لم يصفّ السينمائيون اللبنانيون كامل حسابهم بعد مع الحرب الأهلية اللبنانية؛ هذا على الأقل ما تقوله أفلامهم التي كلما اعتقدنا أنها قد طوت صفحة تلك الذاكرة الجريحة، نراها تعود لتقول فيها آخر الكلام وأحياناً أوله، ليبدو وكأن هذه السينما لا تستقيم حقاً خارج موضوع الحرب كجوهر بحث إنساني واشتغال إبداعي أكثر مما هي تفاصيل قتل وجنون ودمار. وإذا كان لنا أن نتجرأ ونذكر فضيلة ما لتلك الحرب المشؤومة - التي لا فضائل لها بكل تأكيد- فهي أنها كانت السبب في خلق السينما اللبنانية الحقيقية قبل نحو أربعة عقود على يد الروّاد الجدد، وفي تجديد ذلك الخلق مع الورثة الشرعيين لسينمائيي جيل الحرب من خلال تناولات لها اختلفت في طرحها وتباينت في بحثها لكنها بقيت تؤكد جدية همّها وصدق تساؤلاتها. فقد توسلت السينما اللبنانية الحديثة الحرب لتقرأ حاضراً دفع تأزمه المستمر إلى استدعائها لكن بتناول إبداعي اتّسم بالإخلاص الشديد للفرد وبمراهنة كبيرة على الذاتي في مسعى لأن تكون سينما صادقة تقول بفصاحة أزمة بلد ومأزق وطن. إذن مصائب حرب لبنان الأهلية كانت فوائد على السينما اللبنانية، وعلى رغم فداحة هذا القول إلا أنه قد يكون التوصيف الأنسب لقراءة تأثير تلك المرحلة التاريخية الجحيمية على النشاط الإبداعي السينمائي الحاصل والذي تكثف في هذا الموسم السينمائي المزدهر محلياً من خلال ثلاثة أفلام لبنانية حطّت الرحال أخيراً في الصالات المحلية لتُعرض في توقيت واحد بعد أن جالت المهرجانات السينمائية التي زارتها حاصدةً أهم جوائزها ومحملة بتقدير جمهورها ونقادها. فيلمان روائيان «رصاصة طائشة» لجورج هاشم، و «شتي يا دني» لبهيج حجيج، وثالث تسجيلي وهو «شيوعيين كنّا» لماهر أبي سمرا ما زالت عروضها مستمرة منذ أسابيع في الصالات اللبنانية، بثلاثة تناولات مختلفة، وثلاث رؤى متباينة تناولت فصول من تلك الحرب المقيمة دائماً في الوجدان اللبناني. الفخ لكن كيف يمكن أن نتكلم عن الحرب وعن بشاعة تأثيرها على الفرد والجماعة من دون أن تقع في فخ التسويق والترويج لها؟؟ تساؤل قد يبدو غريباً وعبثياً لكنه همّ تعبيري حقيقي ومقلق، وتتكثف إشكاليته بوضوح في السينما... فتاريخ الفن السابع يقول إن الأفلام التي تناولت الحرب وانبرت للعنها وإدانتها ونبذها قد حملت غوايتها فيها، وسوقت من حيث لا تدري للحرب والعنف والدمار... وإلى أن يصل المشاهد للخلاصة النقدية المبتغاة المناهضة حكماً للعنف يكون قد شرب السحر وذاب داخل تفاصيل القتل والموت والجريمة فيخرج من التجربة كارهاً للحرب لكنه مفتون بلعبة الصراع وبتراجيديا الموت. وهو أمر وإن كان منفراً شعورياً إلا أنه محمود ابداعياً... فكيف للسينما أن توصل رؤيتها إلا إذا صهرت مشاهدها داخل لعبتها الفنية القائمة أصلاً على لعبة الإغواء تلك؟ ها هي الأفلام اللبنانية الثلاثة تقدم مقترحها في هذه الإشكالية الإنسانية والفنية. آليات الانهيار «رصاصة طائشة» الحائز على المهر الذهبي لمهرجان دبي السينمائي اختار أن يكثف حدثه الدرامي خلال يوم واحد من عام 1976، ليحكي بلغة سينمائية رفيعة وجديدة قصة بطلته نهى (نادين لبكي) المقبلة على زواج تقليدي من رجل رأت فيه الخلاص من عنوسة محتملة بعد أن تخلى عنها حبيبها تحت ضغط والدته. ومن حكاية نهى وتفاصيل مأزقها النفسي والعاطفي والاجتماعي ستتوسع الدوائر الدرامية بتأنٍ متقن لتتكشف أمامنا آليات الانهيار الحاصل في بنية الفرد المنتمي لطائفة بعينها ولطبقة اجتماعية محددة داخل قسمة سياسية ستنقلب بسرعة كبيرة إلى شرخ إنساني وأخلاقي سيزداد اتساعاً بتسارع مخيف ليهدم في النهاية مجتمعاً انكشفت مدى هشاشة بنيته وزور حقيقة انسجامه مع تنوع نسيجه الطائفي. لم يبتعد جورج هاشم في فيلمه الروائي الأول عن منطق المسرح، فقد التقط شخصياته في ذروتها الدرامية وبدأ من هناك برسم حدثه وحبكته السينمائية. فتح لنا الكاميرا على لحظة انهيارها الذاتي والعائلي، فأتت لحظة الحقيقة تلك مكثفة، صادمة، وصادقة. حافظ في بنائه على تلك المسافة الخفية التي تفصل الشخصية السينمائية عن لحظة وعيها بذاتها فجاء الفيلم بالمعنى الدرامي أشبه بالصورة الفوتوغرافية التذكارية الأخيرة الملتقطة قبل الرحيل. وهو رحيل حمل كل كثافته وبلاغته في فيلم ركّز بحثه على الفرد الذي يعيش إرهاصات حرب أهلية حدد بدقة كبيرة انتماءه الجغرافي والاجتماعي والطائفي فيها. إنه الرحيل النفسي لكينونة اجتماعية اعتقدت أنها ستكون بمنأى عن تلك الرصاصة الطائشة التي أصابتها في مقتل متعدد الدلالات معلنة بداية الدخول في نفق لا تفضي نهايته على أي خلاص محتمل. لا يعود هاشم في فيلمه إلى الوراء ليؤسس للحظة ذروته هذه إلاّ داخل الهامش الذي يساعد في معرفة تلك الشخصيات التي تفرّست فيها الكاميرا بأسلوب بصري يحمل كل الجدة ومن خلال رؤية شديدة الإخلاص للنبرة الذاتية في تخلٍ واضح وجريء عن روح الخطاب التنظيري الذي مال في السابق إلى قول التاريخ بشمولية سهلة تسعى إلى توثيق الحرب أكثر من التركيز على بحث عميق في تداعياتها على الإنسان. الزاوية الموجعة أما «شتي يا دني» الفائز بجائزة اللؤلؤة السوداء لأحسن فيلم عربي في مهرجان أبو ظبي فقد اختار الزاوية الأكثر وجعاً وحسرة في الحرب اللبنانية والأبعد امتداداً خارجها، قضية لم تجد لنفسها مساحة للتصالح معها وطوي صفحتها إلى الأبد، إنها قضية المخطوفين. لم يعد بهيج حجيج إلى زمن الحرب كما فعل في فيلمه الروائي الأول «زنار النار»، بل اختار الحاضر مرتكزاً له لقراءتها من خلال فرضية حكائية تبدو ربما غريبة عن واقع الأمور والمتمثلة في احتمال عودة المخطوف بعد عشرين عاماً من الغياب داخل معتقل لم يشأ أن يسميه. كيف يمكن لمخطوف -وليس لمعتقل في حالة الحرب اللبنانية- أن يكون عليه بعد عشرين عاماً من الغياب داخل المجهول والجحيم والعذاب؟ أية ملامح سيبقى يحملها من ذاك الذي كان عليه قبل دخول هذا النفق الكابوسي؟ ماذا يبقى منه؟ ماذا ننتظر منه؟ هل نفرح حقاً بعودته؟ هل يفرح هو بتلك العودة؟ هل من أحد بقي ينتظره أصلاً؟ لكن ماذا لو أنه خرج فاقداً لأية صلة له بواقعه القديم وعائلته وأبنائه؟ لكن ماذا لو اكتشف أنه قادر على رسم بداية جديدة ليس مع الحاضر الغريب بل مع الماضي من خلال التقاء مصيره بمصير إنسان آخر بقي غائباً هو أيضاً عشرين عاما خارج المعتقل بعد أن توقف الزمن لديه أيضاً عند لحظة اختطاف شريك حياته؟ أسئلة كثيرة طرحها بهيج حجيج في فيلمه «شتي يا دني» بأسلوب سينمائي وإن بدا لا يحمل جديداً على صعيد الطرح والمعالجة واللغة - مقارنة بالفيلمين الآخرين من حيث انتمائهما إلى سينما جديدة حملت نبرة أسلوبية حديثة في بناء السرد ورسم الشخصيات وترتيب سياق الحدث والحبكة - إلاّ أنه التقى معهما في منطقة الصدق في تركيزه على الفرد وفي تغييب الحرب كصورة بصرية تعيد إنتاج صور الموت والقتل. الحرب والرفاق «شيوعيين كنّا» لماهر أبي سمرا الحاصل على جائزة اللؤلؤة السوداء لأفضل فيلم تسجيلي في مهرجان أبو ظبي شق لنفسه دربه الخاصة. اختار ستة رفاق، المخرج أحدهم، انتموا للحزب الشيوعي اللبناني وشهدوا مرحلة مفصلية من مراحل الحرب الأهلية اللبنانية في بداية الثمانينات. أتت هذه الشخصيات متجانسة في انتمائها الاجتماعي والتركيبة الأخلاقية، فسار بذلك شريط أبي سمرا بهدوء وأمان كبيرين. حكت شخصياته - بتصالح كبير مع الذات - رحلتها النضالية داخل حزب، آمنت بمبادئه وقيمه النضالية العريضة التي بدأت نظيفة قبل أن تدخلها الحرب اللبنانية في زواريبها الضيقة والتي يصعب أن نجد فريقاً خرج منها نظيفاً. لكن شخصيات فيلم «شيوعيين كنا» خرجت من الحرب نظيفة وإن لم تخرج على براءتها الأولى، وفي هذا «تحديدا ً» تكمن خصوصية شريط ماهر أبي سمرا، خصوصية ستجعل منه فيلماً صادقاً جداً لكنه سهل أيضاً. أتت سهولته في اختياره لأفراد بقوا بعد الحرب يحبون أن يحكوا عن تجربتهم في الانتماء إلى فريق سياسي لم يتورط داخل هول البشاعات التي ارتكبت فيها. بهذا المعنى يمكن القول أن تميز فيلم «شيوعيين كنا» لا يكمن في جرأة الطرح كما في «رصاصة طائشة» أو في الإصرار على فتح جرح ما زال نازفاً كما في «شتي يا دني»، بل يكمن في هذا الاستعراض الهادئ لهزيمة مشروع نضالي وليس لهزيمة أفراد. فقد بدت شخصياته تعي تماماً موقفها النضالي وطبيعة الحزب الذي انتمت إليه خلال حرب حاول كل فريق فيها استخدامه لضرب الطرف الآخر من دون أن يتمكنوا من جرّه إلى مستنقعات القتل المجاني. لم يقدم ماهر أبي سمرا فيلماً تسجيلياً بكائياً نادماً، ففرسانه الستة لم يسجلوا في تاريخهم أية انعطافة درامية تجعل السرد التوثيقي يخرج عن سكته التأملية الهادئة المتصالحة مع الذات ومع الذاكرة. قدّم مراجعة ذاتية صادقة ببناء سينمائي متين ومقاربة بصرية مبتكرة في أماكن كثيرة جعلت منه فيلماً جميل الصنعة في محاكاة فكرة الحاجة للانتماء إلى حزب يؤمن في المقاومة سبيلاً لإيجاد الحق والعدالة قبل أن تنزلق البلاد في هاوية أخرجت تلك المبادئ عن كل سياقاتها الأولى فتحول النضال النبيل إلى اقتتال داخلي لئيم. «من يراهن على النسيان فهو يؤسس لحرب جديدة» هكذا قالت بطلة فيلم «طيف المدينة» للمخرج المخضرم جان شمعون قبل أحد عشر عاماً في فيلم اعتقد الكثيرون أنه قدّم فيه خاتمة أفلام الحرب... واليوم عاد السينمائيون اللبنانيون ليؤكدوا أنهم لن ينسوا تلك الحرب لأنهم لا يريدون حرباً جديدة.