في فيلمه الاول "يا دنيا يا غرامي" 1996 يستبطن المخرج مجدي أحمد علي 46 سنة تلك الطاقات العظيمة التي تجعل هذه الشخصيات الفقيرة تقاوم صعاب الحياة الرهيبة في لحظة تغير القيم الاجتماعية والاساسيات التي يعيش عليها الناس الآن في مصر. وقد وفق المخرج - برغم هنات السيناريو - في اضفاء طابع عاطفي جمالي على الصورة السينمائية لفيلمه مكوناً بذلك سياقاً سينمائياً موحداً ومتسقاً - الى حد كبير. في "البطل" يعاود معالجة تلك الحساسية الرفيعة عند هؤلاء الفقراء في لحظة فاصلة من مراحل تاريخنا المعاصر، عند ثورة 1919 الشعبية والآمال كبيرة وعظيمة في زعيمها سعد زغلول لتحقيق الاستقلال الوطني. ثلاث شخصيات تحاول في سياق حياتها اليومية المتنوعة والمتميزة تحقيق احلامها وطموحاتها تظللها هذه اللحظة الفريدة الخاصة. عن سيناريو مدحت العدل الذي سبق وكتب اربعة افلام اخرجها جميعا خيري بشارة: "اميركا شيكابيكا" 1993، "حرب الفراولة" 1994، "قشر البندق" 1995، ثم "اشارة مرور" 1996. يتناول الفيلم حياة الشخصيات الثلاث وعلاقاتها: حوده أحمد زكي، حسن محمد هنيدي وبيترو المطرب مصطفى قمر، وذلك في خصوصية كل حياة على حدة وفي تشابكها مع تلك اللحظة وفي اطار مدينة الاسكندرية التي عززت خصوصيتها هذه اللحظة والتي اجتمعت فيها عوامل تاريخية وجغرافية متنوعة جعلت منها مكاناً - دون مدن مصر الاخرى - شديد التميز والخصوصية. بعد لوحة تحدد تاريخ 1919 يبدأ السرد بلقطة لمياه بحر الاسكندرية ثم الاصدقاء الثلاثة يتحدثون عن بنائها من قبل الاسكندر الاكبر ونتعرف بعد ذلك على الشخصيات المختلفة للفيلم. عن ذلك الزمان وداخل مدينة الاسكندرية اذن تدور احداث السرد السينمائي، لكن يبدو ان هذه التحديدات وحدها غير كافية - كي تصبح هذه الاحداث مصدقة فنياً، فهناك بديهيات اخرى يبدو ان غيابها عن النص السينمائي المصري الآن - في عمومه - اصبح بديهية اخرى، مثل منطق السرد السينمائي بطرق اداء لغوية معينة في اطار سياق سينمائي ذي طابع معين يعكس رؤية سينمائية ثقافية لصانعيه - خصوصا المخرج - تعرف كيف ولماذا- مثلا- استخدمت هذه الاضاءة تحديداً دون غيرها من طرق الاضاءة الاخرى، ولماذا يتم وضع الكاميرا هنا وليس في اي مكان آخر، ولماذا يتحرك الممثل هذه الحركة، ولماذا وكيف يعبر الممثل عن النص داخل هذه المنظومة من تعبيرات العناصر السينمائية الاخرى، بكلمة.. ما هي العلاقة بين الازمنة الخاصة بالشخصيات السينمائية المختلفة داخل زمن محدد ومكان محدد للسرد السينمائي ومنطقه الخاص؟ وبطبيعة الحال تتم كل هذه التفاعلات السينمائية بطريقة عفوية خلو من التكلف والتصنع والتركيب الهندسي البارد لأنها تتم من خلال كيمياء ذات المخرج عبر الفنانين - والفنيين - الآخرين، فينتج على الشاشة عمل سينمائي برأس وذيل! مرجعيته الاساسية العمل ذاته، والواقع عبر منحنيات طرق اداء اللغة السينمائية العصية الملتبسة من دون الامساك بالواقع مباشرة أو من دون التفسير المباشر له!. جوده كلاوي، يعمل نجارا ولكنه يهوى الملاكمة وحلم حياته ان ينال الميدالية الذهبية في الاولمبياد، علاقته بأمه غير واضحة والتي يبدو ان وسواساً قهرياً يسيطر عليها، لكن علاقته بأصدقائه هي عطر حياته ومذاقها الخاص. حسن محمد هنيدي كوميديان العمل في جزئيه الاولين حين كان فارعا لا يهمه الا النساء واللهو والسهر، يعمل في المطابع الاميرية، يحب فاطمة اخت حوده. ثم علاقة حوده ببيترو نصف ايطالي، نصف مصري، يعمل في ملهى ليلي، يحمل جدعنة المصريين اولاد البلد ووجه الايطاليين، يهوى النساء ايضا هوايته للغناء وللاسكندرية وبحرها واصدقائه ووالده واهلها. يقع حوده في حب ياسمين كارولين عزالدين بنت احد باشوات ثورة 1919 من اول نظرة، غير اننا نعرف - على لسانها - ان حبه لها كان طموحاً من اجل الاقتراب من الميدالية والبطولة ثم انه يهتم بمن حولها اكثر من اهتمامه وحبه لها. ويحثنا السرد قبل النهاية وقبل تحقيق حلمه الكبير بأنه لم يحب الا جارته العاشقة حنيفه عبير صبري وانه لم يحلم بأحد غيرها طول الوقت!. تفاصيل رقيقة بهذه العلاقات التي اعتمدها السرد في مساحات درامية افقية عريضة تعتمد على التفاصيل الرقيقة: علاقة الاصدقاء بعضهم ببعض، علاقة حوده بزمه واخته، بصاحب العمل وزوجته، علاقة حوده بياسمين وبحنيفه، علاقته بالملاكمة، علاقة حسن بفاطمة شقيقة حوده، وبالآخريات، وبالسهر والجعة، علاقة بيترو بصديقته وجارته ووالده، بالبحر، بالسفر والعودة سريعاً بعد مغامرات سريعة، علاقة الاصدقاء الثلاثة بسعد زغلول، نحس في هذه الاجزاء من السرد بأننا ازاء هذا النوع من الدراما الشفيفة في اطار غير مباشر من الاحداث الكبرى، ويستمر حال الدراما هكذا الى ان يحدث الانقلاب الكبير في حياة حسن وهزيمة حوده امام أحد ابطال ايطاليا، فأدى ذلك الى انقلاب في الطابع الحنيّن للدراما التي اخذت تتسارع لحظاتها وتحولت من دراما شخصيات في ظل - علاقة غير مباشرة بواقع الى دراما واقع تلعب فيه الشخصية دوراً مباشراً في تبيان خصوصيته وعلاقته الاساسية التي تحكمه، وبدا الامر كي يصل هذا التغير الى مداه بعمل مصالحة: انهاء علاقة حوده بياسمين البورجوازية، وتزويج حسن بشقيقة حوده من السجن الى كوشه الفرح مباشرة ثم تزويج حوده نفسه بحنيفه تمهيداً لتفرغ الشخصيات للهم العام!. عموما تتميز افلام مدحت العدل كاتب السيناريو - التي اشرنا اليها - ببراعة عرض الشخصيات المختلفة وذلك حتى يضعها داخل معترك الحبكة وتفاعلاتها ثم ينفرط العقد وتتطاير حباته هنا وهناك، فيجري المؤلف كي يجمعها بنفسه ويحاول بعنت ان يرجعها كما كانت، وعندما يهده التعب يعقدها كما يرى هو، فلا يعود العقد الى انتظامه ونسقه الخاص ابداً!. شيء من هذا قد حدث مع البطل وعلى سبيل المثال: لم نرَ حوده يبحث عن عمل بعد ابتعاده - بنفسه بعيدا عن غواية زوجة المعلم - عن معلمه الخواجة، ثم نراه يشكو من ندرة فرص العمل، هو النجار الماهر كما بينه لنا الفيلم! والامر نفسه قد حدث مع حسن الذي عرفنا انه يعمل في المطابع الاميرية ولم نر داخلها ولو مرة واحدة على سبيل الحصر، والامر هنا ليس امر التحديد المهني للشخصية وانما يتصل الامر بكيفية حركة الشخصية بعفوية داخل نسيج حياتها الخاص، ايضا يبدو ان السؤال الذي وجهته ياسمين بنت الباشا لحوده عن كيفية دخوله - هو واصدقائه - الى نوادي وتجمعات البورجوازية ولم يستطع حوده ان يجيب عليه إلا بتلعثم - على سبيل الفكاهة! - إنما هو ذو دلالة في كيفية ارتباط شخصية ملاكم بسيط يحلم بالاولمبياد والمفترض أن يقضي وقته كله في التدريب العنيف وليس في احتساء الجعة والسهر حتى الصباح، كما ان الربط بين محاولته الارتباط بياسمين وبين حلمه بالميدالية الذهبية إنما هو تفسير وتدخل واضح من خارج المكونات الخاصة بالشخصية! ناهيك طبعاً عن مسألة تمثل هذه الشخصية لسعد زغلول في الاولمبياد كي يكون بطلاً مثله! إن السذاجة التي حثنا السرد على قبولها من مكونات الصفات الاخرى للشخصية لا تجعل من حلم الحصول على الميدالية الذهبية امراً شبيهاً - بهذا الوضوح على الاقل الذي الحّ عليه الفيلم - بسعد زغلول، بينما تلك السذاجة ذاتها جعلت من المقبول من هذه الشخصية ان تكتب رسائل متوالية لزعيم الامة خيط رقيق ودال داخل السرد اعتقد انه لم يستفد منه بشكل كافٍ وتصبح دهشتها مقبولة ايضا عند ما يسأل حوده عن السبب الذي يجعل سعد باشا لا يرد على رسائله؟!. ثم كيف يمكن قبول هذا التحول المفاجىء الذي حدث لحسن: من حياة تملؤها الخفة والهزر وبنات النهار وتسلط النكتة عليه، هو الذي يقوم بابتزاز احد عساكر الانكليز يبيع شعر الماعز له على انه شعر جدّه الاسكندر الاكبر! هذه الشخصية تحديداً هي التي تتحوّل كي تصبح مناضلة اثناء وفي اعقاب ثورة 1919 ضمن تنظيم مسلح لمجرد ان ودود احدهم في اذنيه بكلام عن الوطنية والثورة او حتى يستشهد على صدر حسن اثناء الثورة ذاتها! قد نستوعب ان يحدث اضافة ما لمكونات وعي الشخصية يتجه معرفتها باحدهم الذي يحيا يوميا على الهم العام والقضية الوطنية فيزداد وعيها ان الدنيا ليست نسوان فقط - كا يقول بالفعل حسن لبيترو، او حتى تشترك بطريقة عفوية في احداث ثورة كبرى كثورة 1919 ولكن ان تتحول كي تصبح السياسة همها وهوائها الذي تتنفسه وتنضم لاحد التنظيمات السياسية المسلحة، فهذا نوع من الشطط في معرفة دراما الشخصيات وفي ادراك الاتجاهات العامة لحركة المجتمع - ايام 1919- ايضا؟! وفي إطار هذا السرد أيضا يبدو أن بيترو مصطفى قمر هو الشخصية الوحيدة التي لم يطرأ عليها اية تغير، اللهم الا ذلك الشارب النحيل على وجهه واغانيه التي اصبحت تحن لأيام الشقاوة والنساء من لون وكل مله! ولا غرو في ذلك - هكذا أراد السرد - فهو اسير نصف مصريته، ولا مبالاته بالهم العام بل سخريته احيانا من زعيم الامة! وإذا كان هذا حال الشخصيات الثلاث من صنف الرجال على هذا القدر من الديناميكية الزائدة والاستاتيكية المميتة، فإنه يبدو عطف الدراما على الشخصيات النسائية جيمعاً شحيح للغاية بحيث ظللن - بصرف النظر عن تنويعه صفاتهن الخاصة - اسيرات تركيبتهن الاجتماعية المحددة ومن ثم اصبحن داخل قيود السائد والشائع: ظل للرجل وقناع له!. هفوات وجماليات اجتهد المخرج مجدي أحمد علي في محاولة تمرير هفوات النص الكثيرة وذلك باللجوء الى تكثيف بعض اللحظات الخاصة في السرد، واكسابها طابعاً جمالياً تكتسب معناه ودلالته من المكونات السينمائية التصوير والاضاءة خاصة غير انها جاءت بطريقة ناقصة ومبتورة لا تمتد لتشمل الفيلم كله بطابعها الجمالي الخاص، وإن ظهرت المقدرة الحرفية العالية في بناء الصورة السينمائية عبر الفيلم، المعتمدة على التنويع المبني على الاختلاف والمفارقة بين العناصر السينمائية المختلفة في تكوين المشاهد المتجاورة والمرتبطة معاً سواء في ايقاع الصورة بين التمهل والسرعة، في وظل المشاهد او اختلاف احجام اللقطات داخل المشهد الواحد أو باستخدام الاضاءة المسطحة احيانا او الموزعة بين الضوء - الظلمة مع تنويعات الأزرق، استخدام اللقطة - المشهد وبتلوها مشهد يعتمد على تقطيع اللقطات داخل المشهد، التقطيع الأسرع مع لقطات بسرعة بطيئة وخصوصاً في مشاهد الملاكمة الاخيرة، اختلاف درجة حرارة كثافة اللون بين مشاهد الحارة ومشاهد البحر أو داخل فيللا ياسمين مثلا. وبقدر ما أضفى هذا التنويع قدراً من الحيوية على بعض مشاهد الفيلم خصوصاً في جزئه الاول، بقدر ما أضفى طابعاً مشحوناً بالعاطفية على بعض المشاهد: مشهد الملهى الليلي خصوصاً بعد دخول حوده والاحتفاء به، مشهد توديع بيترو بداية من اللقطات الداخلي هو وصديقته ثم وهو ينظر لوالده النائم وبجانبه عدالات صديقة بيترو سابقاً ثم المشهد الخارجي حتى يغيب داخل السفينة. التنويع السينمائي في هذه المشاهد مع الاحتفاظ بتنويعات الضوء والظل مع حرارة الازرق الخفية هو مثال جيد لإبراز معنى عاطفي دون حوار تقريباً. ومشهد كابينة بيترو والاصدقاء الثلاثة عندما ينظر حوده إلى الصديقين الآخرين وهما يسبحان بملابسهما في البحر. وبقدر توفيق المخرج في هذا التنوع كأساس في اخراج الصورة السينمائية بقدر ما جاء استيعابه للمكان بدائياً وقف عند حد كونه محدداً للتكوين الاجتماعي لشخصياته كمعطي مباشر، ولم يستطع ان يجعله يمتد بحيث يعقد علاقة بينه وبين الشخصيات تبرز معنى أو تضفي دلالة!. لم يوفق المخرج مجدي احمد علي في اضفاء قدر من الهارمونية بين الاجزاء الداخلية للسرد حيث اصبح التغير في مصائر الشخصيات حودة وحسن سريعاً على عكس الاجزاء الاخرى التي تعاني في بعض مشاهدها من امتداد أفقي زائد، وعدم تكثيف ممل احيانا! ان محاولة المخرج للربط بين الخاص فوز حوده بالذهبية وبين العام بطولة سعد زغلول جاءت مباشرة ومكررة ما تم الالحاح عليه في لحظات كثيرة داخل السرد، كما ان ذلك اضاع او انتقص من آنية ونشوة الانتصار عند حوده نفسه. يبقى هناك نقطة اخيرة خاصة بالغناء والاغاني في فيلم "البطل"، وقد حرص المخرج على الاهتمام بتفاصيل الملابس وطابعها وتسريحات الممثلين والممثلات وبالاكسسورات للاقتراب من زمن الفيلم. وساعد صوت مصطفى قمر وكلماته والحانه واغانيه ذات الطابع التسعيني في اضفاء قدر من التشتت وعدم المصداقية بدرجة اخف اغنية يا اسكندرية من تأليف بيرم وبإخراجها الاستهلالي السريع للفيلم على السرد السينمائي وعلى جو الفيلم عموماً