لم يتأخر عبداللطيف عبدالحميد في الإصغاء مرة جديدة إلى هواجسه ليشكل منها فيلمه الثامن"أيام الضجر"الذي عاد ودخل منه إلى أمكنته وأزمنته الراسخة في وجدانه والتي كرّسها في أفلامه ولم يغادرها. فهذا السينمائي الذي يجيد التقاط تداعيات ذاكرته المشبعة بتفاصيل البيئة التي نشأ فيها، يعرف جيداً كيف يقودها داخل دهاليز معمله الإبداعي ليصنع منها أعمالا ًسينمائية شكّلت لوحة ملفتة نتلمس فيها تفاصيلاً بدا بعضها بارزا ً وبعضها الآخر خافتاً، ولكنها بمجملها رسّخت صانعها واحداً من السينمائيين الذين لا يستطيعون أن يروا العالم من حولهم إلا صورة سينمائية شديدة الصدق والتأثير. يعود عبدالحميد إلى الريف وإلى زمن الحرب لكن بخصوصية في المكان والزمان فرضت حالة من الترقب لدى المتلقي، فقد حدد الفيلم زمنه منذ البداية، عام 1958، أي زمن الوحدة بين سورية ومصر، واختار خط التماس في الجولان مكاناً لأحداثه، حيث نتابع تفاصيل حياة مصطفى أحمد الأحمد المساعد في الجيش الذي يعيش مع زوجته ريم زينو وأولاده الأربعة أمين عباس، محمد جبارة، عبدالرحمن عرب، محمد عرب في بيت ريفي صغير منعزل على الجبهة. نبدأ بالتعرف على طبيعة حياة هذه العائلة التي تربط أفرادها علاقة مليئة بالدفء والتفهم داخل ظرف حياتي يتّسم بالعزلة والسكون بقدر ما يشيع إحساساً بالانتظار والترقب في مجتمع ريفي صغير وجد نفسه مرغما ًعلى ابتكار وسائله الخاصة لصنع شكل للحياة يخفف من ثقل وصعوبة العيش في مكان وزمن أرادهما عبداللطيف عبدالحميد مثقلين بالضجر. لكن السؤال الذي سرعان ما يصبح ملحّاً، من كان حقا ًضجراً في تلك المرحلة التاريخية المشتعلة، وعن أي ضجر تحدّث عبدالحميد في زمن كان يشهد غليانا ً سياسياً وصراعات محتدمة في سورية ولبنان والعراق وحيث لم تكن الأردن والسعودية بالطبع بمعزل عنه؟ مرّ الفيلم على تلك المرحلة من خلال نشرات الأخبار التي كان يسمعها المساعد مصطفى وزوجته وأولاده عبر جهاز الراديو والتي بدت مجرد خلفية لتحديد الزمن التاريخي للحدث من دون أن يخترق تأثيرها التركيبة النفسية لأفراد هذه العائلة التي يفترض أن تجد صعوبة بأن تشعر بالضجر وهي تعيش غياب الأب والزوج بين الحين والآخر في مهمات عسكرية تترك الزوجة وحيدة مع أولادها الأربعة في مواجهة ظرف حياتي قاس وفي مكان لا يخلو من الأخطار. بنى عبدالحميد فيلمه السينمائي منطلقاً من الضجر كحالة نفسية وشعورية وتفاصيل حياتية تحكم سلوك شخصياته وخصوصاً الأطفال منهم لكن ليسرّب رؤية أوسع لما تعنيه أيام طويلة من الضجر في انتظار حدث ينهي هذه الحالة الممتدة لحياة مؤجلة وانتصارات حقيقية معطلة. الدبابة / الرمز ربما كانت تلك الدبّابة المعطلة القابعة مقابل منزل العائلة، هي الصورة الرمزية الأبرز في فيلم خلق منها شخصية أساسية من شخصياته المترقبة لما ينهي ضجرها المفترض. فقد جعل من هذه الدبّابة مركزاً يراقب منها الأولاد أبويهم وملاذاً للعبهم وتخيلاتهم وأناشيدهم الحماسية ومكاناً لممارسة الحب بين الزوجين وكذلك هدفاً يدور حوله الجنود في شكل حلقة مغلقة لا ترسم أي تقدم للأمام، في مشهد نجح في خلق مناخ يحمل خصوصيته في الإضاءة والمؤثرات البصرية المصاحبة التي أبعدته عن الواقعية وقرّبته من الرمزية في الإيحاء والطرح. لقد نجح في التقاط مفردات دلالية لرمزية امتلأ بها عمله الأخير هذا لكنه عاد وأربكها حين حدَّد لها إطاراًً زمنياً لا يناسب مع المعطيات الاجتماعية والنفسية العامة لتلك الفترة التاريخية المحددة. عبدالحميد، الذي طرح في أفلامه كلها الأوجاع والهزائم والانكسارات وحمّلها إسقاطات من الخاص على العام، أدرك منذ البداية أن عليه أن يجد لمشروعه السينمائي المتكامل هذا قالباً فنياً رشيقاً يدخل من خلاله إلى وجدان المتلقي ليُحدث فيه الصدمة الشعورية المطلوبة التي تجعله يرتبط بما يراه أمامه على الشاشة ويشعر بالتالي بأنه معني، بطريقة ما، بمصائر الشخصيات التي يجد ما يلتقي به معها مهما بدت بعيدة منه في ظروفها وبيئتها ومشاكلها. فاختار الكوميديا أسلوباً فنياً وعرف كيف يوظفها بما يتلاءم مع خصوصية الأمكنة والأزمنة التي طرحها في أعماله. موقف من المجتمع وهنا اختار مشهده الختامي في عودة المساعد مصطفى إلى زوجته وأولاده معصوب العينين وفاقداً بصره على إثر انفجار لغم زرعه بنفسه لينادي على أفراد عائلته ويخبرهم بمصابه الجلل برباطة جأش عالية كما لو أنه يقرأ عليهم بياناً أو قراراً عسكرياً، وليبدأ بعدها برقص الدبكة على وقع ضربات الطبل وألحان المزمار التي أتى بهما خال الأولاد في محاولة لتبديد ضجرهم. أريد لعودة الأب في النهاية أن تكون لحظة فيها شحن تراجيدي وكوميدي في آن، إلاّ أنها جاءت مبتورة عن سياقها السابق"فلم يؤسس الفيلم في شخصية المساعد مصطفى ما يؤهلها إلى لحظة تجمع تناقضا ً واختلاطاً كهذا، فلم نلمس لدى هذا الجندي الشجاع أي خلل في علاقته مع محيطه وفي فهمه وتأقلمه مع ظروف حياته مما جعل من لحظة تراجيدية مؤلمة كهذه مشهداً مشوشاً في تأثيره الشعوري عندما أقحمت فيه كوميديا بعيدة من نسيج منطق الشخصية وتاريخها على الشاشة،على خلاف قوة تأثيرالمواقف التي وجد أبطاله السابقون أنفسهم فيها والذين عرف جيداً كيف يخلق منهم شخصيات تناسب في تركيبتها وتفاصيل علاقتها بمحيطها منطق الكوميديا السوداء. فالسينمائي الذي يعتمد الكوميديا السوداء مرتكزاً أسلوبياً له يُضّمن فيلمه موقفاً محدداً تجاه مجتمع ٍ أو ظرف ما يشهد حالة غير سليمة، ولابد لشخصيته الرئيسة من أن تكون في حالة سعي لبلوغ أمر لا يعود، لسبب ما، بالمنفعة عليها أو على المجتمع من حولها. وعلى المشاهد أن يتلمس تلك المفارقة حتى يتحقق شرط هذا النوع من الكوميديا التي غالباً ما تجعل واحدة من شخصياتها الثانوية أو أكثر قادرة على رؤية هذا الخلل أو تلك الحماقة داخل تركيبة شخصية بطل الكوميديا السوداء. ومن أجل أن تكتمل عناصر هذا النوع السينمائي المحدد يتوجب على الشخصية الرئيسة أن تجد صعوبة في استخلاص الدروس من تجاربها ومن المحن التي مرّت بها والتي عليها أن لا تُحدث أي تغيير مهم في تركيبتها وسلوكها. وفي"أيام الضجر"نلمس ابتعاداً عن الكوميديا السوداء واقترابا ًمن الكوميديا بمفهومها التقليدي البسيط، فالطرافة هنا لم تنبعث من المواقف التي وجدت الشخصيات نفسها فيها بمقدار ما أتت من أفعالها وحركاتها، فلم يتضمن سلوكها أي التباس أو تناقض أو خلل مع محيطها وعلاقتها به، لا بل على العكس جاءت أفعالها منسجمة ومتأقلمة مع ظرفها الحياتي الصعب الذي لم يعكره سوى ما يفترض أنه إحساس ثقيل بالضجر سيطر على الأولاد، فحاول الفيلم أن يدخل في تفاصيل الشكل الذي يعبرون فيه عن ضجرهم فوجد نفسه ينحو باتجاه تعابير وسلوك وأفعال اتسمت بالمبالغة التعبيرية في الوجه والجسد أكثر مما لامست المفهوم الأعمق للطرافة والسخرية المرّة التي جعلت من أبطال أفلام عبداللطيف عبدالحميد السابقة شخصيات فيها من صدق تناقض مساعيها وأحلامها مع واقعها المحبط ما جعلها لا تغادر ذاكرة المشاهد إلى اليوم. عبداللطيف عبدالحميد، الذي عرف في أفلامه السابقة كيف يختزل واقعاً في صورة سينمائية، وكيف يكثف مأزق جيل في موقف يمر للحظات على الشاشة، وكيف يجعل مشاهده يدمع مبتسماً من وجع وانكسار أبطاله، قدّم اليوم أحدث أفلامه"أيام الضجر"وتركنا نحاول أن نعثر فيه على ملامح مخرج سينمائي مبدع نعرفه جيداً. نشر في العدد: 16674 ت.م: 28-11-2008 ص: 22 ط: الرياض