أخيراً تحققت زيارة روبرت يانغ Robert Young إلى القاهرة. دعوناه في المجلس الأعلى للثقافة لإلقاء محاضرة والحوار في مائدة مستديرة بمناسبة صدور الترجمة العربية التي قام بها الصديق أحمد محمود لكتابه "أساطير بيضاء" الذي أصدره المجلس الأعلى للثقافة في المشروع القومي للترجمة منذ أيام. وهو الكتاب الذي استهلَّ المكانة المتميزة لصاحبه في دوائر النظرية الثقافية وخطاب ما بعد الاستعمار. وقد استجاب روبرت يانغ إلى الدعوة التي حددنا لها موعداً، ولكن الأحداث المؤسفة التي شهدها الوطن العربي والتي انتهت بغزو العراق دفعتنا إلى التأجيل، انتظاراً لما تسفر عنه الأحداث، وخوفاً على الرجل البريطاني الجنسية من فورة انفعال قد تصدر عمن لا يعرفه، ولا يدري شيئاً عن إسهامه الجذري في مقاومة الإيديولوجيات الاستعمارية بكتاباته، ومنها الإيديولوجيات التي لا تزال سائدة في بلده. وتأجلت الزيارة لأشهر إلى أن انكشف غبار المعارك القاتم عن وضع مأسوي مهين: سقوط حكم فاسد ظالم يتزعمه الديكتاتور صدام حسين الذي ألقي القبض عليه أخيراً في حفرة بائسة، واحتلال بلد عربي عزيز وعريق من جانب القوات الأميركية - البريطانية التي تمارس ما تمارسه قوات الاحتلال من هيمنة، سواء بأجهزتها القمعية أو أجهزتها الإيديولوجية، الأمر الذي يطرح تحدياً جديداً وموضوعاً نموذجياً للدرس في مجال الخطاب المناهض للاستعمار. وكان من الضروري أن تتم زيارة روبرت يانغ إلى القاهرة في هذه الأيام بالذات بصفته واحداً من أبرز أعلام "خطاب ما بعد الاستعمار" ودارسي "النظرية الثقافية". و"خطاب ما بعد الاستعمار" Postcolonial discourse هو خطاب مواجهة الاستعمار، ومساءلة إيديولوجياته مساءلة نقدية نقضية، تفضي إلى الكشف عن آلياته في الهيمنة، وتعرية آثاره السلبية، وذلك من طريق تفكيك خطاباتها التي تهدف إلى تثبيت وإشاعة وعي زائف يعمل على بقاء الحالة الاستعمارية على نحو مباشر أو غير مباشر. ويعني ذلك أن خطاب ما بعد الاستعمار هو خطاب جذري يعمل على تحرير الوعي المذعن، وإنطاق المسكوت عنه من خطاب التابع المقموع، وتقويض آليات الهيمنة الثقافية التي يفرضها تراتب المركز / الهامش، التابع / المتبوع، الشمال / الجنوب، العالم الأول / العالم الثالث ... إلخ. وسواء كنا نتحدث عن خطاب ما بعد الاستعمار أو نزعة ما بعد الاستعمار Postcolonialism فنحن نتحدث عن اتجاه فكري واحد يتناول بالتحليل والمساءلة والنقد آثار الاستعمار في أشكاله المختلفة على الثقافات والمجتمعات. ويقترن المصطلح بدلالتين متداخلتين. قد يستخدمه بعض المختصين فيه بإحدى الدلالتين. لكن الكتابات الرائدة والجذرية في مجال ممارسته تنطوي على الدلالتين اللتين تتواشجان في غير حالة. وتتصل الدلالة الأولى ببعد زمني يشير إلى حقبة ما بعد الاستقلال التي تخلصت فيها دول الثورات التحريرية من الاستعمار الذي ظل جاثماً على صدورها. وتتصل الدلالة الثانية بمعنى المساءلة التي ينطوي عليها اللاحق في علاقته بالسابق، أو يؤسسها المتبوع في علاقته بالتابع. وقد شاع المصطلح بمعناه المزدوج منذ السبعينات بواسطة نقاد الأدب الذين اهتموا بمناقشة الآثار الثقافية المتنوعة للاستعمار. وكانت البداية القوية على يدي إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" 1978 وذلك في التوجه الذي أفضى إلى كتابات جاياتري شاكراورتي سبيفاك Gayatri Chakravorty Spivak الهندية الأصل وهومي بابا Homi Bhabha الافريقي الأصل ابتداء من سنة 1984، ورانجات جحا الباكستاني الأصل - إن لم تخني الذاكرة - صاحب دراسات التابع ابتداء من سنة 1982. وأضيف إلى ذلك الكتابات اللاحقة التي اتسمت بالوعي النقدي لمساءلة خطاب الاستعمار القديم والجديد والأجد ولوازمه المقترنة بآليات الهيمنة السياسية واللغوية والثقافية، وطرائق مقاومتها في البلدان التي كانت مستعمرات أوروبية في الغالب الأعم. وقد تداخلت هذه الكتابات مع كتابات ما بعد البنيوية، حيث ظهر تأثير فوكو على إدوارد سعيد وتأثير ألتوسير وجاك لاكان على هومي بابا، وجاك دريدا على جاياتري سبيفاك التي فتحت أفق خطاب ما بعد الاستعمار على الحركة النسائية، وأتاحت السبيل للحديث عن نسائيات ما بعد الاستعمار. وقد عرفها العالم الناطق بالإنكليزية عندما ترجمت كتاب جاك دريدا "علم الكتابة" أو "الجراماطولوجيا" وصدّرته بمقدمة مسهبة بالغة الأهمية سنة 1976، سواء في إشاعتها الكتاب الرئيسي لجاك دريدا، وتأويلها أفكاره في الاتجاه الجذري لنزعتها النسائية الخاصة. وقد أدى ذلك إلى ثراء نقدي على مستوى الممارسة التي اتسعت بالمجال البحثي وأسهمت في تعميقه، خصوصاً بعد الإسهامات التي أنجزها أمثال روبرت يانغ منذ النصف الثاني من الثمانينات، وبيل آشكروفت وغارث غريفت وهيلين تيفن، أصحاب الكتاب الشهير "الإمبراطورية تردّ" أو "الإمبراطورية تثأر" THe Empire writes Back سنة 1989، فضلاً عن كتابات أبناء العالم الثالث من أمثال شينوا أتشيبي، ونيغوجي واثيونغو، وهومي بابا، وإعجاز أحمد، و ج. ن. ديي وغيرهم من المسهمين في التنوع المنهجي الخلاق الذي ينطوي عليه خطاب ما بعد الاستعمار في توجهاته وتياراته التي لا تزال تزداد غنى مع استمرار الممارسة واتساع مجالاتها. ولم يكن مصادفة في أن نعمل على استضافة روبرت يانغ في هذا الوقت بالذات، فالاحتلال الأميركي جاثم في أفغانستانوالعراق، يدعمه حضور الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ويتبادل وإياه أشكال العنف والقمع. وخطاب روبرت يانغ النقدي والثقافي هو خطاب واضح في جذريته المناهضة لهذا الاحتلال بصفته التجسيد المادي للاستعمار، والآلة القمعية المادية التي توازيها آلة إيديولوجية تعمل على تبرير العنف الوحشي والاغتصاب السافر للحقوق الوطنية والقومية. وقد أسعدني على نحو خاص ما كتبه روبرت يانغ في كتابه الأخير الذي صدر منذ أشهر معدودة عن أفغانستانوفلسطين بصفتهما حالتين متشابهتين في الوضع الاستعماري البشع الذي تعمل على تغطيته إيديولوجيا الهيمنة، بواسطة خطاب استعماري يتقنَّع بأقنعة زائفة لا بد من تعريتها. وكان ذلك في الفصل الأول من الكتاب بعنوان "معرفة التابع" حيث يتنقل يانغ ببراعة ما بين صور التهجير في أفغانستانوفلسطين، غير غافل عن المدارس التي دمرتها القنابل وآثار الدمار والبؤس البشري التي تغدو استعارات حية على بشاعة الوضع الاستعماري الذي تتعاون على إبقاء جحيمه الصهيونية والرأسمالية الأميركية، ممثلة في العصبة اليمينية التي تتولى حكم الولاياتالمتحدة في السنوات الأخيرة. وقد لا يعرف الكثيرون من القرَّاء أن روبرت يانغ هو أستاذ النظرية الثقافية وخطاب ما بعد الاستعمار في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة، وذلك بعد أن تدرج في المناصب الجامعية التي أوصلته إلى درجة الأستاذية التي يشغلها بجدارة، خصوصاً بعد أن تتابعت كتاباته وكتبه التي أضافت كمياً وكيفياً في مجال دراسات ما بعد الاستعمار بسبب المنظور المنهجي الذي يطرحه، والتحليلات النظرية والتطبيقية التي يقوم بها، والمواضيع الخاصة التي يهتم بها. وقد ظهرت حيويته البحثية وبراعته الإدارية خلال إسهامه في تأسيس مجلة The Oxford Literary Review التي ظل يعمل بها ما بين سنتي 1977 و1994. وهي أولى الدوريات البريطانية التي تخصصت في مجال النظرية الأدبية المعاصرة، وأسهمت في تقديم أهم الإنجازات الخلاقة الجسورة في المجالات المعاصرة للدراسات الأدبية والفلسفية والثقافية. وقد أخذت المجلة على عاتقها التعريف بالنظريات الفرنسية في العالم الأنغلو - سكسوني، ونشرت العديد من المقالات الأصلية مع الترجمات الإنكليزية لأهم أعلام النظرية الأدبية من أمثال رولان بارت وهارولد بلوم وهيلين سيكسوس وجاك دريدا وتيري إيغلتون وميشيل فوكو وجوليا كرستيفا، وجان فرنسوا ليوتار وبيير ماشيري وجاياتري سبيفاك وتزيفتان تودورف وسلافوي زيزاك. وتولى يانغ - فضلاً عن عمله في المجلة - مسؤولية تحرير أعداد خاصة عن "الاختلاف الجنسي" 1986 و"النزعة الاستعمارية" 1987 و"النزعة الوطنية الجديدة" 1991. وقد ظلت المجلة مستقلة مالياً وفكرياً، وحققت معدلات عالية من الانتشار، إلى أن قرر يانغ مع زميله جيفري بيننغتون التخلّي عن رئاسة التحرير والاكتفاء بالعضوية الاستشارية لمجلس التحرير. وقد أصبح يانغ المحرر العام لمجلة "تدخلات: الدورية العالمية لدراسات ما بعد الاستعمار Interventions :International Journal of Post colonial Studies" التي تصدر عن دار نشر روتلدج Routledge. وقد ظهرت هذه الدورية المهمة سنة 1998 بصفتها دورية متخصصة في دراسات ما بعد الكولونيالية، النظرية والسياسات. وقصدت إلى فتح آفاق جديدة للدراسات البينية والنظرية في مجالاتها. وتحددت دوائر اهتماماتها بآداب ما بعد الاستعمار، ونقد ما بعد الاستعمار، والنظرية الأدبية والثقافية لما بعد الاستعمار. وكان من الطبيعي أن تتولى المجلة التركيز على تواريخ الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني، دور الثقافة الأكاديمية والأدبية والجماهيرية في عملية الاستعمار وتشكل المقاومة الوطنية، معارك التحرر في الماضي والحاضر، مهمة الأدب والثقافة والدين في تكوين النزعات الوطنية، السياسات المعاصرة للهويات القومية والعرق والنوع والجنس، اقتصادات الاستعمار القديم والجديد، الشتات والهجرة والمنافي في الماضي والحاضر، الثقافات المحلية للعالم الرابع، العلاقات بين النزعة الاستعمارية والحداثة والعلاقة بين نزعة ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة. وسرعان ما تأكد ثقل هذه الدورية بسياستها التحريرية وإسهاماتها العملية في الممارسة، وذلك على النحو الذي أصبحت به رائدة في توجهها الذي جذب إليه أعداداً متزايدة من دارسي العلوم الإنسانية والاجتماعية على امتداد العالم. ومن قبل أن يشترك يانغ في تحرير هاتين الدوريتين، وخلال اشتراكه، كانت كتبه ومقالاته تؤكد مكانته وأهمية إنجازه. وكان كتابه "أساطير بيضاء: كتابة التاريخ والغرب" الذي صدر عن دار نشر روتلدج سنة 1990 البداية القوية التي أثبتت حضور صاحبها في مجاله البحثي. وقد أحدث الكتاب أصداء واسعة في سياق دراسات ما بعد الاستعمار بسبب الطرح المغاير الذي يقدمه، خصوصاً من المنظور الذي يربط بين التاريخ والنظرية ربطاً جدلياً يجاوز الماركسيات التقليدية، ويفيد من الإنجازات الأحدث لما بعد البنيوية. وكانت فصول الكتاب التسعة مساءلة لعدد من نظريات التاريخ التي ظهرت بعد الحرب العالمية، لا على سبيل التأريخ وإنما على سبيل التحليل الذي يتحرك في اتجاه الحاضر ويعمل على توضيح الإنتاج المتدرج لأي نظرية تنطوي على العلاقة الملتبسة بين التاريخ والشمولية. ويؤكد يانغ في مقدمة الكتاب أن إطاره المرجعي في التحليل هو ما بعد البنيوية التي يراها بمثابة الرد الأنغلو - أميركي على النظرية الماركسية وما بعد الماركسية الفرنسية الجديدة. وقد اقتضت لوازم هذا الإطار مناقشة العلاقة بين النظرية الفرنسية الحديثة ومدرسة فرانكفورت، وعلى وجه الخصوص أدورنو. ولكن يانغ لم يقترح التاريخ ما بعد البنيوي بديلاً للتاريخ الماركسي وإنما سعى إلى تضمين النظرية والنزعة التاريخية، ومعهما الماركسية نفسها، في تاريخ الاستعمار الأوروبي الطويل، وذلك بهدف تقديم إطار مختلف في التاريخ. وكان ذلك يعني مناقشة نظرة الماركسية إلى التاريخ، وأفكار سارتر الوجودية في علاقاتها بالتاريخ، ومنها إلى التحليل العلمي للنزعة التاريخية، ثم أفكار فوكو من ناحية وفردريك جيمسون من ناحية أخرى، وذلك كله دون إغفال ما يطلق عليه يانغ الاستشراق المشوِّش، قبل أن ينتهي بمساءلة عميقة لإنجازات هومي بابا وجاياتري سبيفاك في نزوعها التفكيكي الذي لم ينح منه روبرت يانغ نفسه. وبقدر ما كان الكتاب مثيراً للجدل، في دائرة خطاب ما بعد الاستعمار، كان الكتاب في الوقت نفسه، وبوسائله الخاصة، محاولة لتأسيس خطاب ما بعد الاستعمار على أسس منهجية صلبة ومرنة، وذلك بهدف المعاونة في قراءة التاريخ بمنظور منهجي يجعل من التاريخ أداة منهجية تسهم إسهاماً جذرياً في فهم ميراث الماضي ومشكلات الحاضر وآفاق المستقبل. وقد أعاد يانغ النظر في كتابه، والنظر في ردود الفعل الواسعة التي تولّدت عن صدور الكتاب، في مقدمة الطبعة الجديدة التي جعلها بعنوان "أساطير بيضاء في هافانا". ويتناول فيها المتغيرات التي حدثت منذ النصف الثاني من الثمانينات حين كتب كتابه، ونشره في مطلع التسعينات، وحين كان الاهتمام منصبّاً على الصراعات في أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا وفلسطين والجزائر. وقد دفعه ذلك إلى مساءلة حدود الماركسية الأوروبية، وثورة الطلاب أيار / مايو 1968 التي كانت ثورة داخل الثورة، وينتقل من ذلك إلى ماو وألتوسير من حيث التداعيات الفكرية التي ارتبطت بهما، ويختم بالإشارة إلى قوى العولمة المعقدة التي تفرض تحديها بالمساءلة الجذرية لما تنتجه - إيديولوجيا - من وعي زائف، وعي يفرض على الدراسات الجذرية لما بعد الاستعمار ضرورة المواجهة التي لا تنفصل عن الحقوق المهدرة للمساواة والكرامة والرفاهية لكل الشعوب التي تسكن قارات الكرة الأرضية، فضلاً عن حقها في أن تصنع تواريخها الخاصة بعيداً من منطق الهيمنة والتبعية.