ننشر هنا في الذكرى الأولى لرحيل الشاعر العراقي سركون بولص قصائد من الجزء الثاني من أعماله الشعرية الذي يصدر قريباً عن منشورات الجمل ويضم أعماله الشعرية التي لم ينشرها في كتاب أو لم ينشرها أبدا. علامة جُرعةُ الماء، وما إن نشربها، حتّى نرى العلامة على طرق الظمأ. وليمة الجلاّد عندما نصبَ الجلاّدُ خيمتَهُ فارشًا آلاتِ شرابه على الأرض في حديقتنا الصغيرة مستعدًّا للاحتفال بالنصر بعد نهاية المذبحة رأينا الأزهارَ تنطفئ والنجومَ تَعْمى. رجلٌ خلف ستارة ماذا يملأُ عينيَّ رجلٍ مريضٍ بالقلب خلف ستارتهِ عندما يرى طفلتين تلعبان في أرجوحة ويسمعُ صوتهما الشبيهَ بالغناء عند الغسق مختلطًا بصريرِ سلسلةٍ صدئة ... هل تذكَّرَ المبضعَ الصامت حين غزا بُستانَ طفولته الضائع الخبيءَ في أدفأ زاويةٍ من زوايا قلبه المهزوم؟ شيءٌ لا اسمَ لهُ يثقبُ الغروب، كلَّ غروبٍ منذ الآن كجلدٍ قديم نَضاهُ عنهُ في سرير مستشفى. الواحدة والأخرى امرأةٌ سلتها مليئة بالفاكهة تغادرُ بستاناً وتتركُ البوابة متأرجحة تصرُّ كإرجوحةٍ صدئة لعلها هي نفسها من تهربُ ممزقة الرداء في أزقة الليل هي نفسها من أبحثُ عنها في الطرقات ولا ألقاها إلا في ذاكرتي: واحدةٌ تعبرُ متمرئية في الأخرى والأخرى، دوماً، واحدتي. اختفى دون ان ينطق بكلمة اختفى دون ان ينطق بكلمة ومضى دون ان يعرف لماذا. اتّهم الشجرَ والبرقَ بالخيانةِ وصاح بالفرات: أيّها الكلبُ كفاكَ تتبعني! رفسَ الحجر، ثمّ عانقَهُ وبكى وحين غادر الحانةَ حيث يبتسم الأمواتُ بعيونٍ ذئبيّة، كانت الكلمةُ كزوجةٍ وفيّة تنتظرُ في البرد لتأخذه الى البيت. حلم ليلة صيف كم أبعدُ الآنَ عن طرف البستان حيث كنتُ في ليالي الصيف أتربّص بمراهقةٍ حيرى لاتستطيع أن تنام؟ وكم سأمشي لأبلغ المكانَ الموعود.. عبر أيّة أرض نائية، نائية وملفوفة بالموت حيث مازالوا ينادون وهذا حطامُ الجسر الذي كان سيحملني اليهم. حلم العودة الى عاشقة أولى منذ ان أخذتني اليها خُطايَ وحين تراءت لعينيّ صورتُها وبدا أنني في الظلام الخفيف وجدتُ طريقي الى باب شقّتها فركعتُ وقبّلتُ أعتابها - بدأ الحلمُ مثل جدار شفيفٍ يلاحقني من أماكن مظلمةٍ رغم حدّة أضوائها في الأماسيّ، والليلُ عند انتصافهِ يُطلقُ ذئبَهُ في أثري. أن أراها وأن أتفرّس في وجهها برهةً، لأرى ما يحيّرني أو سينقذني ... وبحثتُ بعينين مجنونتينِ فأبصرتُ حبّي يحومُ كذئبٍ على أرضه هناكَ وكدتُ فيها أشمّ ترابي لكنني لم أكن واثقاً من يقيني الى أن تراختْ ارادتها مثل سلسلةٍ، حلقةً حلقةً فتحسستُ برهانَهُ بيدي، واستقيتُ بعيني دليلاً عليهِ جلياً هنا، أو خفيّاً، هناك ولكنني لم أكن موقناً لم أكن... جاهلاً كلّ شيء سوى همسها، وجهها، ناسياً كلّ اسئلتي واقفاً حيث لم أقصد السيرَ والأرض خلفي تردّ أبوابها لتنامَ قليلاً. أينما كنتَ دمُ العالم أينما كنت دم العالم يغلي باحثاً عن جسدي أينما كنتُ وهذا الحلم مصلوب على صدغي كربّانٍ على دفّة مركب حاملاً قوسَ حياتي وطناً شدّ الى أقصى مداه نحو نهر الانتفاضات الأمنية نائماً تحت فنار الصبر. وجهي ليس وجهي حاملاً بيتي في قلبي كعيدان ثقابٍ حاملاً عائلتي فوق لساني وطني في قبضتي... لحظة أعرفها أي شيء تركت ومضتهُ آثارها كالنجم إذ يهوي عميقاً في الزوايا أي شيء مرّ فوق القصب الأجوف فاهتزّ على مهلهِ في مستنقعات الذاكرة؟ لحظة أعرفها: ليل، ومرساة بلا حبل على رمل مصاريني تجرّ الصاريّة.