجرة أخبار تلفزيونية مثلاً. الفيلم هو"عبادة"الذي تناول فيه ايغويان بذكاء شديد، مسألة الإرهاب الشرق أوسطي، من خلال لعبة مزدوجة: الإنترنت كما تعامل معه صبي فلسطيني الأب، اشتغل على حكاية قديمة لمناضل فلسطيني أرسل زوجته الى فلسطين وهي حامل، ومحملة بحقيبة فيها متفجرات من المفروض ان تنفجر في الجو وتفجر معها الطائرة والركاب! والحكاية المعاصرة التي تعيشها، من خلال الصبي نفسه، أستاذته ذات الأصول اللبنانية والتي بارحت بيروت بفعل الحرب الأهلية. من حول هذين المحورين بنى ايغويان فيلماً يقول أموراً كثيراً، ويدخل أعماق الأمور، من دون ان يبارح كونه لعبة في نهاية الأمر. مع مثل هذا الفيلم يمكن القول ان السينما تجد مبرراتها. شيء مثل هذا يمكن ان يقال عن فيلم آت من تركيا، هو ثالث فيلم لنوري بلجي جيلان، يصل الى المهرجانات العالمية "كان"هنا ليقول الكثير حول الإمكانات التي لا يزال في مقدور الفن السابع ان يحملها: إمكانات تقديم حكايات حميمة شديدة الإنسانية والقوة، وشديدة الدلالة، تقول نظرة الفنان الى مجتمعه، والى التبدلات التي تطاول مثل هذا المجتمع. الفيلم هو"ثلاثة قرود"الذي إذ يقدم حكاية قد تحدث في أي يوم وفي أي مكان، عرف كيف يتجاوز هذه العادية، شكلاً ومضموناً، ليقول خصوصية الحكاية، وقدرة الفن على تجاوز نفسه من خلال ثلاث شخصيات وعلاقات متشابكة، ولغة فنية وموضوعية، تضع تركيا نفسها وفنونها ومجتمعها على عتبة الدخول الى أوروبا أي الى زمن العالم. لسنا ندري ما اذا كان"غومورا"الإيطالي، هو أفضل ما أرسلته سينما ايطاليا الى الخارج هذه السنة. لكن ثمة من حول هذا الفيلم الذي حققه ماثيو غاروني، عالماً بأسره: عالم عصابات المافيا في مدينة نابولي، التي تتحكم بالمدينة وحياة أهلها جاعلة نفسها بديلاً من الدولة. العصابات حقيقية، والمدينة حقيقية، والفيلم نفسه مأخوذ من كتاب تسبب نشره في إحاطة كاتبه بالمخاطر، ما أضفى على الفيلم، المشغول بلغة قوية على أي حال، والمتحدث عن هذه العصابات وإمساكها بمقدرات المواطنين، ولا سيما الأطفال منهم حتى يكبروا ويصبحوا جزءاً منها، من المهد الى اللحد، اضفى عليه ميزات اضافية تقول كم ان السينما، في الوقت الذي تسلي وتقدم حكاية، تفضح واقعاً، يبدو من مصلحة كثر ان يبقى مسكوتاً عنه. شيء من هذا القبيل يعكسه فيلم"بين الجدران"للفرنسي لوران كانتيه، الذي ? انطلاقاً من مشاهد ومواقف وشخصيات تبدو للوهلة الأولى أقرب الى الكليشيهات ? يقول ما يعتمل في قلب المجتمع الفرنسي في زمننا هذا، ولا سيما بالنسبة الى مشاكل العمال المهاجرين وأبنائهم، وقدرة المجتمع أو عدم قدرته على دمج هؤلاء في بوتقة مجتمع بات يعرف ان لا غنى له عن دمجهم. ليس في هذا الفيلم حكاية ولا إطار درامي... بل هو يرسم شرائح من الحياة، في مكان مغلق، ومن خلال أستاذ وتلامذته المتعددي الأصول والأخلاق والتصرفات."بين الجدران"يرصد حياة هذا العالم خلال سنة، ويرصده في شكل كان من القوة، بحيث أعطى فرنسا السعفة الذهبية في مهرجان"كان"بعد ان غاب الفرنسيون عن هذه الجائزة أكثر من عقدين. ولا شك في ان هذا الفوز كان له وقع مدهش. في بلد سيعود بعد شهور ويحصل على جائزة نوبل للآداب لمبدع فرنسي آخر هو لوكليزيو، فهل علينا ان نذكر بأن أدب هذا الأخير، وفيلم كانتيه ينتميان معاً، الى الذهنية الفرنسية المناهضة للعنصرية، المنفتحة على آفاق جديدة؟ آفاق جديدة هي تلك التي يفتحها امام السينما المصرية الفيلم الروائي الطويل الأول لأحد شبان السينما الجديدة المستقلة، ابراهيم بطوط. الفيلم هو"عين شمس"الذي يحدث تجديداً في اللغة السينمائية وفي الأجواء والمواضيع، في بلد بات ظهورً فيلم جيد جديد فيه، اشبه بمغامرة مستحيلة ، فكيف بفيلم يريد لنفسه ان يكون شاعرياً وجديداً وطليعياً، في الوقت نفسه الذي يريد ان يكون عملاً شعبياً؟ ابراهيم بطوط الذي كان برز في السابق من خلال أفلام تسجيلية، سينمائية وتلفزيونية، كما من خلال فيلم"ايتاكا"الذي يقف فريداً في مسار السينما الشابة في مصر، يحلق عمله الجديد هذا من حول دراما عائلية، في حي شعبي، ترسم مسار المجتمع البسيط الطيب في مصر، منظوراً إليه الى حد ما من خلال عيني طفلة كل أملها ان تزور وسط المدينة قبل ان يميتها سرطان قاتل ألمّ بها، ولم تنفع كل جهود أبيها الطيبة، لإبعاده. من مصر ايضاً، ولكن في مجال أبعد بعض الشيء، يأتي فيلم يسري نصر الله الجديد"جنينة الأسماك"الذي يدور من حول لقاءات غير عادية، بين مذيعة برنامج إذاعي ليلي، وطبيب شاب، من دون ان نعرف لماذا هذه اللقاءات اصلاً وإلى أين ستسير، وهل هي لقاءات حقيقية؟ غير ان هذه الأسئلة لا ينبغي ان تجعلنا نعتقد اننا امام فيلم معقد، على العكس:"جنينة الأسماك"فيلم أقرب الى البساطة، ذو عالم ليلي مدهش وتمثيل متميز وشخصيات مرسومة بعمق وأناقة، ناهيك بموضوعه الجديد، الذي يجعل البطولة الأساسية للمكان وقد اختير له ان يقف خارج الزمان. ما يفتح امام السينما المصرية الجديدة آفاقاً طازجة. هذه الكلمات نفسها يمكن استخدامها للحديث عن"دخان بلا نار"ثاني فيلم روائي طويل للبناني سمير حبشي، الذي كان قبل عقد ونصف جدد في سينما الحرب اللبنانية في روائيّه الأولى"الإعصار". بالأحرى، كان يمكن قول ذلك عن الفيلم الجديد، لولا بعض المبالغة في بناء موضوع بأكمله من حول فكرة غير دقيقة، إذ لسنا ندري تماماً ما اذا كان موكب السفير الأميركي في بيروت، الآن أو في الماضي، يسقط الناس قتلى في الشوارع لدى مروره. المهم انه طالما ان الفيلم اختار ان ينبني على هذا الأساس، ربما كان من الأفضل له ان يجعل هذا البعد فيه، جزءاً من خيال ذلك المخرج المصري خالد نبوي الذي جاء الى لبنان ليحقق فيلماً عن القمع والتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان في البلدان العربية. لو فعل وأوضح هذه الفكرة لكان بدا عملاً مميزاً من أفلام"سينما داخل السينما"، ولبرر، عبر رمي الموضوع كله على خيال المخرج، كل تلك المبالغات التي طبعت فيلماً، يمكن ان يقال عنه انه مميز، ولو من ناحية انه جدد في مجال اللجوء الى الإنتاج المشترك بين البلدان العربية، في مجال، ربما يكون هذا النوع من الإنتاج، حلاً لبعض مشاكله. إنتاج مشترك آخر، ومدينة أخرى: فيلم وودي آلن الذي عرض خلال 2008،"فيكي كريستينا برشلونة". فيلم أقرب الى الكلاسيكية من سيد سينما الهزل النيويوركي، أعاد الاعتبار الى سينما آلن، ولكن ايضاً، الى نوع من الأفلام الأميركية كان سائداً في الخمسينات والستينات. نوع يعالج الفوارق في الذهنيات بين اصل العالم الجديد اميركا وأصل العالم القديم أوروبا... وإسبانيا تحديداً هنا. من حول هذا الموضوع بنى وودي آلن فيلماً لم يمثل فيه وإن كان حافظ فيه على مستوى من الثرثرة يبدو مزعجاً في بعض الأحيان، ولكن يمكن تقبله لغنى الموضوع، ثم بخاصة لقدرة المخرج على إدارة عدد من الممثلين أعطوا الفيلم قيمة إضافية واستثنائية خصوصاً سكارليت جوهانسون، وبينيلوبي كروز. إضافة الى هذا، يمكن النظر الى هذا الفيلم على انه عمل بحث جاهداً عن استعادة ما للرومانسية ولروعة المكان، في نص يقبع الحب فيه وسط زحام الجنس، وتكاد المدينةبرشلونة لا تظهر وسط تضارب العواطف، ولحظات اختفائها. كل هذا يجعل من"فيكي كريستينا برشلونة"عملاً راهناً، ذكياً، خفيفاً، كما المرآة المصقولة. بعيداً من هذا كله، بقي فيلمان يحتلان معاً المكانة العاشرة في هذه القائمة، لتشابه موضوعيهما، حتى وإن اختلفت ذهنية كل واحد منهما. فالموضوع في"متن من الأكاذيب"لردلي سكوت وپ"احرق بعد القراءة"للأخوين جويل وإيتان كون، واحد هو: الاستخبارات المركزية الأميركية . والأكاذيب التي تدور فيها ومن حولها. هوليوود التي لا ترحم، تمعن في هذين الفيلمين دخولا وتعمقاً في عالم هذا الجهاز الأميركي الحساس، ما يشكل اضافة نوعية للسجالات الحادة من حول الوكالة. ولكن ايضاً من حول هوليوود، ومن حول السياسة الأميركية ككل. نشر في العدد: 16702 ت.م: 26-12-2008 ص: 22 ط: الرياض