ربع قرن مضى منذ 1982 عام مولدي، وهي سنة يذكرها اللبنانيون جيدا لأهميتها في حربنا الأهلية الطويلة والعظيمة. بامكاني القول بان ربع القرن هذا لم يكن مثالياً. فطفولتي ذهبت هباءً ومراهقتي كانت صعبة تلتها بعض سنيّ الرشد التي لم أكفّ فيها عن محاربة نفسي وجميع ما يتحرك حولي. قيل لي يوما بأني موهوبة وقد نجحت بامتياز في معهد الفنون ببيروت، مما جعلني أفكر وبسذاجة لافتة بأن بإمكاني فعل ما يحلو لي دون أن يستوقفني أحد. فحياتي لم تبدأ الا قبل أربع سنوات حين بلغت سن الرشد وسكنت في بيروت. ورحت أبني عالما خياليا ومثالياً لا يشبه أحلام الفتيات، ولا حتى الأميرات، بل عالما حديثاً بسيطاً منفتحاً لا يشكو من شيء. ولم افهم حينها لماذا لم تف الجامعة اللبنانية بوعودها لنا، كما لم، ولا، أفهم كيف تغير الأحزاب اللبنانية خطها بين يوم وآخر، ودائماً لم أحبّذ الجو الديني المغلق الذي ولدت فيه. هرعت"طائرة"، كما وصفني والدي حينها في مطار بيروت. رجلاي لا تمسان الأرض من شدة حماسي، ووحدي ووصلت الى من لندن دون أي مساعدة جدية من أي أحد. وفي عيد ميلادي الثالث هنا عرفت باني لم أتخلص من أشياء لبنان. فسياسة بلادي تلحق بي كل يوم حيثما ذهبت: أحداث وويلات واتفاقات كاذبة، وهويتي محفورة على جبيني طوال الوقت تميزني عن الآخرين. فحلَق أذنيّ عربيّتان ولهجتي عربيّة وشعري أسود مجعّد ولو صبغت لونه. ومهما نجحت في مهنتي ومهما سمعت من المجاملات والشهادات أعود الى كوني عربية لا تفلح في إيجاد منحة دراسية للتعليم العالي ولا تستطيع السفر في العالم حيثما أرادت. والسفر عند الأوروبيين مهنة أو نمط حياة بنفسه، لأجله يعمل الناس بجد طوال السنة لتوفير مال يخولهم المغامرة في بلدان أخرى، والذي سافر منهم أكثر من غيره أعطي صفة"مجيد السفر"، مثل نعت"متعلّم"في بلادنا أو"مثقف"أو"ناجح"وغير ذلك من الصفات الاجتماعية الحسنة. وأنا ظننت بأنني مثل غيري لا يفرقني عن أصدقائي الأوروبيين شيء، اذ أنافسهم بالمهنة والتجربة. لكني اكتشفت مؤخرا انني انتمي الى لائحة البلدان الخطرة في سفارات بلدان العالم الأول، والسفارة الاسبانية لم تمنحني تأشيرة دخول ولو لمدة أربعة ايام فقط بقصد قضاء عيد ميلادي مع صديق قريب لي في مدينة برشلونه. يومها ذهبت فخورة وسعيدة بفكرة السفر، وواجهتني احدى موظفات السفارة بنظرة ساخرة. وحين لم أتجاوب مع هزئها أشارت الى الورقة المعلقة وراء مكتبها التي تشبه صور المجرمين المطلوبين من العدالة والتي تعلق خلف طاولة البائعين في المحلات: قرأت لي اسم بلدي على قائمة الدول الخطرة التي ليس من المستساغ سفر مواطنيها الى البلدان الأوروبية. لقد فعلتْ هذا بأشد ما عندها من نبرة ساخرة، وانا شعرت بالذل رغم اني لست وطنية ولا أشعر بأني أمثل بلدي ولا هو يمثلني. مع هذا شعرت بمرارة كمن يتكلم بالسوء عن انسان مقرّب لي، وأربكني شعوري اذ لم أرد أن يكون رفض تأشيرة الدخول الى بلد ما هو شعوري الوطني الوحيد ومصدر إدراكي بأن لبنانيتي جزء كبير من حياتي. فأنا كنت قد فهمت وحدي ان الناس تتميز بالأفعال والأفكار والقرارات التي يتخذونها لا بالصفات التي ولدوا عليها كالعرق والدين والطبقة الاجتماعية. فلماذا تميز هذه السفارة بيني وبين اصدقاء لي من بلدان أخرى لسبب لم أختره أنا؟ أهو أسامة بن لادن من يحدّد ما سأفعله في مناسبة عيد ميلادي؟ وهل يجب أن تدفع لي القاعدة ثمن تذكرة السفر التي خسرتها؟ وهل على الغرب اعادة التفكير بنظامه البيروقراطي حين يتباهى بالديموقراطية والانفتاح على الآخر؟ ألا تعرف تلك الساخرة في السفارة ان ارهابيي العمليات الارهابية الكبرى كانوا يحملون من جوازات السفر البريطانية أكثر بما لا يُقاس من الجوازات اللبنانية؟ لكني لم أستطع قول شيء لها اذ أنهم في بلدي حاليا يرسلون اللاجئين العراقيين الى السجون بحجة عدم حيازتهم تأشيرات مرور، وهم يهربون من لبنان عبر البحر الى اليونان وبعضهم يموت على الطريق غرقا! وفي بلدي لا يمكن للفلسطيني الذي ولد فيه شراء بيت، كما لا يمكن للهندية الحصول على جواز سفر لبناني وان عملت فيه وعاشت ثلاثين عاما! في عيد ميلادي الخامس والعشرين شعرت بكره تجاه امرأة اسبانية لا أعرفها كما شعرت بلبنانيتي للمرة الأولى واستدركت فقري الذي يهدده مبلغ حجز طائرة وفكرت بما الذي أفعله في اوروبا حين اوروبا لا تريدني، وحين لبنان لا يريد أحداً على الاطلاق؟ * مسرحيّة لبنانيّة.