منذ إعادة توحيد ألمانيا، تعددت الجهود والمحاولات، التي تبذلها أطراف أوروبية لمنع ألمانيا من التحول إلى قوة مهيمنة على الاتحاد الأوروبي. ويكفي أن نتذكر معارضة كل من بريطانيا وفرنسا دعوة الرئيس الأميركي الأسبق بوش الأب لتكوين ما عرف ب «مثلث القيادة العالمي» المكون من الولاياتالمتحدةواليابانوألمانيا، ثم معارضة الدولتين زيادة عدد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن بإدخال اليابانوألمانيا - وربما الهند - كأعضاء دائمين. وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق جون ميجور بقوله: «لماذا نغير فريقاً ناجحاً؟». كما يمكن فهم أبعاد إعلان برشلونة الخاص بالشراكة الأوروبية – المتوسطية عام 1995، فهي كانت محاولة من جانب فرنسا لتعزيز نفوذها في شمال أفريقيا وتعزيز نفوذ الكتلة اللاتينية في الاتحاد (فرنسا – إيطاليا - إسبانيا – البرتغال) في مواجهة الكتلة الجرمانية بقيادة ألمانيا التي يتعزز نفوذها من خلال توسع الاتحاد شرقاً. وعندما طرح وزير الخارجية الألمانية الأسبق يوشكا فيشر رؤيته في شأن «الفيديرالية الأوروبية» في 12 أيار (مايو) 2000، وعلى رغم أن هذه الصيغة قديمة وسبق أن نادى بها عدد من الزعماء والآباء المؤسسين للاتحاد، وعلى رغم أن فيشر نفسه أكد مراراً وتكراراً أن أفكاره تعبر عن رؤية شخصية وليس باعتباره وزيراً لخارجية ألمانيا، إلا أنها أثارت جدلاً واسعاً. صحيح أن شوفنمان اعتذر بعدها عن غلظة تعبيراته وقال: «إنني أُحب ألمانيا»، لكن هذا الحب بدا على شاكلة حب مورياك وميتران. وإذا كانت العقلانية الأوروبية تجلت في تحقيق قدر عال من الوحدة في مجالي الاقتصاد والمال، إلّا أنها لا تزال بعيدة المنال في مجالي السياسة الخارجية والأمن. فأوروبا الفيديرالية التي صاغها الأب المؤسس للوحدة الأوروبية جان مونيه في خمسينات القرن العشرين، والتي انتقلت من مجموعة البلدان الستة إلى البلدان ال15، وأخيراً إلى البلدان ال27، أصبحت حقيقة منجزة. فعلى الورق، تقدمت أوروبا من خلال اعتمادها اليورو كعملة موحدة (تضم 16 دولة حتى الآن)، وإعطاء المزيد من السلطات للبرلمان الأوروبي. لكن في الواقع، لم تقر أوروبا بصورة نهائية معاهدة لشبونة. فهي لم تهضم بعد عملية التوسع، جراء الضغط الديموغرافي (500 مليون نسمة)، في مساحة جغرافية لا تتجاوز 4 ملايين كيلومتر مربع، فضلاً عن تعدد الهويات والثقافات واللغات (23 لغة). وتكفي الإشارة إلى أن الحساسيات القومية حالت – وتحول – من دون تبني الاتحاد لغة واحدة رسمية له، ومن دون اختيار مدينة محددة عاصمة له. ولعل أبلغ ما عبر عن هذا الواقع تصريح الرئيس التشيكي فاكلاف كلاوس في مقابلة له في أيار (مايو) 2009 مع مجلة «باري ماتش» الفرنسية قائلاً: «أنا أوروبي واقعي على عكس الكثيرين من الأوروبيين العدميين الذين يريدون إزالة الدول من أجل خلق دولة أوروبية واحدة، وهذا خطأ مأسوي، آمل أن لا يرى النور في أي يوم من الأيام». بل وقارن الرئيس التشيكي بين الاتحاد السوفياتي في الأمس وبين الاتحاد الأوروبي اليوم عندما قال «في الاتحاد الأوروبي اليوم، كما في الاتحاد السوفياتي سابقاً، يتم اتخاذ إجراءات في غاية الأهمية بعيداً من مشاركة البلدان المعنية فيها مباشرة». وليس سراً أن أوروبا لم تتوحد سوى مرات قليلة على قضية أو أخرى. إذ انقسمت حول قضية تفكك يوغوسلافيا (اعتراف ألمانيا السريع باستقلال سلوفينيا وكرواتيا) والحرب الأهلية التي اشتعلت في أعقابها، وانقسمت حول مسألة الحرب على العراق (معارضة ألمانياوفرنسا ومشاركة بريطانيا). هذا فضلاً عن انقسام أوروبا، أو ترددها حالياً، في دعم المجهود العسكري الأميركي في أفغانستان. وبعد نحو عقدين عادت القارة العجوز مسرحاً للاستقطاب بين واشنطن وموسكو. فألمانيا توثق علاقاتها مع روسيا فيما بريطانيا ومعظم دول شرق أوروبا تحرص على توثيق علاقاتها مع الولاياتالمتحدة، وبينهما تقف فرنسا حائرة وإلى أيهما تميل. وقد تصدع محور بون – باريس قاطرة الوحدة الأوروبية، بانتهاء الحرب الباردة، ويبرز بين الحين والآخر خلاف بينهما، حول قضايا ثنائية أو أوروبية أو ذات علاقة بمسائل دولية. وأثار إعلان الرئيس ساركوزي عشيّة انتخابه رئيساً في أيار (مايو) 2007، مشروع «الاتحاد المتوسطي»، الذي جرت تسميته في ما بعد ب «الاتحاد من أجل المتوسط» بحيث تصبح أوروبا معنيّة كلّها به، غضب المستشارة ميركل آنذاك وهددت بتأسيس اتحاد ألمانيا وأوروبا الوسطى، إذا أصرّ ساركوزي على مشروعه بصيغته الأولى. كشفت مسألة اختيار مرشح لرئاسة الاتحاد الأوروبي أخيراً عن أن أوروبا ما زالت حلماً لم يكتمل بعد، فقد تطلع البعض مثل الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان إلى قائد ملهم من طراز الرئيس الأميركي الأول جورج واشنطن، وأراده البعض الثاني، مثل وزير خارجية بريطانيا ديفيد مليباند، شخصاً قوياً له هيبة يقود أوروبا نحو مكانة لائقة على المسرح الدولي، ويستطيع أن يتفاوض، على المستوى نفسه، مع هوجنتاو وباراك أوباما، وأراده آخرون رمزاً لأوروبا يرأس القمة ويتابع تنفيذ السياسات التي يتفق عليها، تحترمه مختلف الأطراف ولكن لا تخضع له ولا تتنازل عن أي قسط من مكانة رؤسائها. غير أنه بعد اختيار رئيس الوزراء البلجيكي هيرمان فان رومبوي كأول رئيس للاتحاد الأوروبي، ومفوضة التجارة الأوروبية كاثرين أشتون (بريطانية) ممثلاً أعلى للسياسة (وزير) الخارجية، في القمة التي عقدها القادة الأوروبيون في بروكسيل في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ظهرت بوادر خيبة أمل في دول القارة العجوز، حيث اعتبر معلقون كثر أنهما شخصيتان مغمورتان وليستا مؤهلتين لتعزيز مكانة الاتحاد على الساحة العالمية. لقد عكس هذا الاختيار «توازن الضعف» داخل الاتحاد أكثر مما عكس «توازن القوة»، سواء ما بين الثلاثة الكبار (ألمانياوفرنسا وبريطانيا) أو ما بين دول «أوروبا القديمة» في غرب أوروبا (بخاصة دول البنيلوكس الثلاث: هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ) وما بين دول «أوروبا الجديدة» في شرق أوروبا. على أية حال إذا كان التوازن السياسي بين بعض أقطار التكتل الأوروبي (سوقاً أو جماعة) أدى إلى عدم ظهور «كيان» أوروبي قادر على أن يلعب دور «الاختيار الثالث» في العلاقات الدولية خلال سني الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، فإن الجهود التي تبذل لمنع أحد الأقطار (ألمانيا) من التحول إلى قوة متفوقة تقود الاتحاد الأوروبي حالياً، ستؤدي إلى تجميد فعاليات الاتحاد أو القضاء عليه نهائياً. مع ما يطرحه ذلك من عودة أوروبا إلى سياسة «توازن القوى» الشهيرة وبعث التاريخ من جديد. قيل إن بعض البلاد مثل الولاياتالمتحدة نجحت وحدتها لأنها تجاهلت عمداً، وعن قصد كل التاريخ وكل الجغرافيا، وأن بلاداً أخرى مثل كندا تعاني وحدتها لأنها تتذكر كثيراً جداً الجغرافيا وقليلاً جداً التاريخ، وأن بلاداً أخرى مثل غرب أوروبا تتعثر وحدتها لأنها تتذكر كثيراً جداً التاريخ وقليلاً جداً الجغرافيا. وعلى رغم أن تذكر التاريخ ليس خطأً في حد ذاته بل هو ميزة في معظم الأحيان، فالذين لا يدرسون التاريخ هم وحدهم المحكوم عليهم بتكراره (سانتيانا)، والذين لا يعرفون ما حدث قبل أن يولدوا محكوم عليهم أن يظلوا طوال عمرهم أطفالاً (هيكل)، والذين يجهلون ماضيهم لا يفهمون حاضرهم ولا يستشرفون مستقبلهم. لكن مشكلة تاريخ أوروبا تكمن في أنه تاريخ دام، فقد كانت الرابطة الدينية في العصور الوسطي، ممثلة في الكنيسة، تمثل بوتقة انصهرت فيها جميع القوميات، لكن مع بداية العصور الحديثة تبلورت فكرة القومية على أنقاض الرابطة الدينية، فكان الاستقلال والانسلاخ الذي يولد من تناقضات المصالح الرأسمالية وقاد أوروبا إلى حروب عدة من الحروب الدينية في القرن السابع عشر، إلى الحروب السلالية في القرن الثامن عشر، ثم الحروب القومية في القرن التاسع عشر، تلك التي بلغت ذروتها في الحربين العالميتين الأولى والثانية خلال النصف الأول من القرن العشرين. هذا التاريخ «الدامي» يتحول لدى كثيرين في أوروبا إلى منجم هائل وبئر عميقة لتذكر العداءات واستحضار الأحقاد، عندئذ تفقد العقول حكمتها والقلوب بصيرتها، وبالتالي يفقد التاريخ قيمته ويصبح الجهل به أفضل من المعرفة. أما القلة التي تعي درس التاريخ وتحاول تجنب أخطائه، فإنها تقع بين مطرقة العارفين به من دون موعظة وسندان الجاهلين به من دون معذرة، وفي النهاية تنتهي الأمور إلى قارعة، بعدها نسمع في أوروبا من يصرخ مردداً عبارة كونراد أديناور، مستشار ألمانيا العظيم (1949-1963) من «أن التاريخ هو المحصلة الإجمالية لأخطاء كان من الممكن تفاديها»، أو من يستعيد مقولة هيغل: «إن ما تعلمنا إياه الخبرة والتاريخ هو أن الشعوب والحكومات لم تتعلم قط أي شيء من التاريخ. كما أنها لم تتصرف وفقاً لأية مبادئ مشتقة منه». * كاتب مصري