منذ فجر استقلال السودان 1956 وهو يستضيف آلاف الأشقاء من نيجيريا، وإثيوبيا وإريتريا، إضافة الى جنسيات أفريقية أخرى. وقد اندمج أكثرهم طوعاً وحباً في إهاب السودان بتنوعه وتناغمه. وظلت كل مجموعة تحتفظ إلى حد كبير بخصائصها الاجتماعية والحضارية والثقافية، حتى لغاتها استمرت في التداول جيلاً بعد جيل، ولديها أحياء كاملة تحمل سماتها المميزة، فمثلاً تجد"فريق فلاته"في أي مدينة كبيرة أو متوسطة. غير ان هؤلاء اللاجئين انصهروا في المجتمع بصفة عامة بدرجة كبيرة، ولعل ذلك يرجع الى كونهم أفارقة، اشتركوا مع السودانيين في اللون والدم، ولم تعد اللغة والعادات الأخرى، مثل تقاليد الزواج او طريقة الأكل، تشكل فوارق تذكر في النسيج الاجتماعي، بل أضحت إضافات يعتد بها الوطن. هذه الروح الاجتماعية قد لا تنطبق مع أي مجموعات عرقية أخرى غير افريقية، تفصلها عنها عوامل اللون والعادات والتقاليد والثقافة والتطلعات السياسية والاجتماعية. ويحضرني في هذا الإطار دعوة الرئيس السوداني الى استضافة فلسطينيين عالقين على الحدود بين العراق وسورية، فقد زار أحد المسؤولين الفلسطينيين السودان خلال شهر تشرين الثاني نوفمبر 2007، وقابل نائب الرئيس وقدم له قوائم العائلات التي سيستضيفها السودان "الحياة"في 28/12/2007. لا أعلم إذا كان المسؤولون السودانيون وضعوا نصب أعينهم بعض المحاذير والخطط اللازمة التي تناسب هذه الاستضافة التي ليس لها سابقة تاريخية في السودان بحسب علمي. فنحن امام مجموعة عرقية تختلف عنا في كل شيء تقريباً. وليس بعيداً عن الأذهان حوادث نهر البارد في لبنان، الذي تربطه بالفلسطينيين الكثير من الروابط، متمثلة في اللغة واللون والدين والدم والعادات والتقاليد والثقافة وغيرها. فهم ضمن مجموعة"الشوام"بما لها من خصائص اجتماعية متجانسة، وعلى رغم ذلك كانت الطامة عندما انفجرت أحداث نهر البارد منتصف هذا العام، وتحول المكان الى ركام من الخرائب والدم والدخان وبعد محاولة عدد من الفلسطينيين فرض واقع سياسي وجغرافي على الشعب اللبناني المضيف. واستطاعت الشرعية اللبنانية ان تخمد هذه البادرة الخطيرة، لكن بتضحيات جسام تعدت الممتلكات والاستقرار السياسي لتمس أغلى ما يملكه الوطن وهو أبناؤه من درع القوات المسلحة التي ضحت بالدم من اجل وحدة التراب اللبناني. ان وضع الفلسطينيين في مخيم هو في الواقع مدينة متكاملة الخدمات سيؤدي الى تكريس الفوارق الطبقية بين السودانيين والفلسطينيين، وقد ينجم عن ذلك اعادة رسم مأساة نهر البارد في وادي نهر النيل، لذا قد يكون المخرج من هذه الأزمة التي قد تقع في المستقبل، تطوير آلية لدمج الضيوف في المجتمع، خصوصاً في المناطق الريفية، بحيث يتم توزيعهم في مجموعات صغيرة على بيئات مختلفة ومتنوعة في جميع انحاء السودان الشاسع، بدءاً من أقصى الشمال في وادي حلفا، مروراً بمنطقة المكابراب التي يتم تهجير بعض افراد قبيلة المناصير إليها حالياً نظراً الى غمر أراضيهم بمياه سد مروي. ثم العمل على استقرار مجموعات فلسطينية أخرى في مشاريع السكر وغيرها من المشاريع الزراعية قرب المدن الكبيرة حتى يجد الضيوف مصدراً للرزق والعمل الشريف، ويكونوا عوامل دعم للبلد الذي استضافهم، بدلاً من تكفف الناس الفقراء اصلاً أو ظهور حالات انحراف، لأننا لا نتحدث عن مجتمع ملائكي. هذه البانوراما في شكل الاستضافة ومضمونها ستؤدي الى صهر العائلات الفلسطينية في النسيج السوداني مع مرور الوقت، الذي قد يطول الى ما لا نهاية... فنحن إزاء حالة استيطان وهجرة جماعية لا يجوز التعامل معها من منطلق إنساني بحت فقط، إذ لكل هجرة جماعية ذيولها السياسية والثقافية والاجتماعية، ولا بد من الاستعداد لكل الظروف. إن حوادث نهر البارد ظهرت في الوقت المناسب لتدق ناقوس الخطر وتدل على خريطة الطريق التي ينبغي العمل بموجبها حتى لا تضلل السلطة السودانية نفسها وسط تضاريس الحماس الزائد، وطبول الإعلام، والمزايدات بالوطنية بين الدول العربية. الذي نريده لهذه الاستضافة - إن تمت - ان تكون نهراً بارداً حقيقياً يسهم في إثراء الضيوف والمضيفين، ولا نريدها نهر بارود يفجر البقية الباقية من مجتمعنا السوداني الأصيل الذي تتناوشه سهام التفكيك والتفرقة في اكثر من مفصل! سعد سليمان محمد - جدة