لقد أتبع روبرت يانغ كتاب "أساطير بيضاء" بكتابه "رغبة استعمارية: التهجين في النظرية والثقافة والعرق Colonial Desire : Hybridity in Theory, Culture and Race" عن دار روتلدغ سنة 1995، فكان الكتاب إضافة أخرى تثير الكثير من الجدل والنقاشات. ولا غرابة في ذلك فقد سعى الكتاب إلى الكشف عن مفارقات النظرية الثقافية الحديثة التي تعيد وتجدد استخدام المفاهيم والمصطلحات الأساسية عن التهجين hybridity وغيره من التصورات التي حددت دلالات العرق والثقافة في الماضي. ولذلك يتتبع يانغ الصلات بين الصيغ المعرفية للنظرية المعاصرة وكتابات القرن التاسع عشر عن الثقافة والحضارة والاختلاف العرقي، وذلك على نحو يكشف عن رواسب التفكير القديم في الفكر الحديث الذي يزعم المغايرة. والنتيجة هي إبراز النزعة التوفيقية غير اليسيرة التي انبنت بها النظرية المعاصرة، حاملة معها تنافرها الداخلي الذي يغدو علامة مقاومة للثقافة الغربية داخل الثقافة الغربية نفسها. ويؤكد يانغ أن التفكير العرقي لم يكن هامشياً في الثقافة الإنكليزية، وأنه ظل يحتل المركز، وذلك على نحو ظلت معه النظريات "العلمية" عن العرق نظريات عن الاختلاف الثقافي الذي لم يخل من نزعة عرقية، نزعة تؤكد أنه حتى في قلب النظرية الفيكتورية العرقية تتجلى الرغبة الاستعمارية في التهوس بالجنس والخصوبة والتوليد والانبهار المختلس بتمازج الأجناس والانتهاك العرقي الداخلي. ولذلك تحمل الصفحة الأخيرة من الكتاب نصاً مأخوذاً من الفصل الأول، يقول: "لقد افترض دائماً وجود صلات متأصلة بين النزعة العرقية والمنزع الجنسي. ولكن ما لم يتم تأكيده هو أن النقاش حول نظريات العرق في القرن التاسع عشر، في اعتمادها على سؤال التهجين، استندت استناداً مباشراً على المنزع الجنسي موضوع الوحدة بين البيض والسود. وكانت نظريات العرق بدورها نظريات مقنَّعة بالرغبة. وعندما نعيد إحياء مفهوم التهجين، الآن، فإننا نعيد استخدام مفردات النزعة العرقية للعصر الفيكتوري". ويدل النص على نهج المساءلة الذي يطرحه يانغ في كتابه على النظرية الثقافية، خصوصاً في ما تقوم به على نحو لا شعوري من تكرار أنماط التفكير التي تحددت بها مفاهيم العرق والثقافة في القرن التاسع عشر. ولذلك فإن هذه النظرية بدل أن تتباعد عن التفكير العرقي، وتقطع ما بينها وبينه، فإن نظريات ما بعد النزعة الاستعمارية والعرقية تعمل بالتواطؤ مع التفكير القديم. وعمل يانغ في هذا الكتاب هو تصفية وعي النظرية التي يعمل في مجالها من رواسب الماضي، ومن تخليص النظرية من تنافرها الذاتي وتناقضاتها الداخلية، وذلك بالكشف التفصيلي عن هذا التنافر وتلك التناقضات، اعتماداً على نوع من التفكيك الذي لا يكف عن المساءلة، ويعمل دائماً على إنطاق المسكوت عنه أو المضمر المترسِّب من الماضي في الخطاب المعاصر. وكان من نتيجة ذلك أن أصبح كتاب "رغبة استعمارية" كتاباً مثيراً للجدل والاختلاف. لكن المؤكد أنه فتح أفقاً جديداً في تحليل الكيفية التي تتشكل بها مفاهيم الثقافة، والكيفية التي تواصل بها الفرضيات العرقية هيمنتها على هذه المفاهيم. ويمضي الكتاب الثالث لروبرت يانغ "الأنصاف الممزقة: الصراع السياسي في النظرية الأدبية والثقافية" Torn Halves: Political Conflict in Literary and Culture Theory في الاتجاه الذي لا يفصل بين السياسة والنظرية، وبين التاريخ والجدل، وبين قراءة الأدب والثقافة والموقف الفكري السياسي للقارئ. والكتاب بالغ الأهمية في قضايا التنظير التي تنطوي عليها جدليات النقد الثقافي وثقافة النظرية وحدودها ومؤسساتها. وإذا كان كتاب "رغبة استعمارية" يكشف عن رواسب المفاهيم المطمورة المراوغة التي تتخلل الخطاب الحديث لما بعد الاستعمار، في مساقات المراوغة الإيديولوية لمبدأ الرغبة الذي يظل خافياً، فإن كتاب "الأنصاف الممزقة" يناقش نظرية خطاب ما بعد الاستعمار من منظور مواز، يتصل بعلاقة هذا الخطاب بالسياسة. ومن هذا المنظور يؤكد يانغ أن النظريات لا تضع دعاوى سياسية فحسب، أو تقتصر على النقد السياسي، وإنما تجاوز ذلك إلى تحولها هي نفسها إلى ممارسة سياسية، فالنظريات المعاصرة - وبخاصة نظريات خطاب ما بعد الاستعمار - ليست نظريات تدور حول السياسة أو تتكلم عنها فحسب، وإنما هي إضافة إلى ذلك فعل سياسي. ولذلك فهي تنطوي على جدل داخلي، جدل يجعل منها أنصافاً ممزَّقة ما بين الأنساق التي تنقضها وتنطوي عليها في الوقت نفسه. وتظهر قوة نقد يانغ لسياسات النظرية في الكيفية التي تتكرر بها ديناميات هذا الانقسام في المجادلات والمناقشات المعاصرة حول النزعة التاريخية والتحليل النفسي والنزعة العرقية والمؤسسة الأكاديمية نفسها. ولا تزال النظريات الثقافية تعاني إلى اليوم من أنصافها الممزقة في جدلها الخاص ما بين الهوية والاختلاف، القوة والمقاومة، الشمال والجنوب، المركز والهامش، الأمر الذي يؤكد ملامحها الدالة بوصفها مكونات ثقافية متصارعة. ولذلك يلح يانغ على أن النظرية لا بد من أن تصفي وعيها الذاتي من تكرار الأضداد غير المتصالحة للرأسمالية المتأخرة، والمضي قدماً في تجديد سياساتها للاحتجاج الفاعل على الشتات والحرمان واليأس الذي لا يزال الاستعمار يفرضه على عالم اليوم. وقد جاء كتاب يانغ الرابع الضخم "نزعة ما بعد الاستعمار: مقدمة تاريخية" Postcolonialism: A Historical Introduction الصادر عن دار نشر بلاكويل Blackwell سنة 2001 في حوالى خمسمئة صفحة من القطع الكبير عرضاً شاملاً وتحليلاً نقدياً لأهم نظريات مقاومة الاستعمار الأوروبي في القرن العشرين، جنباً إلى جنب كتابات الناشطين السياسيين والفكريين في العالم الثالث، من دون إغفال لحركات المقاومة التي تكونت بعض سياقاتها من حركة التضامن الآسيوي الإفريقي وعدم الانحياز ومؤتمر تحالف قارات الجنوب، وذلك في مقابل إيديولوجيات الهيمنة التي أعيد إنتاجها لمواجهة حركات المقاومة المتجددة. وكان ذلك من منظور جذري يسعى إلى تقويض الأوهام الاستعمارية، والاحتفاء بكل أشكال مقاومتها على امتداد العالم الذي ننتمي إليه في معركته التحررية. والكتاب بما هو عليه نظرة بانورامية شاملة لقضايا خطاب ما بعد الاستعمار ورموزه الفكرية والسياسية ومؤسساته التي انطلقت من الحلم بالتحرر الكامل من التبعية. والمعرفة التي يحصل عليها القارئ من الكتاب هي المعرفة الثورية التي تدفع هذا القارئ إلى مواقف جذرية لتحرير الذات في علاقتها بنفسها وعلاقتها بالآخر الذي لا يزال يراوغها لإبقائها في أحبولة التبعية. وقد وصف هومي بابا - قرين يانغ في صياغة خطاب ما بعد الاستعمار - الكتاب بأن مؤلفه يقدم به إسهاماً ابتكارياً نفَّاذاً في تطوير مجاله، وذلك في متابعته الاستثنائية للماضي التاريخي لخطاب ما بعد الاستعمار. ويمضي هومي بابا في تعليقه على الكتاب مؤكداً أنه دراسة متشابكة مسهبة شاملة تجد ما يلهمها في الأحداث المتسارعة والنماذج المعادية للاستعمار التي لم تتوقف عن مصارعته. وينطلق يانغ في كتابه مستلهماً الروح الخيالية الخلاقة للتحرر، موضحاً أن الحركات العظيمة المعادية للاستعمار كانت لحظات متحولة ومهجَّنة أعادت تشكيل كل من القوة والمعرفة. ويكمن الإنجاز المتميز لهذا الكتاب المثير في إحياء وتنقيح غروب العالم الثالث في الوقت الذي انبثقت فيه أفكار العولمة للألفية الثالثة. ولا يختلف إعجاب هومي بابا الموجود حالياً في جامعة هارفارد عن إعجاب غيره الذين رأوا في الكتاب إنجازاً كبيراً، ونقطة تحول للتفكير والبحث في مجال خطاب ما بعد الاستعمار. ولذلك لم يتردد ملحق التعليم العالي للتايمز في وصف يانغ بأنه المنظِّر الأول لخطاب ما بعد الاستعمار في إنكلترا. ولم تكن شدة الإعجاب بالكتاب مبالغاً فيها، فالكتاب يستحق كل ما قيل فيه وأكثر، فهو تقديم تعليمي إخباري للذين لا يعرفون الموضوع، ومناقشة معمَّقة من منظور جديد للمواضيع التي يعرفها المختصون. هكذا كان الكتاب تحليلاً شاملاً لانبثاق نظرية ما بعد الاستعمار من زمن الحركات المعادية للاستعمار في أوروبا وإفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وتتبعاً مستقصياً لتطور تحولات حداثة العالم الثالث المضادة، وذلك عبر أعمال شخصيات أساسية في معارك التحرر، شخصيات من أمثال كابرال وفانون وغاندي وغيفارا ونكروما وماو وسنغور وغيرهم، جنباً إلى جنب الأدوار التي قامت بها النساء النشيطات في معارك التحرر. ويكشف يانغ من خلال تتبع حركات التحرر في العالم الثالث أنها حركات ثورية امتزج فيها المحلي بالعالمي، والتشكلات المهاجرة للمثقفين في المنافي مع المقاومة الثقافية التي أنتجت أنواعاً جديدة من المعرفة التي ازدهرت على امتداد الممارسة السياسية المعادية للاستعمار. وكان من الطبيعي - والأمر كذلك - أن يغدو خطاب ما بعد الاستعمار علامة على اقتحام الأفكار الجذرية للمؤسسات الأكاديمية التي كانت تسيطر عليها معايير الغرب، ويضيف يانغ إلى ذلك أنه في الوقت الذي كان خطاب ما بعد الاستعمار يتولى فيه صياغة النقد الذي تحدى المركزية الأوروبية الراسخة في المجال الثقافي، كان هذا الخطاب يأخذ على عاتقه ما يجب أن يواصله بروح حركات المقاومة، وما يجب أن يكون تطويراً لمواقفه السياسية ليفرض العدالة على امتداد الكوكب الأرضي. وقد دفعني الوعي بأهمية هذا الكتاب إلى الموافقة على ترجمته - مع كتاب "أساطير بيضاء" - في المشروع القومي للترجمة. الذي أشرف عليه، فكلا الكتابين يفتحان أفقاً جديداً في الفكر العربي، خصوصاً لأولئك الذين يعملون على تطوير مواقفهم عن الثقافة الوطنية وأساليب الدفاع عنها، وذلك في مواجهة الأصولية الوطنية التي ينتهي تطرفها إلى الانغلاق على الذات والعداء للآخر على نحو مطلق. ونحن نرى كتابات أمثال هؤلاء الذين يمارسون في الثقافة ما تمارسه الدببة التي تقتل أصحابها بهدف حمايتهم من الأذى. والأذى الحقيقي في هذه الحالة هو انغلاق العقول التي تتحجر في أصولية تتحد آلياتها على نحو متكرر يقارب ما بين المتطرف الماركسي الجاهل والمتطرف اليميني الجامد، بل يدني بكليهما إلى حال من الاتحاد الفكري الذي تتأصل فيه صفات الجمود والانغلاق ورفض الاختلاف واستبدال المجادلة بالتي هي أحسن واستخدام لغة التخوين التي هي الوجه الآخر من لغة التخويف. ولحسن الحظ، ظهرت الترجمة العربية لكتاب "أساطير بيضاء"، وفي الطريق ترجمة كتاب "نزعة ما بعد الاستعمار". وقد أسعدني روبرت يانغ في زيارته إلى القاهرة عندما أهداني كتابه الأخير "نزعة ما بعد الاستعمار: تقديم بالغ الإيجاز". ولم أكن قد عرفت صدور هذا الكتاب الأخير، أو قرأت عنه. ولذلك لم أمنع نفسي من لهفة الحرص على تصفّحه وقراءة ما أستطيع من صفحاته القليلة 147 صفحة من القطع الصغير بالقياس إلى الكتاب العمدة السابق. والكتاب ينتسب إلى سلسلة جديدة، تصدرها مطبعة جامعة أكسفورد. وهي سلسلة بدأت سنة 1995، وتهدف إلى أن تتيح لقرائها معرفة مكثفة بالغة الإيجاز بالمواضيع الجديدة في العلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد ظهر منها ما يزيد على خمسين كتاباً. ويمثل كتاب يانغ إضافة كمية ونوعية إلى أهدافها، فهو شديد التكثيف، يتميز بدرجة عالية من التشويق الذي يقترن بنزعة فنية في الكتابة تسعى إلى اجتذاب القارئ إلى الموضوع الذي قد لا يعرف عنه شيئاً. والكتاب فعلاً تقديم شديد التكثيف لأهم قضايا خطاب ما بعد الاستعمار، بعيداً عن الجمود الأكاديمي الذي سعى يانغ إلى التحرر منه في دراساته السابقة. ولذلك يتكئ الكتاب على تقنيات سردية لا تخلو من آليات التناص والاقتباس والصور الدالة. وكانت النتيجة كتاباً شديد الحيوية في خصائصه الابتكارية، فقد استطاع يانغ سبر أبعاد الآثار التي تلاحقت توابعها للاستعمار في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية للمستعمَرين، وذلك بتقديم المواقف والتجارب والشهادات الحية، بعيداً عن النقاش النظري المجرد. وقد وضع الكتاب خطاب ما بعد الاستعمار، أو نزعة ما بعد الاستعمار Postcolonialism في سياقها الثقافي، موضحاً أهميتها بوصفها شرطاً إنسانياً وموقفاً تحررياً، مستخدماً الأمثلة التي تؤكد أطروحاته، ابتداء من معسكرات التهجير التي تمتد من أفغانستان إلى فلسطين، مروراً بموسيقى الراي في الجزائر والنزعات النسائية لخطاب ما بعد الاستعمار، وانتهاء بالحركات الاجتماعية والإكولوجية على امتداد الكوكب الأرضي. ولا يغفل الكتاب عن التنبيه إلى أن نزعة ما بعد الاستعمار تطرح فلسفة للناشطين الذين يتحدَّون الموقف الحالي للظلم المعولم، في الوقت الذي يتولون فيه تعرية رواسب الاستعمار القديم في الماضي، والاستعمار الجديد والأجد في الحاضر. وقد آثر روبرت يانغ أن يحاضرنا عن الكيفية التي يعيد بها قراءة تاريخ الغرب، من منظور منهجه الخاص في خطاب ما بعد الاستعمار، وحاورناه طويلاً في قضايا هذا الخطاب ومشكلاته، وذلك من منطلق الوعي النقدي الذي يضع كل شيء موضع المناقشة. وكانت النتيجة متعة المعرفة والفكر التي حظينا بها، وعمق المساءلة النقدية التي حرصنا عليها، والتي جعلت روبرت يانغ يفيض في الحديث والتحليل، ولا يشعر بالملل من طول الوقت الذي استغرقه النقاش. وأتصور أننا بهذه الطريقة كنا نعبّر عن تقديرنا للدور الذي يقوم به في صياغة الوعي الأوروبي المعاصر، خصوصاً في جوانبه الطليعية الساعية إلى التحرر من الرواسب الاستعمارية التي لا تزال تراوغه. وكان حرصنا على مناقشة الوجه الآخر من حرصنا على الإفادة من أفكاره التي نرجو أن نضعها موضع المساءلة التفصيلية في المستقبل، وإلا وقعنا في شباك التبعية السلبية التي حاول نقضها في كتابه "الأنصاف الممزقة". والحق أن دعوة روبرت يانغ ومناقشته كانت مثمرة إلى حد كبير لكل الذين أسهموا فيها بجدية وإخلاص ورغبة في المزيد من المعرفة النقدية الواعية. وكانت المفاجأة التي ترتبط بمفارقات ما بعد الاستعمار، أن زيارة روبرت يانغ للقاهرة هي زيارته الأولى لمصر وللوطن العربي كله، ذلك على رغم أنه حاضر في أهم جامعات كوبا وهونغ كونغ والهند والسويد وأميركا وألمانيا وسنغافورة وفرنسا واليونان وجنوب أفريقيا والبرازيل والبرتغال وأسبانيا وفنلندا وقبرص وتركيا، فتأمل؟!