كتب عبدالوهاب البياتي في دواوينه، من أباريق مهشّمة حتى "نصوص شرقيّة"، كسور التواريخ والعشّاق، وكسور الشعراء والمدن والمتصوفين... وكأنه كتب ذاته الكبيرة المتنوّعة في هذه الكسور، أو جمعها جميعاً في تضاريس وجهه وتفاصيل جسده ونفسه... فهي مرآته الشعريّة، وهي هو في النصّ والسيرة الشعريين. ولم يشبه شاعر أشخاصه وكائناته، مثلما فعل البياتي من خلال الرموز الكثيرة التي استبطنها في شعره، والشخصيات التاريخية التي أعاد صياغتها ورسم ملامحها في ما يشبه التماهي بها، فهي شخصيات تعود فتدخل في إهاب الشاعر، وتتسرب روحه اليها، لتعود فتقيم في هيكله وجسده، فتصبح هي هو، فالنطق الشعري هنا هو نطق متعدد بلسان الشاعر، بل نطق الكورس بلسانِ المنشد، وهكذا انتقل البياتي بأشخاصه ومنازله، من التاريخ الى الرمز، وأمسك بخيط الضوء الخفي الجارح الممتدّ في جسد الظلمات عبر العصور، من خلال قوّة الشعر وبيان الكلمات. وكائنات البياتي في دواوينه كائنات كثيرة، بل لعله شاعر مولع بحفريات التاريخ، واستنباش الأمكنة والأزمنة والوجوه الغاربة، يستخرجها من أماكنها وهياكلها، ويؤرّق سكّان العالم السفلي بضربات معاوله الكبيرة، لكي ينهض بين يديه كل شيء من بواره وهلاكه، ويقف ككائن مرتجف من خوف الولادة وشغفها، فيغسله الشاعر بالماء المقدّس اللاذع، ويعود فيصوغ منه، من هذه "الماغما" التاريخية الهائلة، المتشكلة من كسور التواريخ وكسور العشاق والملوك والمتصوفة والشعراء، كما من بقايا المدن وآثار الهياكل ورقم الطين، مملكته الجديدة وكائناته الشعرية. ومن ديوان لآخر، كان البياتي يتنقل، وكأنه يتنقل من مدينة لأخرى، ومن أنثى لأنثى، ومن دهر لدهر، ويستعيد أسرار الملوك الغابرين، والعشّاق المحترفين والمولودين بعشقهم، والعُبّاد والفقراء والصعاليك، فاعلاً بالكلمات ما يفعله الخزّاف بالخزف، مع فارق الروح وقيمة البيان، فهو هنا يتمثل بالخزّاف الأعظم. وأعاد البياتي الى الوجود الشعري الفاعل، سير وأحوال عمر الخيام، الذي عاش في نيسابور، وأبي العلاء المعرّي أعمى معرة النعمان وفيلسوفها، والحلاّج، وشمس التبريزي وجلال الدين الرومي، وابن عربي الذي رغب الشاعر أن يموت ويدفن الى جانبه في دمشق... والمتنبي في مغامرته الكبيرة، مثلما أعاد غارسيا لوركا المقتول في غرناطة، وناظم حكمت "أجمل ميت في العالم". واستعاد عائشة وليلى وهند ولارا وخزامى، واستنهض مدناً وحضارات طمرت في الماضي تحت أنقاضها، بقدرة النطق وقوة الشعر. وهو، إذْ يتنقّل بين الممالك والأحوال، وبين المنازل والأشخاص، فإنه يُحلُّ ذاته محلّها، حتى يصبح القناع الأصل والأصل القناع. وتكاد تسأل نفسك في قصائده: مَنْ ضمير المتكلّم هنا، ومَنْ ضمير الغائب؟ المعرّي أم البياتي... الخيّام أم لوركا؟ حكمت أم جلال الدين الرومي؟ المتنبي أم نيرودا؟ وتسأل نفسك أيضاً: أهي ليلى أم خزامى؟ هند، لارا أم عائشة؟ فالبياتي هنا على صلة بالإشراف الشعري والعرفاني بلا ريب، والأعجب أن تراه وكأنه يقبض على حلقة الفيزياء والرياضيات العلمية أيضاً... حلقة السفر والتحولات في الزمان والمكان، ففي أسطر قليلة من قصيدة قديمة له، هي قصيدة "بكائيّة" من ديوان "الذي يأتي ولا يأتي"، ويضع الشاعر يده على هذه المسألة الخطيرة في السَفَر والتحوّلات". يصوّر البياتي في هذه القصيدة، من خلال استبطانه للسيرة الذاتية والشعرية للشاعر الفارسي عمر الخيّام، عودة الشاعر الى مدينة "نيسابور" ليسأل عن حبيبته "عائشة" التي سبق أن ماتت ذات يوم، ودفنت في سرداب من سراديب تلك المدينة... ويجول بطرفه بين الحفر لعلّه يراها تعود ثانية اليه، وتنبثق من ظلمات الموت ومن تفسّخ القبور. ويأتيه صوت من الغيب، ينبئه بأنّ عائشة ماتت موتاً أكيداً، فعلامَ السؤال؟ أنزلها الحفّار الى القبرِ من ها هنا، وكانت في ثياب العرس حين دفنت، وَوَضَعَ فوق رأسها تاجاً من الأزهار... والعلامة أنّ ساحرة تبعتها الى القبر، تبكي وراء نعشها، وأنّ عصفوراً حطّ على التابوت. لكنّ الشاعر يتبع موت حبيبته بلا دليل، حتى يؤرق حارس العالم السفلي بصوته فيقول: "عائشة ليست هنا / ليس هنا أحد / فزورق الأبد / مضى غداً / مضى ولم يَعُدْ". والجملة المدهشة في هذه القصيدة، هي "... فزورق الأبد / مضى غداً"، في ما يشبه النزول صعوداً في الزمان... فكيف ذلك؟ نعترفُ بدايةً، بأنّ ثمّة جانباً من سحر الغموض يكتنف المشهد... فَصِلة الموت بالحياة، ومسألة الانبعاث أو التجدد والانبعاث من العالم السفلي ومن رحلة الموت الغامضة الى أنوار هذا الوجود، هي من مسائل الحدس الشعري والصوفي، كما هي من مسائل الفكر الفلسفي والديني. أما نسبيّة الأزمنة والأمكنة، ومعنى التحوّل أو التنقّل من مكان لأخر، ومن زمانٍ لآخر، فهو موضوع الفيزياء الرياضية الحديثة في نظرية "النسبية". فجملة "زورق الأبد / مضى غداً..." تشير الى أن الرحلة التي تحركت في الماضي من خلال فعل مضى بصيغته في الماضي إنما تحركت منحدرة الى أعلى من خلال ظرف الزمان غداً، فثمة رجوع الى الأمام في هذه الحركة. كان هناك ثلاث فرضيات للسفر بين نقطتين، قدمتها الفيزياء الرياضية الحديثة، من خلال نظرية النسبية: الفرضية الأولى: سافرْ الآن تصل البارحة، والفرضية الثانية: سافر الآن تصل الآن، والفرضية الثالثة: سافرْ الآن تصلْ غداً. والعنصر المحدد لهذه الأسفار والأزمنة، هو عنصر السرعة. ان عنصر سرعة الصوت أو سرعة الضوء هي التي تجعل غد المسافر أ على سبيل المثال، بارحة المسافر ب... فرحلة البياتي الشعرية جزء من رحلة السنوات الضوئية. ولعلّ في الحفر على شخصيّة "عائشة" في شعره ما يدلّ على ذلك. فقد بدأ البياتي يتعامل مع هذا الإسم - الرمز منذ قصيدة "بكائية"... ولم تتوقف حفريات الشاعر بحثاً عن هذه المرأة - المدينة المسحورة حتى آخر أيامه على الأرض. لكنْ: مَنْ هي "عائشة" التي غَرَبَتْ على زورق الأبد، نزولاً الى صعودها، واختفاءً نحو ظهورها؟... يصعب رسم صورة واضحة المعالم لعائشة في قصائد البياتي، فلن يكون ثمة "ليلة للقبض على عائشة" في هذه الأشعار، فالقبض عليها كمثل القبض على فراشةٍ من ضوء... فهي امرأة ذات أسماء متعددة وذات أحوال وأقنعة، وهي ذات ظهورات كثيرة متباعدة في الأزمنة والأمكنة... وأوّل ما ورد من ذكرها هو أنّ عمر الخيّام أحب في صباه صبيّة حباً عظيماً، ولكنها ماتت بالطاعون، ولم يتحدث عنها في أشعاره. وهذه الصبية، إذْ ماتَتْ بين يدي الخيام، عاشت بين يدي البياتي... كانَ موتها في "نيسابور"، وحام يومذاك فوق رأسها نسر، وسُلِخَ جلدها، وشُويَتْ بالنار، لكنها عادت فنهضت مع نهوض المدينة... تكوّنت كما يتكون البشر الفانون، "من زَبَدِ البحرِ ومن قرارة الأمواج". وعائشة امرأة تموت في الحياة، لكنها تحيا في العدم. شوهدت مرةً على صورة صفصافة تبكي على الفرات وتتجدد مع الفصول. ودائماً في مراثيها لدى البياتي، تنبثق زغاريد تستقبل ولادتها من موتها، فكأنّ عائشة هي الحياة الحيّة في حركتها. وكما ظهرت عائشة في نيسابور، ظهرت في غرناطة، فقد وصفها الشاعر هناك، بل رآها في ديوان "الموت في الحياة" "تشقّ بطن الحوت / ترفع في الموت يديها / ترفع التابوت". ولا بد لعائشة من الموت لكي تولد. فإذا امتنع عليها الموت، امتنعت الولادة. يقول: "أموتُ من كوني لا أموت". وأين تنامُ عائشة يا ترى؟ يرى البياتي في قصيدة "مرثية لعائشة" من ديوان "الموت في الحياة" أنّ عائشة تنام في مكانٍ لا يظهر ولا يختفي، وفي سرير حائر هو أشبه ما يكون بالشجرة القرآنية المباركة" زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة، يكاد زيتها يضيء، ولو لم تمسسه نار" ويسميه الشاعر "المابين": "عائشة تنام في المابين". ويالله وهذا "المابين"، ما أشفّه وما أشدّ حلكة أنواره. إنه غامض كاختلاط النور بالديجور. ومدن عائشة التي تولد فيها لتموت، مدن كثيرة، وأسماؤها شتّى/ لعلها تدور كدوران الليل على النهار والنهار على الليل. وفي مثل هذا الدوران يدور جَسَد القصيدة لدى البياتي... شكلها وأساسها. فالقصيدة لديه تلتفّ على نفسها ببراعة هائلة حيث تسلّم كل عبارة نفسها للتي تليها، وقد تعود، مثلما كل موجة تسلّم نفسها لأختها، ويتدافع بحر القصيدة بين يدي الشاعر من أوّله لآخره، على صورة غزّولة مشتعلة بأنوارها، وتتحرك زوبعة صغيرة من كلمات تدور حول نفسها. وهي هنا تقنيته الخاصة به منذ وقت مبكّر، حيث لغة القصيدة وتجربتها مستمدتان من تجربته الوجودية: "بالأمس كُنّا / آهِ من كُنّا ومَنْ أمسٍ يكون؟ / نعدو وراء ظلالنا... كنّا ومَنْ أمس يكون؟ / لا نرهب الصمت الذي تضفيه أشباحُ الغروب / حتى النجوم / كنا نقول بأنها كانت عيون / للأرض تنظر في فتونْ / حتى النجوم / كانت عيونْ / ولربّما كنا نحدّق في الفراغ ولا ننامْ / وفي الظلامْ / كانت مدائننا تقامْ / وفي الظلامْ / كنّا نحدّق في الفراغِ ولا ننامْ من قصيدة الطفولة في أباريق مهشمة. وبالعودة الى أسماء عائشة ومدائنها وأحوالها، لدى البياتي، نرى أنها هي لارا وهند وخزامى وليلى... وهي آسرة شمس الدين التبريزي، خالب لبّ جلال الدين الرومي. يقول: "قلّد شمس الدين / لارا رايته / وقال لها: كوني لارا أو ليلى أو هند... قالت عائشة للناي الباكي" من قصيدة قراءة في ديوان شمس تبريز لجلال الدين الرومي... وهي في غرناطة، في قصر الحمراء، تظهر وتختفي في آخر الليل، وتمضي لا تترك عنواناً، بل تترك الشاعر وحيداً أعمى في الحب لا يعرف في المنفى أحداً ولا يعرفه في المنفى أحد: "في قصر الحمراء / في غرفات حريم الملكِ الشقراوات / أسمع ناياً شرقياً وبكاء غزال / أدنو مبهوراً من هالات الحرف العربي المضفور بآلاف الأزهار / أسمع آهاتٍ / كانت لارا تحت الأقمار السبعة والنور الوهّاج / تدعوني فأقرّب وجهي منها محموماً أبكي / لكنّ يداً تمتدّ فتقذفني في بئر الظلمات / تاركةً فوق السجّادة قيثاري / لم تتركْ عنواناً قال مدير المسرح وهو يمطّ الكلمات / شمس حياتي غَرَبَتْ / لا يدري أحد / الحب وجود أعمى ووحيد / ما من أحد يعرف في هذا المنفى أحداً" من قمر شيراز. وتتكرر ظهورات لارا أو عائشة. يودّعها الشاعر في غرناطة ليلتقي بها فجأةً في بار ليلي من بارات لندن، ويصف البياتي ما حصل في تلك الليلة فيقول: "شاحبةً كالوردة تحت عمود النور رآها / ضَحِكا / دخلا باراً / طلبا كأسين / اقتربت منه / وضعت يدها في يده / غرقاً في حلمٍ فرآها ورأته في أرضٍ أخرى / تحرقها شمس الصحراء / لندن كانت تتنهّد في عمق / عائشة اسمي قالت / وأبي ملكاً أسطورياً كان / يحكم مملكةً هدّمها الزلزالْ / في الألف الثالث قبل الميلاد" لكنّ عائشة، على وجه التحقيق أين تقيم؟ في إحدى روايات البياتي الشعرية يأتي أن عائشة كانت تعيش على نهر الخابور، وكان لها هناك بستان "بستان عائشةٍ على الخابور كان مدينةً مسحورةً عربُ الشمالْ / يتطلّعون الى قلاع حصونها ويواصلون البحث عن أبوابها" من ديوان بستان عائشة... لكنّ المدينة اختفت واختفى بستان عائشة، ولا أحد يعرف متى وأين "الموت عرّاف المدينة هادم اللذّات يعرف وحده / أين اختفى بستان عائشة وفي أي العصور". بستان عائشة. وفي صورة جانبية من الصُوَرِ العديدة التي يرسمها لها الشاعر، يصوّرها على أنها وجه وراء القناع... "وجه وراء قناعه / يخفي مدائن صالح وحدائق الليمون في أعلى الفرات". ونحن نتعرّف على الموطن التاريخي لعائشة من خلال التعرّف على وطنها الشعري. فقد كانت تعيش في مدائن صالح، في أعلى الفرات، على الخابور، في مملكةٍ طمرها الزمان، ثم عادت لتظهر في مدائن شتّى على هذه الكرة الأرضية. يوضح البياتي في "قيثارة الذات"، وهي مذكّراته وسيرته التي نشرها، شيئاً من أحوال عائشة، يقول: "أما من هي عائشة، وما هو بستانها، فبستانُها يقع بين مدائن صالح وأعالي الفرات حتى نهر الخابور. وهذه الأرض التي تسمّى الهلال الخصيب، هي وطن عائشة، وهي المنطقة التي كانت حاضنةً للاختمار الروحي للعرب قبل الإسلام. وان العرب، في اندفاعهم لأعالي الفرات، قد حجوّا الى الخابور، ليكتشفوا بستان عائشة الذي كان أيضاً مدينة مسحورة. كان عرب الشمال هؤلاء، يحجون الى هذا النهر، والى هذه المدينة المسحورة كل عام، في فصل الربيع، فيقدّمون الأضاحي والقرابين للنهر، كي تفتح لهم أبواب المدينة". وعائشة هي الشعر. صورتها وكأنها بين الخريطة والأسطورة، في مكان يظهر ويختفي وزمان متأرجح بين المابين". والبياتي حين أوجدها صنعها على صورته ومثاله. أي "صارت شكلاً والشكل وجود" كما يقول في قمر شيراز. والموت، كالبياتي نفسه، لا يزيدها سوى حياة. * شاعر لبناني.