ذهب فاروق الشرع نائب الرئيس السوري، في حديث له أخيراً، الى أن الاضطراب في لبنان سببه ضعف الحكومة، أو الفراغ السياسي، وهو قد أصاب في ذلك من حيث لم يقصد. إذ كان قصده التشكيك في حكومة الرئيس السنيورة، شرعية وقدرة. بيد أن الواقع أن الانقسام السياسي في البلاد، والذي بدأ ظاهراً وتطور بشأن المحكمة، وأدى الى انفكاك التحالف الرباعي، وبلغ ذروته بحرب تموز يوليو 2006، هو العلة الرئيسية لما جرى ويجري منذ حرب تموز وحتى اليوم. وقد تحرك السوريون بعد الحوار الوطني الأول، الذي أفضى الى الاتفاق على تنظيم العلاقات مع سورية، وإقرار المحكمة، ومصادرة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وكلها مقررات ضد سورية!، تحركوا لإرغام حلفائهم في"حزب الله"وحركة"أمل"على عدم تنفيذ المقررات، وذلك من خلال أحمد جبريل و"فتح الانتفاضة". ويبدو أن قراراً كبيراً اتخذ وقتها يتصل بالعلاقات بين ايران وسورية. فعندما خرج السوريون من لبنان على أثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري، ودّعهم السيد حسن نصرالله في 8 آذار/ مارس 2005 بخطاب شكر كبير، فُهم منه أن الشيعة ما عادوا بحاجة الى السوريين لحفظ مصالحهم لا في العراق ولا في لبنان، وأنهم هم سيقومون بحفظ مصالحهم بأيديهم، وسيحولون دون الإضرار بالنظام السوري ومصالحه في الحدود التي تتعلق بهم. لكن في ذلك الوقت، كانت العلاقات الايرانية - الاميركية ما تزال حسنة، وكان الايرانيون يتوسطون حتى بين السوريين والأميركيين كي يتوقف السوريون عن تسريب السلاح والمسلحين الى العراق. وهكذا لم تظهر آنذاك حاجة للالتزام بحماية النظام السوري، بما في ذلك الكبائر التي يرتكبها مثلما حدث في لبنان. بيد أن الأمر تغير في مطالع العام 2006، و"صرح الشر عن نابه"كما يقال في المثل العربي القديم بين الطرفين الايراني والأميركي، بسبب الملف النووي والعراق وأمور أخرى من بينها"حزب الله". وهكذا برزت الحاجات والمصالح المتبادلة بين ايران وسورية، ومن ضمنها ضرورة استمرار التحالف مع سورية، وضرورة تعاون"حزب الله"بالكامل مع النظام السوري من أجل المصالح العليا الايرانية في الصراع المقبل مع الولاياتالمتحدة. وقد برز ذلك على الفور في تحريك سورية لأحمد جبريل وانتقال موقف"حزب الله"من التوسط لإنهاء أحمد جبريل، الى الامتناع والممانعة، تارة لأن الجيش والحكومة أخطآ، وطوراً لأن الاخوة الفلسطينيين لا يصح أن يعاملوا معاملة العدو وإن أخطأوا. وأخيراً لأن البدء بنزع سلاح الفلسطينيين سينتهي بالاتجاه لنزع سلاح"حزب الله"! وجاءت حرب تموز وما تلاها لتزيد من اتساع الهوة السياسية بين الطرفين 8 آذار، و14 آذار في لبنان. وقد كان ذلك كله لحساب سورية، وعلى حساب الشيعة. وظل ذلك كله مبرراً بحاجة ايران لسورية في تجاذباتها مع الولاياتالمتحدة ومع اسرائيل. بيد أن كل اجراءات"حزب الله"وتوتراته لم تمنع المحكمة، التي يريد السوريون منعها بأي شكل: حاولوا ذلك بالاغتيالات، وحاولوه بالإغراءات، وحاولوه بالصراع وبالمصالحة مع البلدان العربية، وها هم يحاولونه أخيراً ب"فتح الإسلام"، وسيحاولونه في المستقبل القريب على الأرجح بالاغتيالات التي لم يتخلوا عنها على أي حال! ما استطاع"حزب الله"منع المحكمة أو خدمة النظام السوري في ذلك، وتسبب لنفسه وللشيعة في لبنان عموماً بمتاعب جمة: بدوا ومن دون سبب ظاهر وواضح خارج اللعبة السياسية في وقت القرارات الكبرى والمصيرية في لبنان والمنطقة، وصار سلاح"حزب الله"استهدافاً رئيسياً لكل الفرقاء ليس بسبب حرب تموز فقط، بل ولمواقف"حزب الله"بعدها، والأهم من ذلك أنهم دخلوا في صراع مع السنة كاد يتحول الى حرب أهلية طاحنة. فقبل الحرب ما كان أحد حتى اسرائيل يتحدث عن سلاح الحزب وبعد الحرب صار الغرب والعرب يتحدثون عن سلاح الحزب باعتباره سلاحاً ايرانياً، وصار اللبنانيون يتحدثون عنه باعتباره سلاح انشقاق وفتنة. وإذا كانت حرب تموز حرباً لصالح ايران، فلا شك أن تصرفات"حزب الله"بعدها هي تصرفات لصالح سورية: لمنع المحكمة، ولإبعاد خصوم سورية عن السلطة السوريون و"حزب الله"ونبيه بري وعون وأنصار سورية الآخرون مستعدون لقبول هيّان بن بيان رئيساً لوزراء لبنان بشرط إزالة الرئيس السنيورة!. وقد قام الحزب فعلاً بكل شيء، إلا بالحرب الأهلية التي كان النظام السوري يريد منه القيام بها! إن الذي يقود الى هذا الكلام، هو الموقف الأخير للسيد حسن نصرالله يوم الجمعة الماضي، في ذكرى التحرير. والواقع ان السيد نصرالله، وبسبب انهماكه الهائل في الخصومة مع خصوم سورية في لبنان، باعتبارهم"عملاء أميركا"طبعاً، ما عاد يحب ذكرى التحرير هذه من العام 2000، لأنها في نظر اؤلئك الخصوم تجعل من حرب تموز كارثة لا معنى لها بالنسبة الى اللبنانيين على الأقل! وعلى كل حال، فإن السيد نصرالله عاد في كلمة التحرير السابعة الى تغطية النظام السوري، فما ذكره بكلمة، بل انصرف الى إظهار التضامن مع الفلسطينيين ومنع التعرض لهم وللمدنيين في المخيمات، وإنذار الولاياتالمتحدة من التدخل، والقول إنه كلما ذكر الإرهاب بحق أو باطل كان ذلك تمهيداً لإدخال الولاياتالمتحدة. لقد فاتت السيد نصرالله أمور عدة: الأول ان الأمر ليس أمر إرهاب و"قاعدة"، كما تزعم سورية والولاياتالمتحدة، ولأسباب مختلفة. بل إن هذا التنظيم انما هو صناعة سورية خالصة، وهذا ما تدل عليه تصرفات واعترافات أعضائه. ولسورية مصلحة في القول إن الموجود هو الإرهاب و"القاعدة"، وهي تقول ذلك منذ سنة ونصف سنة وعلى لسان الرئيس الأسد. وهي تعتقد ان الغرب سيسارع من جديد للتعاقد معها على مكافحته أو استيعابه، وسيتخلى مقابل ذلك عن المحكمة وغيرها. والولاياتالمتحدة لها مصلحة في إشعال كل الملفات، وفي فتح جبهات تتحول ضد خصومها ومناكفيها من إيران التي فتحت عليها الآن جبهتي العراقوأفغانستان بعد أن كانتا شريكتين لخمس سنوات إلى سورية، التي تخشى أن تحاول الولاياتالمتحدة استخدام دعوى مكافحة الإرهاب للضغط على النظام السوري على الحدود، من لبنان وغير لبنان، ومن جانب كل المتضررين من ذاك النظام من عقود طويلة. أما الأمر الثاني المهم والذي نسيه السيد نصرالله أو تناساه عمداً، فهو أن السنوات الست الأخيرة ما شهدت بالتلازم حضور طرفين للتجاذب والصراع هما"القاعدة"والولاياتالمتحدة، بل شهدت طرفاً ثالثاً بين"القاعدة"وإدارة بوش هو إيران، التي كانت أقرب إلى الولاياتالمتحدة حتى العام 2006. حضرت إيران شريكاً مع الولاياتالمتحدة في أفغانستان. وحضرت إيران طرفاً عارفاً وموافقاً مع الولاياتالمتحدة في غزو العراق، ثم تحولت الى شريك بعد وصول أنصارها إلى السلطة في العراق الجديد. وتركت الولاياتالمتحدةلإيران وسورية مزارع شبعا في العام 2000، وتركت"حزب الله"يكوّم السلاح ويجمع المسلحين لست سنوات من دون اعتراض، في ظل التفاهم الكبير بين إيران وسورية والولاياتالمتحدة. وإذا كانت إيران قد حضرت من قبل بالتوافق، فإنها بعد حرب تموز يوليو إنما تحضر للتجاذب والتصارع. لكن في لبنان بالذات، اثبت النظام السوري قدرة فائقة على حصد كل النتائج لصالحه، بحكم وجوده على حدود إسرائيل ولبنانوالعراق، واضطرار إيران عند ارادة التدخل للاستعانة به أو استخدامه طريقاً. أو بعبارة أخرى: ان المحادثات الإيرانية - الأميركية ما وصلت الى حدود الاستغناء عن التحرشات المسلحة. كما أن المحادثات الإيرانية - السعودية ما وصلت بعد الى الاستغناء عن التعاون مع النظام السوري. وهكذا يكون على السيد نصرالله أن يقرر ما دام لا يريد ازالة الدولة في لبنان، ولا الحرب الأهلية التوقف عن الخضوع للابتزاز السوري والاستخدام السوري. لكننا نعلم أن هذا قرار لإيران وليس له، والتوتر يتصاعد الآن من جديد بين إيرانوالولاياتالمتحدة على مشارف عقوبات جديدة ضد النووي الإيراني، ولذلك لن يترك الإيرانيون النظام السوري الآن ولا في المستقبل القريب. وستتراوح قدرات"حزب الله"المحدودة في هذا السياق بين الاستمرار في الاضراب والتعطيل أو المبالغة بالدخول الى جانب السوريين في حرب مخيمات جديدة، وهو ما سبق للسوريين أن جربوه ونجحوا فيه مع الرئيس بري آنذاك، لكن في ظروف مختلفة. والأمر الثالث الذي نسيه السيد نصرالله، العروض المتوالية التي تقدم بها أهل 14 آذار لحل المشكل الداخلي، والتي رفضها تارة لصالح الجنرال عون، وطوراً لصالح النظام السوري، من دون أن تكون في ذلك أي مصلحة للبنان أو للطائفة الشيعية. هذه المرة يعرض السيد نصرالله حكومة طوارئ لمواجهة المشكلات. كيف سيطمئن الآخرون لعرضه، وأنه ليس للتعطيل مثل الثلث الضامن، وبخاصة أن المطلوب اتخاذ قرارات ليست كلها لصالح النظام السوري: انهاء جبهة المخيمات، وضبط الحدود مع سورية، واخراج رئاسة الجمهورية من الأسر السوري؟! لا بد من قرار توافقي كبير يضع حداً للتدخل السوري في لبنان، والتداخلات المرتبطة به مثل فوضى السلاح الفلسطيني والابتزاز بالإرهاب. ومن هذا الطريق فقط يمكن منع الأميركيين من الدخول على خطَّي مكافحة الإرهاب والضغط على النظام السوري من لبنان. ومن هذا الطريق فقط يمكن انهاء المشكلة حول الرئاسة بما يرضي المسيحيين ويعيد التوازن للنظام السياسي في لبنان. * كاتب لبناني