ربما تتميز هذه المرحلة التي تمر فيها المنطقة العربية بأنها من أدق المراحل وأصعبها على الإطلاق إذ تشهد القضايا الرئيسية التي صادرت اهتماماتنا لفترة طويلة من الزمن أزمات داخلية وانقسامات تحول دون امتلاك العرب لعناصر قوتهم الذاتية وتحول دون تبنيهم لتصور واضح حول كيفية المواجهة وتشكيل طليعة موثوقة تتحلّق حولها أدوات الفعل من كوادر ونخب وأحزاب ومجتمع مدني وغيره. بالرغم من أن"الممانعة"بشكل عام استطاعت أن تشكل رافعة لكثير من الجهود المبذولة في هذا الإطار لكنها في ذات الوقت لم تخرج من دائرة"الذاتية"في مقاربتها للأمور. وفي حين أن هذه المرحلة هي الأكثر فراغاً من حيث اعتماد الأهداف الواضحة والاستراتيجيات الهادفة التي تجتمع عليها عناصر الأمة وهيئاتها، فإنها في ذات الوقت من أكثر الأزمان زخماً بالحواشي والشعارات والادعاءات التي تعكس حقيقة الأزمة على مستوى الممارسة والتطبيق. فتجسيداً لذلك أنت تجد زحمة نخبويين ونتاج فكري كبير من دون تحولات نوعية تعكس هذا التراكم بمعنى من المعاني، أو زحمة ديموقراطيين من دون ديموقراطية واحدة في العالم العربي، وزحمة قوميين من دون مواجهة قومية تكون على مستوى القوميات التي تبني دولاً حقيقية بادئ ذي بدء، وزحمة عروبيين في غياب نظرية عروبية تواكب الحضارة وتفتح آفاق المستقبل، ثم زحمة"ممانعين"في ظل علامات استفهام كبيرة تتعلق بالمآل الذي وصلت إليه الممانعة بشكل عام. ثمة ما يستدعي التوقف عنده بعد الحدث السياسي الذي يصل بين الزمنين قبل الممانعة وبعدها، أي المفاوضات التي بدأت بين سورية وإسرائيل والتي تنقل كامل المنظومة من مرتبة إلى مرتبة أخرى أو على الأقل تقطع بين سياق وسياق آخر من داخل المنظومة ذاتها، إذ هل انتهت الممانعة إلى ما وصلت إليه مفاوضات الأسد رابين في جنيف؟ الجواب لحد الآن كلا. مع العلم أن شعار رفض التفاوض إلا على قاعدة الاعتراف بوديعة رابين لم يعد يظهر، حتى أن أولمرت نفى أن يكون قد تعهد بالانسحاب الكامل من الجولان إلى خط الرابع من حزيران يونيو من دون مقابل يقلب المعادلة الشرق أوسطية برمتها. فما الذي تغير إذاً؟ لقد جاءت الممانعة لتقول إن أسلوبي في مقارعة العدو الإسرائيلي هو الأسلوب الأنجع. وقد تلازم هذا الشعار مع مجموعة تردادات ومقولات تخطت في معناها الحدود القطرية للمُمانعة مثل"وحدة مسارات التفاوض"،"سلام الشجعان"،"السلام خيار استراتيجي"،"وحدة المسار والمصير بين سورية ولبنان"،"السلطات المتخاذلة"،"الحكام العرب المتآمرين"،"نهج المقاومة"،"جماعة أوسلو"،"جماعة التفاوض"،"سلطة أريحا"،"القادة العرب أنصاف الرجال"،"14 آذار منتج إسرائيلي"، ومؤخراً تم اتهام الموقعين على إعلان دمشق ب"النيل من هيبة الدولة"، و"المساهمة في إضعاف الشعور القومي"...! وغير ذلك من الشعارات التي أظهرت المسار الممانع وهو مسار داخلي محض يحاكي التأثير على الداخل أكثر منه مواجهة الخارج، فهو عمل على منع تكرار تجربة مصر التي استطاعت الانفراد بالتفاوض مع إسرائيل وإبرام سلام معها عبر منع تحقيق نجاحات في المباحثات الإسرائيلية الفلسطينية وخلق"سلطة"فلسطينية موازية وعبر إمساكه بالورقة اللبنانية التي خولته إدارة حواره الخاص مع إسرائيل، فبتنا نسمع ب"عاصمة"الممانعة المالك الوحيد لمفتاح إدارة الحرب أو إدارة السلام. في عودة إلى مناظرات القوميين في مرحلة ما قبل الممانعة نجدها متخمة بمصطلحات"التوازن الاستراتيجي مع العدو الإسرائيلي"أو ب"لاءات عبد الناصر"و"شعارات الوحدة العربية"، ومن ثم نجد أن التعبير عن إرادة الناس كان محترماً إلى حد بعيد فكان النظام العربي يجسد عواطف وميول الجمهور العربي وكان الزعماء الكبار مثل جمال عبد الناصر يتماهون مع حركة الجمهور وتطلعاته. شهدت الفترة التي سبقت تحوّل"الممانعة"إلى المفاوضات قدراً لا بأس به من المغالاة وارتفاعا في منسوب الراديكالية في الخطاب بشكل عام فتضمن البيان الختامي الذي تلا مؤتمر تجديد الفكر القومي المنعقد في نيسان أبريل 2008 في دمشق كلاماً عاماً عن الديموقراطية!، وتضمن"رفض الرؤى والحلول القطرية للصراع العربي الإسرائيلي"، وبعد شهر تقريباً في 21 أيار مايو بعد اتفاق الدوحة الذي توصل إليه الفرقاء اللبنانيون تم الإعلان عن المفاوضات الإسرائيلية السورية التي كانت قطعت شوطاً بعيداً من خلال مفاوضات سرية جرت برعاية تركيا...! وكان قبل ذلك انعقد"المؤتمر الوطني الفلسطيني"في كانون الثاني يناير 2008 ضم فصائل الممانعة الفلسطينية فطالبوا ب"إعادة صوغ الفكر السياسي الفلسطيني"الذي"يعطي الأولوية للأرض على الدولة والمقاومة على السلطة"! وابتعدوا عن أي ذكر لمبادرة السلام العربية، وقطعوا مع"الحلول المرحلية وتأسيس دولة فلسطينية على حدود العام 1967"، مطالبين ب"فلسطين من النهر إلى البحر"مع رفض الاعتراف ب"الكيان الصهيوني". وبعد فترة من المباحثات غير المباشرة مع إسرائيل التزمت حركة حماس بعدم إطلاق الصواريخ من غزة وقامت بقمع التنظيمات التي لم تمتثل لقرارها والتزمت بترتيبات أمنية مع إسرائيل كانت ترفض الالتزام بها سابقاً عندما كانت تطالبها السلطة بذلك. وفي وقت سابق من هذا الشهر جال خالد مشعل على المسؤولين في لبنان بهدف نزع الصفة التمثيلية عن السلطة الفلسطينية وعن مكتب منظمة التحرير في بيروت. في جميع الأحوال من حق الممانعة أن تفاوض وأن تصل إلى نتائج لا بل من واجبها أن تفعل ذلك إذا كانت تحرص على مصالح شعبها بقدر حرصها على القيادة. لكن ما ليس من حقها أن تبقي مصير الأمة رهناً بها أينما ذهبت، وفي نهاية المطاف هناك حاجة لأن تزيد"الممانعة"من دائرة اهتماماتها لتشمل قضايا ذات أولوية لأبناء الأمة إذ لا يجوز أن يشعروا هم بثقل الممانعة عليهم بينما لا يشاطرهم أعداء الأمة ذات الشعور...! * كاتب لبناني.