كنت في الرابعة عشرة من عمري أو الثالثة عشرة تقريباً عندما رأيت مجلة"العربي"في منزلنا، فلفت انتباهي شكلها الجذاب وطباعتها الأنيقة، وتوجهها القومي، فقد كانت مجلة كويتية، ورئيس تحريرها مصري هو المرحوم أحمد زكي الذي كان يسعى إلى توسيع دائرة الثقافة العلمية بين العرب، مؤمناً أن التفوق العلمي واللحاق بركبه هو السبيل الوحيد للتقدم، جنباً إلى جنب وحدة العرب، وتبادل كل الأقطار العربية الخبرة والمعرفة وكانت على صفحة الغلاف صورة شابة صبيحة الوجه، تجاور وجهها عراجين نخل مُحمّل بثمار التمر التي اشتهرت بها العراق وكان في داخل العدد استطلاع مصوّر عن نخيل العراق وتموره، فظننت أن الفتاة عراقية، وظللت على هذا الاعتقاد طويلاً، إلى أن حلّت الذكرى الأربعين لظهور مجلة العربي، فشاركت في الاحتفال بورقة عن ذكرياتي مع مجلة العربي، وأشرت إلى هذه الصورة التي توهمتها لوجه فتاة عراقية، فإذا بها لفتاة كويتية وقد تكرم بتصويب وهمي الأستاذ محمد مساعد الصالح الذي هو من خيرة المثقفين الكويتيين، وأكثر مخضرميهم دفاعاً عن حرية الرأي هكذا، عدت إلى تفحص العدد الأول من جديد، ومتابعة الأعداد التي تعاقبت إلى اليوم وكان أول ما لاحظته الصفة القومية التي اتخذتها المجلة منذ عددها الأول، وظلت محافظة عليها، ذلك لأن هذه الصفة، سواء أكانت واصفة المثقف العربي أو اسماً للمواطن العربي في كل قطر عربي، فهي واحدة في المعنى والدلالة. ولم يكن من الغريب أن تختار"العربي"هذا الاسم علامة عليها، ودلالة على موقفها الذي في بلاد العرب أوطانه وغاياته، في مدى حلم الوحدة الذي أصبح تحقُّقه قاب قوسين أو أدنى، من الشام إلى تطوان، ومن بغداد إلى اليمن، ومن الإسكندرية إلى الصومال وكان ذلك في زمن يتردد فيه صوت عبدالناصر"ارفع رأسك يا أخي، فقد مضي عهد الاستبداد"وكان القضاء على الاستبداد يعني استبدال الحكم الجمهوري الديموقراطي بالحكم الشمولي القامع للحريات، كما كان يعني استبدال السيادة الوطنية والتحرر القومي بالسيطرة الاستعمارية والتحالفات الإمبريالية وبقدر ما كان الصراع بين الاستعمار القديم والجديد مقارباً على الانتهاء، على نحو ما صوّره روائياً عبدالرحمن منيف في روايته"سباق المسافات الطويلة"بمنظورها الملحمي، كان الاستعمار القديم يلتقط أنفاسه الأخيرة، وتنهال عليه ضربات التحرر من كل مكان ولذلك كانت مجلة"العربي"بزمن صدورها وخروجها إلى الحياة العربية علامة تحول كبرى على زمن قديم موحش انتهى، وبداية صعود عالم قومي صاعد، يشق طريقه إلى الشمس، ويظلل الأرض العربية كلها بالأمل الذي لا حدّ لاتّساعه، ولا نهاية لأحلامه التي لم تفارقها شعارات الحرية والوحدة والعدل الاجتماعي. وبقدر ما كانت الأمة العربية فرحة كلها بالانتصار على العدوان الثلاثي على مصر، في محاولة لاستعادة سيطرة الاستعمار القديم مكانته في الأرض العربية، كانت شعارات الوحدة العربية تتردد في كل مكان، وتصنع لمجلة"العربي"لحمتها وسداها في البناء والتوجّه والغاية ولذلك كان ظهور العدد الأول من مجلة العربي في لحظة صافية من الضوء القومي، وفي سياق من التفاؤل الذي اقترن، سياقياً، بالأحداث التالية: 1- يوليو ثورة الثالث والعشرين من تموز يوليو التي استهلّت عهداً جديداً من التحرر الوطني الذي سعى إلى الاكتمال بالتحرر القومي، والتضامن مع حركات التحرر في كل مكان من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. 2- بدايات حركات التأميم التي سعت إلى استعادة الثروة الوطنية في كل من إيران في عهد مصدق وجواتيمالا في عهد جاكوبو أرنتر ومصر في عهد عبدالناصر التي اضطرت لمواجهة العدوان الثلاثي سنة، وخرجت منه منتصرة بفضل التضامن العربي الذي بدا فاعلاً للمرة الأولى 3- وقبل ذلك، في تشرين الثاني نوفمبر، كان توقيع اتفاقية الجلاء عن مصر موازياً لبداية حرب التحرير في الجزائر ضد فرنسا، وذلك جنباً إلى جنب استقلال فيتنام وتقسيمها إلى شمالية وجنوبية. 4- ويستمر ركب التحرر الوطني صاعداً، وتكون أبرز علاماته حضور جمال عبدالناصر مؤتمر باندونج المؤتمر الأول لحركة عدم الانحياز جنباً إلى جنب سوكارنو وشوان لاي وتيتو، وهم المؤسسون للحركة التي كانت تهدف في التحليل الأخير إلى تقويض نفوذ الاستعمار الرأسمالي بكل أنواعه الاستيطانية والاقتصادية وهو الأمر الذي ترتب عليه إعلان عبدالناصر عن صفقة الأسلحة التشيكية التي كان الهدف منها الحيلولة دون إسرائيل وأهدافها التي تصب في مصلحة الاستعمار في نهاية الأمر. 5- وظل المد القومي صاعداً مع اعتراف جمال عبدالناصر بالصين الشعبية وهو الاعتراف الذي أغضب الولاياتالمتحدة التي كانت قد أخذت تسعى لوراثة الاستعمار القديم. 6- واختتمت هذه العلامات بحرب السويس التي صعدت بحركة المد القومي إلى ذروتها سياسياً وثقافياً واقتصادياً على السواء. ولذلك كان من الطبيعي أن لا تتردد أمة عربية صغيرة في إصدار مجلة تؤكد حضورها الثقافي في إطلاق اسم"العربي"على هذه المجلة التي كان من حسن طالعها أنها صدرت في لحظة حاسمة من التاريخ الصاعد للوطن العربي الذي تجسّد حضوره في تسمية المجلة. ومن المؤكد أن هذا الصعود قد انكسر مع مأساة العام السابع والستين ومع تحالف السادات مع الاستعمار الجديد الذي أصبحت الولاياتالمتحدة الأميركية زعيمته، لكن كل هذه الكوارث لم تهز من الأسس القومية الراسخة التي تأسست بها مجلة"العربي"التي ظلت الصوت الثقافي الواعد للعرب في كل مكان، فقد توالت أعداد المجلة محافظة على الهوية العربية نفسها، بل اتسعت بها على مستوآ الكتابة والتلقي، فاستكتبت البارزين من مثقفي المشرق والمغرب، وجمعت ما بينهم في صفحاتها التي ظلت بمثابة جامعة ثقافية للعرب وقد تزايدت هذه الظاهرة بما اضطر المجلة إلى زيادة المطبوع من أعدادها التي أصبحت متاحة في كل الأقطار العربية بلا استثناء، وذلك إلى الدرجة التي رفعت معدلات توزيعها إلى أرقام غير مسبوقة، لم تعرفها مجلة ثقافية عامة من قبل. وبالطبع يمكن أن نتحدث عن سمات متعددة في كل مرحلة من مراحل المجلة التي اقترنت تحولاتها بتغير رؤساء التحرير الذين تعاقبوا عليها، فهناك المؤسس والرائد أحمد زكي، وبعده أحمد بهاء الدين الذي ترك منصب رئيس مجلس إدارة الهلال الصحافية إلى رئاسة تحرير"العربي"، وظل كذلك إلى أن أقعده المرض، فترك رئاسة التحرير للدكتور محمد الرميحي الذي كان أول رئيس تحرير كويتي للمجلة، وجاء بعده الدكتور سليمان العسكري الذي لا يزال رئيساً لتحريرها ومن المؤكد أن"العربي"اكتسبت سمات مغايرة مع كل رئيس تحرير، وأن كل لاحق حاول الإضافة التي تؤكد حضوره بالقياس إلى كل سابق ولكن تظل الفوارق كمية لا كيفية، فلا تزال"العربي"محافظة على التوجهات القومية الأساسية التي بدأت منها بالقطع، أضاف"العربي الصغير"بُعداً جديداً، كما أضاف الباب الجديد عن صفحات العلوم بعداً أجدّ، يناسب تطور المعارف العلمية في زمننا الذي يتسارع إيقاع تقدمه العلمي يوماً بعد يوم وكذلك"كتاب العربي"الشهري أخيراً وأصبحت هناك أبواب ثابتة في المجلة وكُتّاب ثابتون، وتجاوبت المجلة مع حقيقة أن ثورة الاتصالات المذهلة قد أحالت العالم إلى قرية كونية صغيرة، فاتّسع أفق الاستطلاعات لتشمل أقطاراً لم يعرفها القارئ العربي من قبل، أعني الاستطلاعات التي برزت فيها أسماء أمثال محمد المنسي قنديل ومحمد المخزنجي وغيرهما وأضف إلى ذلك التوسّع في الكتابة عن المعارف الجديدة التي لم تكن موجودة في اللحظة الزمنية لصدور العدد الأول ولكن المبادئ الأساسية للمجلة لم تتغير كيفياً وعلى رغم المتغيرات الكمية البسيطة أو غير البسيطة، فهناك، أولاً، التوجّه القومي الذي لم تفقد المجلة بوصلته الهادية ولا محيطه الذي أصبح فضاء دائماً لحركتها التي لا تجاوزه وهناك، ثانياً، الوحدة العربية التي تجمع الكُتّاب الذين ينتسبون إلى كل الأقطار العربية، من دون تفضيل لقطر على غيره وهناك، ثالثاً، الانحياز إلى الجديد الأصيل في الكتابة الأدبية والعلمية، ابتداء من الشعر الحر وليس انتهاء بالتجريب القصصي في الكتابة الأدبية، وابتداء من الحديث عن علوم العصر الواعدة، وليس انتهاء بالكتابة عن مظاهر عصر المعلومات من ناحية موازية وأخيراً، هناك الحفاظ على نوعية القارئ الذي تضعه المجلة هدفاً لها، وهو القارئ العام الذي تخاطبه المجلة على قدر فهمه العادي، محاولة دائماً الارتقاء بمستواه الثقافي في كل مجال، ابتداء من الجغرافيا، فكل عدد من أعداد"العربي"نافذة للعرب على أرض العرب، وفي الوقت نفسه، نافذة للعرب على العالم من حولهم وفي التاريخ، كما في العلوم الإنسانية والمكانية، تأخذ العربي من خصائص الزمن الحالي خاصية تداعي حدود الزمان والمكان، ومن ثمّ تداعي الحدود التقليدية الفاصلة بين المعارف والمؤكدة لما أصبح يطلق عليه اسم"المعارف البينية". ولذلك لم يكن من المستغرب أن تصل"العربي"إلى معدلات توزيع لم تحصل عليها أية مجلة عربية من نوعها، بما في ذلك"الهلال"التي نظر إليها أحمد زكي وهو يخطط لمجلة"العربي"وفصولها وقد جاوزت"الهلال"مئة عام من الصدور ولكن معدلات توزيعها لا تقارن بمعدلات تسويق"العربي"التي تتفق معها في هدف الاستنارة وذلك لأسباب متعددة منها الدعم المالي الذي تستند إليه"العربي"فيجعل من ثمنها رمزياً جداً بالقياس إلى تكلفتها الفعلية، ومنها تفوق العربي في القدرة التسويقية التي تجعلها موجودة في كل قطر، ومنها الثمن الذي يدفعه القارئ وهو يعرف أنه لا يصل إلى عُشْر التكلفة الحقيقية وأخيراً، هناك الفارق البارز في تنوع المحتوي وبراعة الإخراج الفني وتميزه، وذلك إلى الدرجة التي تجعل من صفحات أعداد العربي المتعاقبة معرضاً متصلاً، قائماً على التنوع الخلاّق من فنيّ التصوير الفوتوغرافي والرسم على السواء والواقع أن عدسات مصوّرين فوتوغرافيين عديدين، خصوصاً في الاستطلاع أو صور الشخصيات المحتفي بها في المجلة تتجاور على نحو لافت للعين، يتيح للقارئ أن يتجوّل في كل عدد بين إبداعات بصرية، لافتة في تنوع جمالياتها المتقدمة باستمرار على مدى خمسين عاماً وقل الأمر نفسه على الرسومات المصاحبة للمقالات، حيث يغلب الطابع الصحافي في حالات كثيرة وكان شيئاً بهيجاً ما رأيناه في معرض التصوير الفوتوغرافي الذي أقامته المجلة، وكنت أرجو أن يوازيه في الثراء معرض آخر عن الرسومات التي أعدها أبرز الفنانين العرب وقس على ذلك جماليات الإخراج الصحافي التي تبهج بها الصفحات عين القارئ الذي تستريح عينه للتوازن بين المكتوب والمرسوم والمصوّر فوتوغرافياً، فيغويه الإخراج بالمضي في القراءة. واعترف، في النهاية، أنني، عندما ذهبت إلى احتفال"العربي"بعيدها الذهبي الذي أكملت به الخمسين عاماً من صدورها، شعرت بشيء قليل من الأسى وأشياء كثيرة من الفرح والأمل الواعد، أما الأسى القليل فلمضي نصف قرن من عمري بسرعة، سرقت إحساسي بتعاقب الزمن المتسارع الإيقاع، الزمن الذي ترك أثره على الرأس الذي اشتعل شيباً، والذي سرق مني أحب الناس إليّ، والفرح والأمل الواعد لأن"العربي"التي صحبتها منذ عددها الأول تواصل تقدمها الواعد في سنوات رئيس تحريرها سليمان العسكري الذي لا يدّخر وسعاً في الإضافة إلى سابقيه والتميّز عنهم، عملاً بالمبدأ الذي يقول بدأوا من هناك، فابتدئ من هنا ولا شك أن صديقي سليمان العسكري قد أضاف إلى سابقيه ما يدفعنا إلى المزيد الواعد من تحقيق الأحلام التي لم تحققها"العربي"بعد، وهي ماضية إلى تحقيقها بعزم لم يفقدها الوعي بإنجاز الماضي، ولا الوعي بضرورة الإضافة في مدى المستقبل الواعد بتحقيق الأحلام الخلاّقة أما المشاعر المتداخلة التي تجاورت وتداعت وأنا أتابع مؤتمر الاحتفال الذي جعلت"العربي"موضوعه"العربي"فكانت مزيجاً من ذكريات القارئ ثم المساهم بالكتابة، ثم الأستاذ الذي أصبح بمثابة الأب لعدد غير قليل من كتاب المجلة التي أصبحت أكبر منها عمراً، وأرجو أن يطول عمرها إلى ما تحقق به أحلام رئيس تحريرها التي شاركنا فيها في كلمته التي استهل بها الاحتفال.