ذات يوم صيفي من عام 1977 وفي مدينتنا الحلة جاءني صديقي راهب المسرح العراقي حامد خضر الذي دهسته سيارة مديرية أمن بغداد قبل سنوات بشريط كاسيت وطلب أن نستمع إليه في بيته لأن ما سنسمعه خطير ينبغي ان لا يسمعه غيرنا لأن في ذلك نهايتنا المؤكدة. كنت في السابعة عشرة وكنت بدأت توا كتابة الشعر العمودي. ذهبنا إلى بيت حامد الذي يبعد عن بيتنا ثمانين متراً تقريباً وقبل ان نستمع إلى الشريط أغلق الشبابيك والأبواب ثم وضع الشريط في المسجل. كانت الحركة الأولى من"وتريات ليلية"فلم استطع الاستمرار بالإنصات وسألت حامد بفقدان صبر... من هذا؟ لكن حامد طلب ان استمع حتى نهاية القصيدة. بعد ساعة انتهى الشريط وكنت أتصبب عرقاً ولم اعد اعرف عن أي شيء اسأل، عن الشاعر أم عن الشعر الذي سمعته الآن؟ قال حامد الذي أحس بتوتري وضياعي... انه مظفر النواب شاعر هارب يعيش متنقلاً بين سورية ولبنان. كانت تلك أول هزة عنيفة في حياتي وسيكون لها تأثير كبير في ما بعد على كل شيء أقوم به. ومنذ ذلك الحين طاردت أعمال مظفر النواب حتى التقيته شخصياً في دمشق عام 1993 هارباً بسبب قصيدة أيضاً. طلبت من صديقي الشاعر محمد مظلوم الذي سبقني إلى المنفى أن يوصلني إلى أبو عادل بأسرع وقت فذهبنا إلى مقهى الهافانا ووجدناه يجلس وحيداً إلى جوار النافذة فرحب بنا بلطفه المعهود وطلب لنا القهوة. قلت له: أبا عادل لدي كلام كثير جداً.. لقد وصلت قبل يومين من عمّان وهناك قصص كثيرة وغريبة لا بد أن تسمعها. كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً فقال مظفر مخاطباً محمد: اجلب صلاح هذا المساء إلى بيتي وسيكون هناك جواد الاسدي وجمعة الحلفي ورياض النعماني. وصلنا قبل الثامنة وكان الجميع حاضرين فقلت لمظفر: لقد وفرت علي فرصة كبيرة لرؤية هؤلاء الأحبة مرة واحدة، ستكون الليلة من أجمل الليالي. كان مظفر اعد الفاكهة والطعام اللذيذ وبيده الكريمة كان يقدم المزات الشامية للجميع. وقال مظفر وهو يطلب من الأصدقاء أن ينصتوا لي لأن في جعبتي الكثير من القصص عن العراق وعن مظفر بالتحديد. شرحت للجميع الصدمة التي تعرضت لها بسبب الشريط والقصائد التي احتواها وكيف غيرت مجرى حياتي وحياة الكثير من الشباب في ذلك الوقت، اذ أننا كنا نتداول هذه الأشرطة بسرية تامة. ويكون مظفر بفعله هذا أثر في أجيال كاملة وهذه مهمة الشاعر الكبيرة... هنا يكمن تأثير مظفر الشاعر المناضل الشاعر ذي الخصوصية الكاملة التي لم أجد شخصيا في حياتنا الثقافية المعاصرة ما يشبهها أو ما يوازيها. بعد تلك الليلة كنا نلتقي بين فترة وأخرى. أحياناً أراه في مقهى الهافانا محدودبا على قصاصاته الصغيرة وهو يكتب بخط نحيل وناعم للغاية قصائده التي تبدو لحظة كتابتها أشبه بالأسرار، فكنت ابتعد وأعود بعد فترة لأنني اعرف هذه اللحظات المربكة والثمينة من حياة الشاعر. الامتلاء والنبل ذات يوم دعيت انا والشاعر السوري الكردي الجميل لقمان ديركي لتقديم أمسية لم اعد اذكر المكان بالضبط، لكنه على كل حال لم يكن اتحاد الكتاب العرب لحسن الحظ. والمزعج في الأمر أن أمسية لمظفر النواب كانت في اليوم والساعة نفسها على مسرح الحمراء. كانت الدعوات وزعت قبل أيام وأصبح الإرباك في ذروته. المشكلة ليست في أمسيتي انا ولقمان ولكن الأفظع إننا سنخسر حضورنا أمسية مظفر. غير أن مظفر الكبير جاء إلى مقهى الروضة وقال انه سيؤخر أمسيته ساعة كاملة حتى يتسنى لي وللقمان إكمال أمسيتنا. سار كل شيء بشكل طبيعي في ذلك اليوم بتدبير من مظفر النبيل، وفوق ذلك حضرنا أمسيته ولكن في باب المسرح الخلفي الذي امتلأ بالجمهور إلى درجة اكتفينا بها بصوت مظفر الغاضب الحزين. علاقة مظفر مع جمهوره لا يمكن تفسيرها ببساطة، الجمهور لا يأتي لكي يستمع فقط ولكنه يأتي لكي ينفجر ويتألم ويصرخ ويسب ويبكي. جمهور مظفر لا يجلس بشكل طبيعي على الكراسي لأنه مستفز وقلق، تراه مرة يقف أو ينحني أو ينضغط لأنه يعرف أن ما سيسمعه يسبب ضغط الدم أو الذبحة الصدرية أو ضيقاً في التنفس. في المقابل كان مظفر. عندما يقرأ لا يقرأ فحسب بل يتشظى. طبقات الطين يمكنني تشبيه شعر مظفر النواب بالطين، ليس لأنه قريب من الطبيعة والناس فحسب ولكن على صعيد البناء والتقنية أيضاً، فالطين طبقات فيها الخشن وفيها الناعم. ويمكننا أن نقول إن الخطاب السياسي في شعرية مظفر ينتمي إلى طبقة الطين الخشنة، خصوصاً في نصوصه الفصحى، أما نصوص الحب المكتوبة بالعامية فيمكن اعتبارها من طبقة الطين الناعم، ذلك النوع المسمى كلي لوم يشبه نعومتها خبراء التربة بنعومة نهد المرأة. في الطبقة الخشنة يستخدم مظفر اللغة البذيئة والألفاظ الجارحة من دون أن يكون بذيئاً بالطبع ولكن ليكون الخطاب على مستوى الحدث، والأمثلة أكثر من أن تعد، ولكن لا يفوتنا أن هذه التجربة الشعرية الصادقة تنم عن انسجام مع الذات والتزام أخلاقي لا يمكن التعبير عنه إلا بطريقة مظفر الخاصة. في الطبقة الناعمة يتحول الخطاب الشعري إلى ما يشبه السحر.. لا ليس السحر ولكنه شيء أخر تحت الجلد يشبه الرعشة أو الإغماء أو أحلام اليقظة لأنه غير مسبوق ويحدث لأول مرة. الصورة الشعرية عند مظفر باللغة العامية ينطبق عليها كل شيء ولا شيء، فهي سريالية ورمزية وواقعية وحلمية وحداثية وكلاسيكية. من تمشي جنه اثنين جاسمه الحزام مثل اليعد ليرات نكلات الجدام. من المؤسف إنني لا استطيع ايراد أمثلة كثيرة هنا لخصوصية اللهجة العراقية التي لا يفهمها القارئ العربي، وهي خسارة حقيقية، لأن شعر مظفر العامي نادر في خصوصيته وحساسيته وجدته. تحضر في نصوص مظفر العامية أكثر من شخصية، فإضافة إلى شخصية الشاعر هناك شخصية الموسيقي والرسام والمناضل. ومن هذه المكونات تنبجس قصائده التي تحفل بالرموز التاريخية والأسطورية عميقة وواضحة ومتجانسة. وعلى رغم ان مظفر لم يعش في بيئة الأهوار سوى اقل من سنة إلا انه امتص كما الاسفنجة لهجة أهل الهور وكدسها في مخيلته الخارقة، وهذه القضية مثار جدال لم ينته حتى الآن ومظفر نفسه لا يجد لها جواباً حقيقياً. اللغة، الموضوع، الدراما يكتب مظفر نصوصه الفصحى بلغة العقل حينما يكون موضوعها سياسياً، أما قصائد الغزل فيكتبها بلغة القلب، بمعنى أنها اقرب إلى البوح والأسرار الشخصية لأنها ليست مرسلة إلى جمهور عريض، بل إلى شخص بعينه. غالباً ما تكون لغة مظفر خالية من البلاغة واقرب إلى لغة الشارع عكس القصائد العمودية والعامية أيضاً. والسبب في التخلي عن البلاغة في هذه النصوص كما يعتقد مظفر نفسه أن الشاعر يشبه مغني القافلة التي تسعى الى الوصول إلى هدفها بأوضح الطرق واقصرها. لذلك ان يختار المغني اللغة التي تفهمها القافلة كلها. من جانب آخر مفارق يكتب مظفر قصائد عامية باللهجة العراقية يفترض أن تكون واضحة على الأقل بالنسبة الى العراقيين إلا أن هذا يجانب الحقيقة... فأنا على سبيل المثال من عائلة جنوبية تسكن في الريف ويفترض بي أن افهم اللهجة الجنوبية، إلا إنني توقفت كثيراً عند سماع إحدى قصائد مظفر المغناة روحي توقفت عند جملة تقول: حلاوة ليل محروقة حرق روحي وبدأت أقارن بين حلاوة الليل والروح من دون أن افهم حتى سألت أحد الأصدقاء ممن يعيشون في الاهوار فأوضح الأمر ببساطة: في الاهوار لا توجد كهرباء والناس الذين يصنعون هذا النوع من الحلوى أثناء الليل لا يعرفون متى تنضج إلا عندما تحترق لأنهم لا يستطيعون رؤيتها. ويعتمد مظفر في كتابة قصيدته على الدراما. والدراما هنا درامتان، الأولى بالمعنى الشكسبيري الكارثي والثانية بالمعنى الأرسطي التقني بداية، صراع، نهاية. الفرار من سجن الحلة كان طول النفق 25 متراً وعرضه 75 سنتمتراً وارتفاعه 75 سنتمتراً. لم يكن مستقيماً بل متعرجاً في زوايا، لسلامة سطحه وجدرانه من الانهيار. وكان من المؤمل والمتفق عليه ان تحضّر هويات وملابس مدنية للذين سيهربون وان تجهز سيارات لنقلهم، واحترازات أخرى مثل معالجة حارس المرآب. بدأ السجناء بالخروج من النفق ومظفر واحد من هؤلاء الذين بلغ عددهم ثلاثة وأربعين. الطريف في الأمر هو حارس المرآب الذي كان يجلس على كرسي في الباب ويرد التحية على كل من يخرج منهم ببدلاتهم الجديدة وهم ينفضون عنها التراب بالقول: عليكم السلام أهلاً أستاذ. تلك كانت كلمته التي يرددها ببغاوياً... شعر أخيراً ان شيئاً غريبا يحدث اذ لم تدخل المرآب أية سيارة وأي شخص، فمن أين جاء هؤلاء الذين يخرجون من الباب او يتقافزون فوق السياج ثم يهرولون صوب البستان المقابل؟ لم يجرؤ الحارس على دخول المرآب والتحقق بنفسه، وتحت تأثير هذا الذهول والاستغراب والفضول لمعرفة السبب، ذهب الى شرطي المرور في الكابينة المقابلة وسأله: - عمّي لا سيارة ولا واحد دخل المرآب منذ الظهر وحتى الآن ولكن أرى ان أناساً كثيرين يخرجون منه فمن أين جاؤوا؟ الله وحده يعلم... انتبه الشرطي ورأى بعينيه أشخاصاً يتراكضون ويتقافزون فوق سياج المدرسة أو يهرولون في الشارع، فنادى على السجّان الموجود فوق سطح السجن ليلاحظ ما يحدث! أصيب السجّان بالذهول عندما رأى أناساً يخرجون من حفرة خلف جدار السجن. سقطت إمطار كثيرة وذابت ثلوج كثيرة وكنت وصلت إلى هولندا في عام 1995 كلاجئ. بعدها بسنة يتصل بي صديقي الموسيقار احمد المختار من لندن ليقول إن مظفر عنده ويريد أن يكلمني. قال انه سيزور هولندا بعد أسبوعين لإحياء أمسية وللمشاركة في مهرجان تقيمه مؤسسة هولندية ويريد أن يقضي الجلسة في بيتي. قلت أهلاً وسهلاً أبو عادل إنها فرصة بعد هذا الغياب سانتظرك في المطار، فقال: لا تتعب نفسك أخي سيكون هناك. قبل أن يصل مظفر بيوم واحد تلقيت عشرات الاتصالات من اشخاص كلهم يريدون أن يحضروا إلى بيتي لرؤية مظفر. ولأن بيتي صغير لا يستوعب أكثر من ثمانية أشخاص دعوت الناقد ياسين النصير والموسيقي حميد البصري والصحفي إسماعيل زاير وزوجته الهولندية، وكان مع مظفر ثلاثة أشخاص من ضمنهم أخوه الذي يسكن في هولندا. استمرت الجلسة حتى ساعة متأخرة استمتعنا بالشعر والموسيقى وحتى بالسياسة. كان من المقرر أن تبدأ الأمسية في اليوم التالي وكالعادة كان الجمهور اكبر من أن تستوعبه القاعة. قرأ مظفر قصائد مدهشة وفي غاية العذوبة بدأها بعمودية عشقية صوفية متينة ثم تلاها ببعض النصوص الجديدة من الفصيح، والجمهور لا يتوقف عن طلب الإعادة. أخيراً ختم ابو عادل الأمسية بقصائد شعبية لم أتمالك ككل الآخرين من الطلب منه إن يكررها أكثر من مرة لأنها"تهز البدن". أخر قصيدة كتبها مظفر كانت قصيدة كهرمان عن الحرب الإسرائيلية على لبنان ومأساة العراق وفلسطين، وتبين لنا أن مظفر لم يكتب القصيدة وإنما نسبت اليه. كما سمعنا من بعض الصحف أن الشاعر مظفر النواب كتبها على فراش المرض. نقول لمحبي شاعرنا إننا اتصلنا لنتوخى صحة الأمر وتبين أن أبا عادل متعب قليلا لا أكثر، وكان عنده قبل أيام الملحن الكبير كوكب حمزة والمطرب المعروف كريم منصور، وهناك مشروع فني في الطريق.