ما يرتضيه "أقوياء" الثامن من آذار بوصفهم أقلية معارضة ليفرجوا عن الرئيس والحل، لا يقلّ عن سلطة تملك القرار ونسفه، والحكومة واقتلاعها، والرئيس وتحييده، وتوقيت تنصيبه، وبرنامج فرضه، ومعادلة رفضه أيضا، في حفلة للابتزاز السياسي قلّ أن يشهد أحد لها نظيرا، ولا أظن قوى الرابع عشر من آذار قادرة على الوقوف متخشبة في مربع رفض التحاور مع العماد ميشال عون، فلقد كشفت الأقلية القوية المستقوية عن صلابة في تخطي لغم العماد سليمان، ونجحت في إعادة التموضع ردا على هجوم الغالبية النيابية الناجح بإشهار ورقة ترشيح قائد الجيش، والأكثريةُ مدعوة لإعادة التموضع هي الأخرى، فالكرة عادت إلى منتصف الملعب من جديد، في معمعة حامية يكاد اللبنانيون يقضون تحسرا وهجرة ويأسا وخوفا مما تحمله مع كل ثانية من ثوانيها إلى بيوتهم وأفئدتهم. ومع ذلك كله، فالفرص خارج لبنان تتسع لإنجاز تفاهم لم يعد ثمة مناص منه بين الولاياتالمتحدة الأميركية وإيران، ولعل الأنظار المصوبة إلى باكستان ومسرحها السياسي والأمني تشكل قوة دفع لازمة للتسريع بهدنة سياسية أو إبرام اتفاق بين القوتين المتصارعتين، وإذا كان ثمة موضع للرجاء في التحليل السياسي، فالمرجوّ اليوم ألا تتهور قوى الثامن من آذار فترتكب خطأ يمكن للبنانيين جميعا، وحدهم، أن يدفعوا ثمنه، والستاتيكو الحالي المتمثل بخلو مقعد الرئيس، وعرج الحكومة، وكوما مجلس النواب، وزوابع العماد ميشال عون اللفظية، يجدر ألاّ يتبلبل بشوارع غير آمنة، وتهديدات لا يقوى أصحابها على احتمال عواقبها، انتظارا لما ستسفر عنه البيئة الدولية"فكما أنّ الفرص تتسع لإنجاز تفاهم سياسي مقبول، فإنّ المخاطر تتعاظم إزاء إمكانية ارتكاب أخطاء، لا يمكن الجزم بقدرة فريقي التفاهم، أو رغبتهما في تطويق فصولها وذيولها، بعد ولوج الصكوك ميادين التطبيق. مؤشرات إمكانية إبرام اتفاق أميركي- إيراني بدأت بالوثيقة التي أعلنت فيها وكالة المخابرات المركزية الأميركية براءة إيران من تهمة المضي قدما في برنامجها النووي غير السلمي، وتواصلت في حوارات دول الجوار العراقي ومنجزاتها الأمنية اللافتة، وبلغت هذه المؤشرات أقصاها عبر النذير الغاضب الذي أطلقته باكستان مع الاغتيال الصاعق لزعيمة المعارضة بينظير بوتو. وفي ظلّ الإشارات الباسمة التي أرسلتها وزيرة الخارجية الأميركية مؤخرا عندما أوضحت أنّ عداءات أميركا متحركة وليست ثابتة، في قصد لإيران لا يخفى، تجسّدت رغبةُ الولاياتالمتحدة في تنحية صراعها مع إيران مؤقتا يمين ما يقلقها في باكستان أو خلفه، خصوصا أن حديث الرئيس بوش الذي سبق تصريحات رايس تلك، خلا على نحو لافت من التهجم على إيران وسياساتها، واكتفى بصب الحمم على النظام السوري وممارساته المعيقة في لبنان. بل إنّ ما أعلنه الديبلوماسي الأميركي العريق مارتن إنديك من اتصالات سورية إسرائيلية حالية، وتعمّد السفير السوري في واشنطن عدم نفيها، أظهر أنّ احتمال إنجاز خطوة متقدمة على طريق تفاهم أميركي إيراني أصبح على صفيح ساخن، فللنظام السوري حاسة شمّ جيدة تجعله يتحسب إسرائيليا لما يمكن أن يقع إيرانيا على الدوام! والتناغم السوري الإيراني كان منوطا بالثالث الإسرائيلي وما زال، وفي ظلاله يدأب النظام السوري في العادة على التلويح للعرب بإيران، ولإيران بإسرائيل! ولأنّ حال التماسك الهش الذي تعيش منطقتنا في نعمائه يدخل في صلب الحسابات والتحسبات، فقد استطاعت عملية السلام أن توفر أبوابا ضيقة للنظام السوريّ ليفر منها عندما يدهمه خطب ما، ولا يبدو أنّ اللعبة يمكن أن تنقلب على أصحابها في المدى القصير، فالاختراق الفلسطيني المدعوم عربيا لمفاوضات الحل النهائي، يبدو بعيد المنال في المدى المنظور على الأقل، وليس التلويح الإسرائيلي بإطلاق الاستيطان مجددا في القدسالشرقية سوى إشارة سياسية بليغة أراد الإسرائيليون منها إبلاغ الفلسطينيين وحلفاءهم من العرب، أنّ ما تفعله إسرائيل على جبهة التواصل مع السوريين جديّ يمكن لمكاسبه أن تفوق الأرباح التي تنتظرها إسرائيل من اتفاق على المسار الفلسطيني، ولا تخطئ الأعين ما توفره هذه الإشارة من فرص الابتزاز التي تتقنها إسرائيل بكفاءة، فالرئيس محمود عباس محشور بأزمته الداخلية وغير قادر على الغضب، لأنّ أنابوليس جرده من هذه الإمكانية، وجعله أمام فرصة واحدة هي نجاح المفاوضات، وخيار أوحد هو بدء التفاوض تحت أي ضغط، وفي ضوء أي ابتزاز. وهكذا، فإنّ الاغتباط الأبله الذي يحرص الجميع خارج لبنان على إظهاره، لا يخفي القلق الذي يعتورهم جميعا"لأنّ لعبة العض على الأصابع تجعلهم يصرخون بصمت، فيما تقاتل أساريرهم لترسم مشهدا مختلفا، وما يفعله فريق منهم مشروط بما يحدث على الطاولات، وليس بما تختزنه الأمنيات والإشارات، ولكلّ مطالبه وسقوفه ورصيده ووزنه ومقدرته، وإذا كانت الضغوط تحاصر الجميع كما تؤكد السحنات والأحداث، فإنّ حجوم هذه الضغوط، ومقدرة كل فريق على الصمود ساعة إضافية يكسب بها رهانه متباينة أشد التباين. فالولاياتالمتحدة تضغطها عوامل ثلاثة: الزمن الذي يفصلها عن انتخاباتها الرئاسية، وفزعها من الاستيقاظ على كابوس إيران نووية، وكارثة إمكانية تمكن الإسلاميين من القبض على السلطة في باكستان بعد اغتيال زعيمة حزب الشعب بوتو. ولكنّ ما يثلج صدور القلقين من التراخي الأميركي، أنّ ملفيّ إيرانوباكستان سيشغلان الحزبين الأميركيين الرئيسين، فلا تهاون ولا إهمال، وسيحظى الموضوعان بمناقشات سجالية تجعلهما اهتمامين شعبيين بارزين أيضا، وستثبت الحملتان الانتخابيتان القادمتان حمق تعاطي الإدارة الأميركية الحالية مع الرئيس برويز مشرف"الجنرال الذي صعد إلى السلطة عبر انقلاب عسكري لم يطح بحكومة السيد نواز شريف فحسب، بل أطاح معها بمنجز ديموقراطي اكتوى الباكستانيون بسقوطه، وشكّل غياب الديموقراطية طوال عهده الذي يقترب بعجلة من فصله الأخير، فرصة دنيئة للمتطرفين للصعود إلى صلب المشهد السياسي والأمني، وسيثبت صراع الحزبين الأميركيين على الرئاسة، أنّ الجمهوريين تورطوا بتأييد قوة غير ديموقراطية، وأنّ أحدا لا يستطيع أن يضمن أن تفلت الولاياتالمتحدة بجلدها من أكلاف ذلك التأييد وعواقبه"إن في الإحباط الذي أقضّ به مضاجع القوى الديموقراطية في باكستان والعالم وانعكاساته الخطيرة، وإن في التسبب المخزي بيقظة المجموعات المتطرفة. وأما إيران، فيضغطها قلقها من انقلاب الأميرك يين على تطميناتهم وصكوكهم، وخبرتهم المميزة في مجال شراء الوقت واللعب على الحبال والدول ومصالحها، وما زالت القيادة الإيرانية تقرأ باهتمام وثيقة التبرئة الملتبسة، وتنظر إليها حتى اليوم بوصفها أرض احتمالات، تقول بإمكانية التفاوض وتشترط، وتعبّر عن الإقرار بإيران دولة أوسع من ذاتها وتعاملها باستعلاء مقلق، ولا يقع في وهم القيادة الإيرانية بالطبع أنّ ردها المعلن على الوثيقة بأمن جيد في البصرة بعد انسحاب القوة العسكرية البريطانية من مسرحها الأمني، يمكن أن يكفي الولاياتالمتحدة الأميركية ثمنا لحكم براءة، فالإيرانيون يعتقدون جازمين أنّ مواصلة الضبط الصعب لعناصر حزب الله وأعوانه في لبنان عن اقتحام السرايا الحكومي وافتعال فوضى واسعة، ولجم حماس عن التمدد خارج غزة، يساوي أكثر مما أعطاه الأميركيون من مؤشرات تطمينية ملخصة في ورقة استخبارية يمكن للبيت الأبيض في أية لحظة أن يعدها اجتهادا لا صحة له. ويتخوّف الإيرانيون أيضا من تطورات دراماتيكية محتملة في العراقولبنان وفلسطين وباكستان، يمكنها أن تخرج عن سيطرتهم لأسباب لا طاقة لهم على التحكم بها، فتقلب نقاط قوتهم ضعفا، وتجعلهم يرتجفون في مفاوضات تقاسم النفوذ المزمع مع الولاياتالمتحدة، وقد تشطب فرصتهم من جذورها. وعلى الرغم من أنّ إيران تبذل جهودا هائلة للحفاظ على الستاتيكو الراهن خوفا على فرصها المعززة بالتفاوض مع من تسميه بالشيطان الأكبر! فإنّ جهودها مرهونة بالرضا الأميركي عن نوعية ممارساتها الأمنية واللوجستية والسياسية تجاه الجماعات الباكستانية المتطرفة، وستبقى الولاياتالمتحدة متيقظة للإيرانيين الذين سيضطرون عاجلا أو آجلا إلى مقاومة تمدد نفوذ الإسلاميين المتطرفين في باكستان، والعمل على إنضاب مصادرهم المالية والعسكرية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وستلجأ إيران إن أرادت تقاسم شيء مع الولاياتالمتحدة إلى التحالف مع القوى الباكستانية المناهضة للتطرف، لتعيق خطط إشاعة الفوضى التي تشكّل حجر أساس صعود إسلاميي باكستان إلى منصة السلطة، فهي تدرك أنّ هذه القوى المتطرفة دأبت على النظر إليها بوصفها دولة شيعية ترنو إلى الهيمنة على العالم الإسلامي، وكيانا يستمرئ الرفض والرفضية في الدين والسياسة. ولأنّ الأمر يتعدى الخصوصية الإيرانية إلى الطموحات التي يمكن لإسلاميي باكستان المتطرفين في حال قبضهم على المصير الباكستاني وسلاحه النووي، أن يعيقوا جلّها، ويرهبوا النظام الإيرانيّ وثورته الإسلامية، فإنّ الإيرانيين سيندفعون إلى التحصين والاستعداد لمقاومة هؤلاء المشككين بحجم دولتهم ودورها وزعامتها الإقليمية وفرصها السانحة، الأمر الذي سيوفّر لناظريّ الإدارة الأميركية مشهدا خلابا وشهيّا لتورّط إيرانيّ بعيد المدى في صراعات باكستان! ولن يكون على أميركا أن تبذل الكثير لتوفير هذه اللوحة لعينيها وتحصين خطوطها ضد الزمن وعوامل الطقس المختلفة، فمن المعلوم أنّ رجال الأمن غير الرسميين الذين يدافعون عن الأمن، أو عن دولهم الآمنة، أو عن مصائرهم الشخصية، لا فرق، يتقاضون جعالة شهرية أو موسمية، تنخفض بانخفاض محصولهم، وترتفع بازدياد الغلال التي يرضى عنها من يرون أنفسهم"مُلاّك الأرض"ومن عليها، وماعليها! أخيرا، إذا كنت أستطيع فهم موقف الرئيس محمود عباس الحذر من موضوع غزة، وجهوزية أساطيل الممانعة لاتهامه ب"الأسرلة"إن ارتكب أصغر هفوة هجومية في هذا الميدان، فإنني عاجز عن تفهّم تأنّي قوى الرابع عشر من آذار، وعظيم صبرها، وعدم استغلال هذا المزيج الإيرانيّ المثير من الهلع والطموح وتضخّم الأنا المفرط المضحك والمبكي، بالدفع بعملية الاستقلال اللبنانيّ إلى الأمام، وإنجاز خطوات إضافية في مجال الاستحقاق الرئاسي"لأنّ الزوابع التي يثيرها قادة حزب الله في وجه الأكثرية، والعنتريات اللفظية التي يواظبون على ضخها في المدى اللبناني محدودة الأفق، ومسدودة بحواجز إيرانية! ولن ينصب هذه الحواجز بجدية ومحمومية وحرص سوى رجالات حزب الله بأنفسهم وبأيديهم، ليعرقلوا بفولاذها ذواتهم، ويلجموا بقضبانها طموحاتهم ومشتهياتهم، حواجز سامقة ومكهربة، لعلّ العماد ميشال عون يدرك أخيرا، وقبل فوات الأوان، أنّ عودته إلى باريس أهون من اقتحامها، وأنّ تنحيه جانبا أنبل للفارس المترجّل من التفجّر بصواعقها. * كاتب سوري.