قد تكون بلجيكا، ومشكلاتها، وخلاف جماعتيها اللغويتين، مرآة أمينة لأوروبا، أو أوروبا مصغرة. والقول ان بلجيكا دولة"محدثة ومصطنعة"تعسف وافتئات. فهي، من وجه، تعود الى 177 سنة. وعلى هذا، فجذورها التاريخية عميقة، وشأنه شأن أوروبا نفسها، فالاتحاد الأوروبي"فتي"، ولا يعود الى أبعد من 50 سنة. ولكن جذوره عميقة وقديمة جداً. وتشبه بلجيكا أوروبا من وجه ثانٍ هو اللغات، فالمسألة هذه، في الحالين، أساسية. وليست مسألة النزاع اللغوي البلجيكي قائمة برأسها في الإطار الأوروبي. ولعل هذا النزاع انذار الى الاتحاد الأوروبي بأن إهمال المسألة اللغوية، وتقديم الانكليزية بذريعة العقلانية، سياسة غبية قد تترتب عليها نتائج سياسية فادحة. والوجه الثالث هو موقع بلجيكا الجغرافي. فهي في قلب حزام المدن الأوروبي، وهذا كتلة كبيرة ترقى جذوره الى القرون الوسطى، وبمنزلة العمود الفقري من القارة الأوروبية، فانفصال الجمهورية التشيكية عن سلوفاكيا كان أليماً ولكنه مقبول. وعلى خلافه، فتصدع بلجيكا يصيب أوروبا بالشلل والقعود، فهي من عوامل"تماسك"الكتلة الأوروبية. ويذكر هذا بأن الاعتراف باستقلال بلجيكا، في 1830، كان ثمرة التزام فرنسا وألمانيا وبريطانيا الاستقلال هذا التزاماً حازماً. والى اليوم، لا ريب في أن مركزية بلجيكا واقعة راجحة، والقرينة عليها أن بروكسيل صارت عاصمة أوروبا. والحق أن مسألة المناطق، وتقييد المركزية المفرطة، طرحت منذ أواخر القرن التاسع عشر. وعطفها على المسألة الأوروبية، وإباحة أوروبا الحكم الذاتي، انتظر قرناً كاملاً، وفي أثناء هذا القرن تفاقمت المشكلات المحلية ببلجيكا، وأسكوتلندا وكاتالونيا وبلاد الباسك، وغيرها. وأقرت النمسا اصلاحات في هذا المضمار منذ 1920. وحلت المانيا، في 1949، مشكلات مناطقها من طريق نقل سلطات وصلاحيات واسع الى الولايات. وخرجت ايطاليا من المركزية منذ سنوات 1970، بخطى وئيدة. ولم يتصدَّ الاتحاد الأوروبي الى موازنة بعض الأوضاع المركزية المتصلبة، إلا في أعقاب السنوات هذه. فمصلحته، ومصلحة الديموقراطية، دعتا الاتحاد الى إعلاء مكانة المناطق. فكان على الاتحاد ادانة ذهاب التشيكيين الى انهم لا يريدون التسديد عن السلوفاكيين، والسلوفينيين عن المقدونيين إبان انفراط يوغوسلافيا السابقة، وايطاليي الشمال عن عبيد الجنوب. ولكن مسؤولي الدوائر الاتحادية العليا، في المجلس والمفوضية، سكتوا. فاحتجاج المتذمرين هو احتجاج يناقض المعايير الأوروبية. وأتساءل، اليوم، اذا لم تكن المنازع البلدية والانفصالية المظهر الجديد للنزعة القومية الكامنة، فينبغي ادانة أنانية الأغنياء لأنها على طرف نقيض مع مشروع بناء يتولى توزيع الموارد توزيعاً منصفاً على مشاركين غير متساوين، ويرمي الى تقريب الشقة بين الشركاء. ويستحيل الجمع بين رفع لواء قومية متطرفة وتوقع الاستفادة من عوائد الانتساب الى بنية تعلو الدول القومية، على الصعد النقدية والجمركية والحدودية، الخ، ولا مسوغ للظن أن أوروبا من 40 أو 50 دولة أنفذ فعلاً وأثراً من أوروبا من 27 دولة. فإلى أين يقودنا بعضهم؟ هل يقودوننا الى القرن الثالث عشر؟ فمنذ القرن الرابع عشر م الى اليوم، اتصلت مساعي ترتيب شؤون القارة، ولا ريب في ضرورة الخروج من الصمت الرسمي، وتثبيط الحركات الانفصالية. عن كريستوف بوميان مؤرخ بولندي - فرنسي، مستشار علمي في متحف أوروبا ببروكسيل،"لوموند"الفرنسية، 21/1/2008