عندما رجعت، في أحد المساءات الوطنية، إلى بيتي، كان أحد الشبان من الأقربين يناديني. التفتُ إلى صوتِ تحيّته. ثم قال:"أستاذ.. أريد أن تكتب لي قصيدة عن"أبو عمار"في ذكراه الرابعة, لنشرها في مجلّة الجامعة، أريد أن تكون قصيدة على الطريقة المشطّرة، لا على طريقة"الشعر المنثور". هذا الشابّ الذي التحق لتوه بإحدى جامعات قطاع غزة المحسوبة على حركة"فتح"يريد قصيدة عمودية لا أفقية، مع أنه قال لي أنها ستلقى في مهرجان سيغطي سطحَ غزة بجمهوره! الحاجة إذاً، الى قصيدة عمودية بصفتها مجسّاً وطنيّاً شعبيّاً، عن زعيم ثورة أفقية وتاريخية! فلا حاجة لايجاع الرأس بالخوض في جدل يحتلّ، منذ إرهاصات النكبة، المسافةَ الزمنية الشائخة التي تعج بسجالات أفقية وتاريخية حول الثورة الشعرية التي أنتجت مصطلحات متخاصمة، وإن كانت تشير إلى فضيلة التعددية، مثل"قصيدة التفعيلة وپ"الشعر الحر"وپ"قصيدة النثر". قلت للطالب الجديد:"هل تنفع قصيدة على طريقة محمود درويش، الذي يعتبر شريكاً موازياً لياسر عرفات في الرمزية الفلسطينية الثابتة في الوجدانيات العربية والتحررية العالمية؟ وأضفت:"أبو عمار حافظ على الثوابت الوطنية، ودرويش حافظ على الثوابت العروضية"؟ لكنه ألحّ بلسانه وأكثر من ذلك بإشارات يديه الخشبيتين"على أن تكون قصيدةً على نظام التشطير. وربما كان يإلحاحه اليدوي الظاهر يخفي عدم فهمه ما أقصده بالثوابت العروضية، أو ربما كان نسياناً معرفياً موقتاً لنظام العروض - تحت حرارة الذاكرة الوطنية - واهتماماً منه بسطح الكلام الساخن. قلت:"أتمنى أن تحرضّني المناسبة على كتابة شيء". وكان التيار الكهربائي مقطوعاً عن حيّنا لساعات، فأنهيت حديثي معه بسؤال:"متى ستجيء الكهرباء؟"، قال:"بعد ساعة تقريباً". فتذكرت، حينها، أربع عبارات - أوّلها عن وحدة الجبل - كثيراً ما كان يردّدها عرفات:"يا جبل ما يهزك ريح"،"سلام الشجعان"،"النصر صبر ساعة"، وپ"الدولة على مرمى حجر"! وصلت البيت، وبعد ساعتين جاء التيارُ الكهربائي! وكالعادة، بعد إسكات بعض المنبّهات البيولوجيّة، ملأتُ وحدتي بالقراءة. وكانت الأولوية، تلك الليلة، لقراءة جانب من الحزن العراقي في رواية:"كم بدت السماء قريبة"، للعراقية بتول الخضيري. على مقلب آخر، تابعت بعض الصحف العربية، وكلّها كان يركّز على الانتخابات الأميركية والحوار بين الفصائل الفلسطينية. في هذه الأثناء استوقفتني كلمة"شَرذمة"بفتح الشين. ولا أعرف ما سرّ افتتاني، تلك الليلة، بهذه الكلمة، مع أنها لم تظهر إلا مرة واحدة، وفي تقرير صحافي سريع! لقد بدت"الشَرذمة"من الشعر، كمعادل موضوعي لنثرية العالم أو"قصيدة النثر". وكما لو أنها الكلمة - لا البيت الأوّل - الهدية - لا النقمة - الساقطة من السماء كنيزك في حالة الضوء قبل الانطفاء والتشرذم. وأكاد أجزم أنني، شخصيّاً، لم أر لهذه الكلمة حضوراً في القصائد العربية التي قرأتها لغاية الآن، بأشكالها المختلفة! ربّما لأنها ثقيلة ولا شاعرية ومنبوذة، في مقابل كثرة استخدام كلمة"الفردوس"في الأشعار والقصص والروايات والمسرحيات! زد على ذلك أنها لا تشبه، لا على مستوى السياق ولا على مستوى المعنى، كلمة"فئة"الواردة في بيت المتنبي:"يا عاذل العاشقين دعْ فِئة/ أضلها الله كيف ترشدها". في هذه الأجواء، أحسست أنّ شيئاً ما يريد أن يتحقق في الفراغ الأفقي الواسع بين حدين رسمتهما كلمتا:"الشرذمة"و"الفردوس". فالحد الأوّل ينطوي على معنى أخلاقي سلبي وقبيح، فيما الحدّ الثاني يعيش، ذهنياً، سرعة التحوّل من الأفقي إلى الرأسي"لتختزل كلمة"الفردوس"- المكرورة في الأدبيات والمفقودة في الواقع - أقانيمَ الفلسفة الثلاثة: الجمال، الخير، الحق. وليتحقق بهذا الاختزال، الوهمي، التصالح المحلوم والصوفي والبُرَهِي في الخيال، بين الرأس والعالم، بين الأنا والآخر، بين الفرد والجماعة، بين الأندلس والفردوس، بين الله والإنسان! وعلى رغم هذا العمل المثالي والأثيري في فضاء الحلم وأمل الغاية، فرضتْ"الشَرذمة"نفسها ككلمة فاجأتني بالانكشاف الخاطف والسريع عن جمالياتها المنتصرة على"الفردوس"، بحيث وظّفت نفسها بنفسها كدال جمالي مفاجئ يضيء قبح التشرذم في البلاد. إنها فضلاً عن هذا، تتمتع بقوة الاختلاف التفكيكي الفاعلة، إذا ما كسرْنا حرف الشين: "شِرذمة"وپ"جَمهرة"في آن واحد، قوة عمياء وراء حالة التشرذم في قيمة السهل الساحليّ والجبل معاً. هكذا استطعت أن أكتب للوطن، لا لياسر عرفات، بيتين فقط، لا سبعة أبيات، موزونين ومنظّمين لا منثورين ولا متشرذمين: من خانَ عهدَك في بناءِ الحلْم شِرذمهُ السَّوادْ هَدَموا الشراكةَ في البناء وعمّقوا جرح البلادْ * شاعر فلسطيني مقيم في غزة نشر في العدد: 16653 ت.م: 07-11-2008 ص: 24 ط: الرياض