لم تشهد الثقافات والديانات السماوية مثل ما شهده الإسلام من تفاعلٍ معرفيٍّ حول النصّ القرآني الذي ظلّ الثابت البنيويّ الوحيد والمتحرّك المعرفيّ المُطلق في الحضارة العربية الإسلامية. ويرى عبد العزيز الدوري أنّ النصّ القرآني يُعدُّ من أبرز مكونات الأمة العربيّة التاريخية حيث تمكّن الإسلام، عبر القرآن، من تكوين ملامح الشخصية العربية وصياغة مشروع الهوية الحضارية المتشكّل بتضافر اللسان العربيّ بالبيان القرآني. وحسب نصر حامد أبو زيد فإنّ الحضارة العربية الإسلامية حضارة النصّ بامتياز، ذلك أنّ النصّ القرآني ظل مداراً للنقاش والحِجاج اللانهائيين حيث تمخّضت عنهما مباحثُ معرفيةٌ متنوعة وجديدة. والناظر في المراحل التي قطعها التفسير في الإسلام يُدرك أنّ كلّ الجهود التأويلية الجبّارة التي بُذلت لم تُفلح في حسم تأويل النصّ القرآني وحسم معانيه، والحال أنّ المسلمين اتفقوا على التنزيل واختلفوا في التأويل وشطّوا فيه حتى غدا التنزيل موضع خلاف ومجالاً خصباً لممارسة التنابذ والخصومة العقائدية والمذهبية. لقد أدرك المسلمون الأوائل أنّ النصّ القرآنيّ شديدُ الارتباط بالواقع وذلك عندما راحوا يقارنون بينه وبين الشعر العربي، وسوف تكون مقالة عبد الله بن عباس:"إذا تعاجم عليكم شيءٌ من القرآن فعليكم بالشعر فإنه ديوان العرب"مؤشّراً الى حالة البلبلة المعرفية التي عاشها متلقو التنزيل الذين ظلت تتنازعهم ازدواجية خطابية حادة حيث ظلّ الشعرُ إطاراً مرجعيّاً لتفسير القرآن وتأويله. بيد أنّ هذا الموقع المعرفيّ، في تفسير القرآن وتأويله، لم يصمد طويلاً في وجه المستجدات المعرفية والأسئلة المبكّرة التي راحت تبحث في مكمن إعجاز القرآن ووظيفة اللغة ودلالاتها"فقد ذهب أهل السنة إلى أنّ إعجاز القرآن كامنٌ في بلاغته الرفيعة وإخباره عن الغيوب، في حين ذهب المعتزلة إلى أنّ إعجاز القرآن راجعٌ إلى فرادته الأسلوبية التي لم يُمكّنُ البشر منها"لأنّ المعرفة والبيان القرآنيين حُجِبا عن العباد وصُرفوا عنهما بحسب أبي إسحاق النظام. ولعلّ إشكالية النصّ القرآنيّ أنّه طرح معضلة مزدوجة لا فكاك بين طرفيها"إنها معضلة التلقّي والتحدّي، وإذا كان التلقي مرتبطاً بمعاني القرآن فإنّ التحدّي متوجّه، كما يُعبّرُ الباحث عبد الهادي الجطلاوي، إلى فكر الإنسان ومعارفه حيثُ محدودية طاقته الذهنية ونسبية قدراته المعرفية. فالمعاني القرآنية لا تُقاس بمعاني الكلام العاديّ"إنها معان واسعة وعميقة يستحيلُ الوصولُ إليها بمنطق اللغة الطبيعيّ إنما تحتاج إلى عمليات تأويل متقدّمة. وستتطور نظرية الإعجاز القرآني في القرنين الثالث والرابع الهجريين عندما دار الجدل حول مسألة الخلافة والإمامة وإشكالية خلق القرآن ففي هذين القرنين نشأت نظرية النظم التي راحت تفسّر إعجاز القرآن تفسيراً بنيويّاً مجرداً يبحث في القوانين التركيبية والبلاغية. ويبدو أنّ الجاحظ هو أوّل من كتب كتاباً أسماه"نظم القرآن"بيد أنه لم يصلنا لولا أنْ نجح الأشاعرةُ في الحفاظ على جوهر نظرية نظم القرآن بوساطة عبد القاهر الجرجانيّ في كتابيه: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، ثم جهود المعتزليّ الذي خرج من معقل الأشاعرة القاضي عبد الجبّار بن أحمد في كتبه: المغني في أبواب التوحيد والعدل ومتشابه القرآن. وعلى رغم ذلك لم يتمكن المفسرون وعلماء الكلام واللغويون والبلاغيون من تجاوز الشعر الجاهلي الذي ظل حاضراً في إطار مقارباتهم التي كانت تنشد تأويل النص القرآني"فبدءاً بمعمر بن المثنى في كتابه"مجاز القرآن"، ومروراً بالفراء في كتابه"معاني القرآن"، والجاحظ في كتابه"البيان والتبيين"، وابن قتيبة في كتابه"مُشكل القرآن"، وانتهاءً بالرماني في كتابه"النكت في إعجاز القرآن"، والخطابي في كتابه"بيان إعجاز القرآن"، والباقلاّنيّ في كتابه"إعجاز القرآن"كان العلماء المسلمون يبحثون عن ضوابط تحكم تأويل النصّ القرآنيّ. وقد واجه العلماء والمفسرون معضلتين معرفيتين"الأولى: الحقيقة والمجاز، والثانية: المحكم والمتشابه وهما معضلتان تُفاقمان إشكالية الممارسة التأويلية وتعطّلان آلياتها. وتضاف إلى ذلك كلّه مسألة الانتماء المذهبيّ والمرجع العقائديّ اللذين يُوجّهان المؤول، ويدفعانه إلى مزاولة التأويل الحِجاجيّ حيث يُصبحُ المؤول مطالباً بالذود عن المذهب والذبّ عن المرجع العقائديّ من جهة ومساجلة الخصوم ومقارعتهم من جهة أخرى. ولعلّ أبا القاسم الزمخشري أبرزُ نموذج دالٍّ على هذه الحالة حيث لم يتورّع في كشّافه عن مهاجمة خصومه التقليديين"أهل الأثر"ووصفهم بأنهم ممن"تتابعوا في السَفَه والغواية"وغير ذلك من النعوت، وذلك بصدد تأويله لآيات الصفات وقضايا الجبر والاختيار وعصمة الأنبياء. وسينحاز المعتزلة إلى العقل في مقابل النقل ويوصفون بكونهم"أهل النظر"، ويقررون، على لسان متكلميهم، أنّ النصّ القرآنيّ كلّه ظاهرٌ ولا باطن له، وأنّ مكمن الغموض في آياته راجع إلى معضلة المحكم والمتشابه والحقيقة والمجاز. لذلك يُشددُ المعتزلة في تأويلهم على الأدلة العقلية واللغوية التي تُشكِّلُ أدواتٍ معرفيةٍ لتأويل النصّ القرآنيّ. كما أنهم يرون أنّ لغة النصّ القرآنيّ تنتمي، بالقوة، إلى المواضعات اللغوية المبثوثة في اللسان العربي ما يعني أنّ المنظومة اللسانية العربية فضاءٌ معرفيٌّ تنتهي إليه الممارسة التأويلية التي تقوم على تحالف العقل واللغة. أما التأويل بالمنقول أو بالمأثور فيُرجعُ الممارسة التأويلية إلى الرسول وأصحابه ضمن هرميّة تُشدد على سلسلة الرواة وإحكام السّند. بيد أنّ شيوع أخبار الآحاد في كتب التفسير بالمنقول قلّل من أهميتها بعد أنْ مُنيت بالتزييف ووضع الأخبار. والحقّ أنّ صراع المرجعيات العقائدية قد أسهم في خلق حالة من الاضطراب التأويليّ في الحضارة الإسلامية، كما أنّ تعدد المرجعيات ونموها وتفاعلها أدّى في كثيرٍ من الأحيان إلى حدوث انشقاقات تأويلية في المذهب الواحد كما هي الحال في آراء المعتزلة وخلافاتهم الجذرية في كثير من القضايا. وكما عاش المذهب السنيّ شِقاقاً تأويليّاً كذلك حدث في المذهب الشيعيّ الذي يبدو أنه سقط في فِخاخ التأويل الهرمسيّ حيث التشديد على قراءة وحيدة ونهائية تقود إلى التسليم بمبدأ"إمامة آل البيت"وهو الثابت البنيويُّ الوحيد في النصّ القرآني، حسب المذهب الشيعيّ. ويرفع المفسرون الشيعة خبراً إلى الإمام جعفر الصّادق مُفاده: أنّ القرآن ثلاثة أجزاء"ثلثٌ في الأئمة، وثلثٌ في أعدائهم، وثلثٌ في الأحكام والقضاء. ويتفقُّ الشيعة الاثنا عشرية مع الشيعة الإسماعيليين على مصادر تأويل النصّ القرآنيّ حيث يُشددون على ثلاثة مصادر هي: الإمام عليّ بن أبي طالب ومحمد الباقر، ثمّ أقوال الأئمة الذي يُعدّون الرواة الحقيقيين لأقوال الرسول"فالأئمة ورثة العلم من جهة ومعصومون عن الخطأ من جهة أخرى. ويرى الكرمانيّ، صاحب كتاب"راحة العقل"، أنّ التأويل مقابلٌ للتنزيل. فالتنزيل هو الظاهر والتأويل هو الباطن. لذلك فوجه إعجاز القرآن، بحسب الكرمانيّ، كامنٌ في المعنى والتأويل. ويؤمن الإسماعيليون أنّ تأويل النصّ القرآنيّ لا تُدركه اللغة ولا العقل بل الإمام المعصوم القادر على تأويله. بيد أنّ هناك إشكاليةً عميقةً تواجه قارئ تراث الإسماعيليين التأويليّ مفادها: لماذا نسب الدعاة الإسماعيليون ما كتبوه من مدوّنات تأويلية إلى أئمتهم؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال تنبغي الإشارة إلى أنَّ الكرمانيّ قد أعطى التأويل معنى الحكمة والفلسفة، بمعنى آخر يجب أنْ يتحلّى المؤوّل بروح التسامح المعرفيّ، فقد كان الإمام جعفر الصادق يُجيبُ عن المسألة الواحدة بسبع إجابات وحتى بسبعين، وهي نوع من السياسة والمرونة المعرفيتين. لقد نسب الدعاة الإسماعيليون مؤلفاتهم إلى أئمتهم"ليُكسبوها صدقية معرفية، وليضفوا عليها وثوقيّة شرعية. وهذا ما فعله القاضي الإسماعيليّ النعمان بن محمد، في أساس التأويل، حيث نسب ما كتب إلى المعز لدين الله الفاطميّ. وبحسب بعض الدارسين فإنَّ نسبة الكتب إلى الأئمة تدرج ضمن سياسة تربويّة عقائدية تجعل من الأئمة مصدرَ كلّ العلوم. ليس هذا فحسب بل إنّ الخليفة الفاطميّ المعزّ لدين الله كان يرى أنّ كلّ العلوم التي يملكها العامّة إنما هي علوم آل البيت"ذلك أنّ الأئمة هم وارثو علوم الأنبياء. إنّ النصّ القرآني بحسب الشيعة الإسماعيليين نصٌّ مُعمّىً لا يُفْهَمُ ظاهرُه إلا بتأويلٍ يُفضي إلى كشف الباطن، وتجليةِ الرموز وإزالة الحُجُب عن المعاني الباطنية المحجوبة التي لا يعلمها إلا الخواص الراسخون في العلم. ويُشدّد الشيعةُ الإسماعيليون على أنّ العلاقة بين ظاهر النص القرآنيّ وباطنه ليست لغوية مجازية، وأنّ من العسير على دارس اللغة والعارف بتطوّر دلالات ألفاظها أنْ يتمكّنَ من رصد العلاقة بين الظاهر والباطن"لأنّ هذه العلاقة باطنيّة تستحيلُ معرفتها إلاّ بتلقّي علم التأويل عن الأئمة والحُجج والدّعاة. وإذا كانت المعرفة التأويلية عند الإسماعيليين إماميّة فإنها عند المتصوفة إشراقيّة، وهنا يمكن الحديث عن التشابه المعرفيّ بين الإسماعيليين والمتصوفة في موقفهم من اللغة، فالمتصوّفة يرون في اللغة رموزاً إلى معانٍ باطنيّة ترتبط بالمواجيد ولا يعرف دلالاتها إلاّ من خاض تجاربهم، وتدرّج في مدارجهم، وكان له، من بعد، إشراقٌ وفيضٌ يأخذان به إلى هذه المعاني الباطنيّة. ولعلّ مقالة ابن عربي:" لا يعرف مقالي إلا من رقي مقامي"تكشف عن تأويل يُقاربُ بين الثنائيات القرآنية ويجسر الهوّات القائمة بينها. * أستاذ السيميائيات وتحليل الخطاب في جامعة فيلادلفيا الأردنية.