"لم أستمتع خلال حياتي بالاشتغال على كتاب بمقدار ما فعلت وأنا أكتب "إيثان فروم"، هذا النص الذي، إضافة الى ذلك كتبته بكل سهولة. فالحقيقة إنني منذ زمن بعيد كنت أريد أن أصور الحياة كما هي، في تلك المنطقة الجبلية النائية في نيوانغلند، حيث اللون الرمادي القاتم يخيم على كل شيء: على الطبيعة وعلى النفوس، وحيث كل شيء يبدو مخبوءاً في الزوايا، مسكوتاً عنه...". بهذا الكلام قدمت الكاتبة الأميركية إديث وارثون عام 1911 لروايتها التي كانت تعتبر الأشهر بين أعمالها حتى اليوم الذي قرر فيه مارتن سكورسيزي قبل سنوات من الآن أفلمة روايتها الكبرى الأخرى"سن البراءة". ولئن كانت أحداث هذه الأخيرة تدور في نيويورك القرن التاسع عشر، فإن أحداث"إيثان فروم"تدور عند بداية القرن العشرين، في نيوانغلند، الى الغرب من ماساشوستس، إنما في بلدة خيالية أطلقت عليها وارثون اسم"ستاركفيلد". وربما يكمن السبب في ابتكار اسم مستعار في أن الحكاية الأصلية التي أخذت عنها وارثون روايتها حدثت حقاً، ولم تجد الكاتبة أن من حقها كشف الستار عن مكان حدوثها الحقيقي. يغلب الطابع الشتائي البارد على أحداث الرواية وأجوائها، ومن الواضح أن وارثون إنما أرادت عبر هذا الجو أن تعكس الأحاسيس الداخلية لشخصيات الرواية الثلاث التي تعيش دراما واحدة: دراما الحب والتضحية والانسياق وراء ما ترسمه الأقدار، والفقر وما إلى ذلك. وإديث وارثون تضعنا على أية حال، منذ الصفحات الأولى للرواية، أمام غرابة شخصيتها الرئيسة: إيثان فروم نفسه. إنه مزارع قوي الشكيمة لكنه، كما سنرى لاحقاً، ضعيف الشخصية لا يكاد يقر له قرار. إنه يتقبل حياته ومصيره كما هما. يجد أمامه، عادة، دروباً عدة يمكن لواحدة منها أن تقوده الى الخلاص أو الى السعادة، لكنه يختار دائماً الدرب الأقرب والتي غالباً لا تقوده الى أي مكان حاسم، إنه انسان بسيط لا يحسن من أحوال هذه الدنيا إلا زراعة قطعة الأرض الصغيرة والبخيلة التي بالكاد يمكنه محصولها من أن يعيش عيش الكفاف، ومن أن يشتري الأدوية اللازمة لزوجته زنوبيا زينا، التي لا تتوقف عن الشجار على رغم مرضها الدائم وعجزها وعن كونها قد شاخت أبكر مما ينبغي. والحقيقة أن حكاية إيثان مع زنوبيا ليست بأية حال من الأحوال حكاية غرام. هو فقط تزوجها إثر وفاة والدته التي كان قد ضحى كثيراً من أجلها، كما فعل مع أبيه من قبلها. لقد عاش إيثان في ظل أمه، لا يريد شيئاً من الحياة، مكتفياً بزراعة الأرض والعيش يوماً بيوم. وحين اشتد المرض بهذه الأم ولم تعد تقوى على فعل أي شيء، جاء لها بالممرضة زنوبيا، التي سرعان ما صارت، حتى في حياة الأم، الشخصية المسيطرة على البيت. ومن هنا كان من الطبيعي، عندما ماتت الأم، وأحس إيثان انه لا يستطيع أن يعيش وحيداً من دون أية رفقة، فيما لم تعد زنوبيا قابلة بأن تبقى في البيت معه، كان من الطبيعي أن يتزوج إيثان من زنوبيا. وهكذا، من دون أن يسجل ذلك الزواج منعطفاً في الحياة اليومية لهذين الشخصين البائسين المتناقضين كلياً، تواصلت الحياة في البيت، حتى اللحظة التي استبد فيها المرض بالزوجة، فأضحت مشاكسة مناكفة وصارت حياة إيثان جحيماً. وكان من الممكن، بفضل شخصية إيثان المستسلمة أن تبقى الأوضاع على ذلك النحو الى أبد الآبدين لولا ما حصل ذات يوم، حين أتت زنوبيا الى البيت بالصبية ماتي سيلفر، التي هي في الحقيقة ابنة عم بعيدة لإيثان. كانت فتاة خجولة فقيرة جيء بها الى البيت كي تؤدي مهمات الخادمة مجاناً... أي مقابل إقامتها وطعامها. والحقيقة إن مجيء ماتي، إن لم يحدث انقلاباً في جو البيت كله، أحدث انقلاباً في حياة إيثان، إذ ها هو يشعر للمرة الأولى في حياته أنه يحب. أجل. الفلاح البائس ذو القلب القاسي والروح المكسورة صار عاشقاً. وكانت المفاجأة أكبر حين شعرت ماتي الشعور نفسه إزاء الشاب: لقد أغرمت به بدورها. وعلى هذا النحو تحولت حكاية البؤس الريفية، وحكاية الشخصيات القلقة أو المستبدة الى حكاية حب رومنطيقية. ولكن لم يكن في وسع الأمور أن تبقى كذلك الى الأبد. فالحب وإن كان حباً أفلاطونياً لا يمارسه صاحباه، ينتهي به الأمر دائماً الى الانكشاف. انكشف الحب على رغم أنه حب صامت، في معنى أن أياً من الحبيبين لم يبح للآخر بحبه. ولكن أولم تقل أم كلثوم في واحدة من أغانيها القديمة:"الصب تفضحه عيونه"؟ لكن الرسالة الغرامية لم تصل من ماتي الى إيثان أو من هذا الى ماتي، بل وصلت من نظرات الاثنين الى زنوبيا. لقد فهمت زنوبيا كل شيء... لكنها لم تتفوه بكلمة. صمتت على مضض، حتى اليوم الذي رأت فيه أن في إمكانها أن تضرب ضربتها: فقد أعلنت أنها لم تعد في حاجة الى ماتي ولذا على هذه أن ترحل فوراً. لم يكن إيثان، طبعاً، من النوع الذي يمكنه مجابهة مثل هذا القرار. لم يكن أمامه إلا أن يمتثل. غاية ما يستطيع هو أن يرافق الصبية الى محطة القطار الذي سيخرجها من المنطقة ومن حياته الى الأبد. وهكذا تركب ماتي الى جانبه في العربة وتسير بهما هذه وسط الطرق الجبلية وصمت كصمت القبور أول الأمر. ولكن في الطريق وإذ يبدأ طيف زنوبيا بالابتعاد وراءهما، يفتح كل من الشابين قلبه للآخر، ويبث له لواعج فؤاده. يكتشف كل من الاثنين ما كانا، وما كنا نعرفه منذ البداية: حبهما بعضهما البعض. ولكنهما يكتشفان أيضاً ما كانا وكنا نعرف كذلك: استحالة بقائهما معاً، واستحالة ترك واحدهما الآخر. لم يعد أي منهما قادراً على التراجع أو على السير الى الأمام. فما العمل؟ قد يكون سقوط العربة في الهاوية عند هذه اللحظة صدفة دبرها القدر... لكن هذا السقوط شكل الحل الوحيد لتلك الأزمة العاطفية والإنسانية، فالعربة حين اندفعت اختتمت جزءاً أساسياً من الأحداث. ذلك أننا من بعدها سنجد، في الفصل التالي، أن عشرين سنة قد مرّت لم نعرف خلالها شيئاً عما حدث. أو بالأحرى لم يعرف الراوي شيئاً، ذلك أن هذه الرواية تقدم أسلوبياً في شكلين: الفصل الأول والأخير يرويان لنا من طريق راوية لا نعرف لها اسماً أو وظيفة أو علاقة ما، أما الفصول الوسطى فتحكى لنا بضمير الغائب. إذاً في الفصل الأخير يعود الراوي ليقول لنا كيف حدث له أن التقى إيثان بعد كل تلك السنوات ليجده عجوزاً عاجزاً مشوهاً لكن على وجهه إمارات نبل عميقة. المهم بعد أيام يقود إيثان الراوي الى حيث يعيش في عزلة روحية ومادية مرعبة. وهناك في مطبخ عتم بائس يجد الراوي نفسه في حضرة امرأتين عجوزين، إحداهما ممتشقة القامة ضخمة، والثانية جامدة في جلستها تنتحب. وتبدو كالمنتحبة منذ الأزل... هذه المرأة الأخيرة المشوهة هي ماتي، أما الأخرى فزنوبيا التي بعدما حلت كارثة سقوط العربة، عادت بدورها لتصبح من جديد ممرضة تعنى جزئياً بإيثان وكلياً بماتي... من الواضح أن العنصر الأساس في هذه الرواية هو التأكيد على استحالة أن يفلت المرء من مصيره وقدره. وينطبق هذا، هنا، خصوصاً على إيثان الذي يعيش الى الأبد أسير فعل أراد أن يقوم به ولكنه عجز، ومع هذا ها هو يدفع ثمنه. والواقع أن إديث وارثون عرفت دائماً، في رواياتها كيف تعبر عن هذا البعد في الشرط الإنساني، حتى وإن كان كثر من النقاد قد رأوا أن إديث وارثون 1862 - 1937 إنما رسمت في هذه الرواية، وإن في شكل شديد المواربة، صورة ما لسيرتها الذاتية، عاكسة في إيثان صورتها الذاتية وفي زنوبيا، صورة ما لزوجها، أما ماتي فهي صورة للشاب الذي كان حبيبها كما يبدو خلال حقبة ما من عمرها. [email protected]