حين بلغت سن الرشد، لم يحصل شيء. لم اشهد في جسدي تغيراً جذرياً، ولم انضج بالنسبة الى السنة التي فاتت. امي اشترت لي قالب حلوى، وأقامت بمناسبة عيدي الثامن عشر حفلة صغيرة، وانا كنت لا ازال ولداً حين قبلتني، وأعطتني هديتي. انتظرت اليوم هذا سنوات عدة كنت فيها خلالها كمن ينقصه شيء. كنت اهدد والديّ احياناً، "بترك منزلهما حين اصبح راشداً"، قبل ان ابلغ سن الرشد. ولكن لم ينتهِ شيء في ذلك اليوم الذي بت فيه مواطناً لبنانياً، ولم يبدأ شيء. أمضيت سنوات اهدد والديّ بترك منزلهما، لكنني بقيت عندهما. كنت تعلمت قيادة سيارة جدي في قرية النميرية في الجنوب منذ بضع سنوات، لكنّ أبي لم يقبل أن يعيرني سيارته لأقودها في بيروت. "ليس قبل ان تحصل على رخصتك" كان يقول لي، وانا اجيبه بأن اصدقائي كلهم يقودون من دون رخصة. القيادة سرعان ما اصبحت هاجسي، وسببت لي مشكلات كثيرة مع أبي ومع امي ايضاً. كنت أسرق سيارة أبي حين يذهب مع اصدقائه في سيارتهم. آخذ المفتاح الثاني الذي اعرف مكانه، وأبحث عن السيارة في حيّنا القديم. كنت اخاف من ان يركن احد سيارته مكانها قبل ان اعود، فيعرف أبي انني اخذتها. لذلك كنت اقودها مسافة العودة الى حيث انطلقت بها، اقوم بدورة واحدة في الحي، من دون اي متعة، وأعيدها الى مكانها قبل الآخرين. بضع دقائق وأعود مسرعاً الى البيت، لأضع المفتاح مكانه، وأرتاح من الضغط والخوف اللذين سببتهما لنفسي من دون مقابل. القيادة باتت هاجسي، وبت انتظر سن الرشد من خلالها. واليوم الذي سأحصل فيه على رخصتي، هو اليوم الذي اصبح فيه حراً، ورجلاً، ومواطناً. وليس العكس. كنت انتظر رخصة القيادة كسجين ينتظر موعد اطلاق سراحه، وأفكر في كل الاماكن التي سأزورها حين احصل على مفتاحي الخاص، كأنني قبل ذلك كنت لا استطيع التنقل أو التحرك. لم يحصل شيء حين بلغت سن الرشد. كنت لا ازال ولداً في عين أمي التي لم تفهم فعلاً لما قد تمنحني الدولة رخصة لأقود سيارة وحدي. كما اليوم الذي اهداني فيه أبي بندقية خردق، وصارت امي تقول له انني لا ازال صغيراً على الاسلحة. لكنّ امي لن تغير رأي احد هذه المرة، فما تعطيني اياه الدولة اللبنانية، لا تقدر هي على اخذه مني. لم اكن انتظر شيئاً آخر، غير القيادة، من البلوغ. لم اكن مثل زملائي الفرنسيين الذين تحدثت معهم عن سنتهم الثامنة عشرة. معظمهم كانوا ينتظرون البلوغ ليتركوا منزل اهلهم، ويذهبوا ليعيشوا وحدهم في شقة ضيقة في المدينة التي اختاروها. كلموني عن الانتخاب، وعن المبلغ الذي تمنحهم اياه الدولة الفرنسية كل شهر حين يبلغون سن الرشد ويكملون الدراسة. لم يكلمني احد عن القيادة ورخصتها. معظم الذين تحدثت معهم حصلوا على رخصتهم بعد سن الرشد بسنوات. وبعضهم لم يحاول الحصول عليها ابداً. واللافت ان زملائي الفرنسيين ذكروا الكلمات نفسها التي اذكرها، كالحرية والاستقلالية، وهم يتكلمون عن فترة بلوغهم سن الرشد. الكلمات نفسها ولكن في اطار مختلف تماماً. ففي حين كنت انا اهدد اهلي بالانتقال من عندهم من دون ان اصدق ذلك فعلاً، ومن دون ان يصدقوني هم فعلاً، كان زملائي الفرنسيون ينظمون مع اهلهم، أو من دونهم، مسألة انتقالهم الى شقة أو مدينة اخرى. لم اكن اريد من لبنان الا رخصة لأقود في شوارعه. وهو لم يقترح علي شيئاً آخر. لم اشعر حين بلغت سن الرشد، بأنني اصبحت مواطناً لم اكنه من قبل. بقيت طالباً يعيش على حساب والديه. ما يعيشه الفرنسيون في عمر الثامنة عشرة، نعيشه في لبنان بعد انتهاء الدراسات الجامعية، وبداية العمل، أو حين نتزوج. حين كنت اقول لأبي انني سأترك منزله لأنني بت راشداً وحراً، كان يجيبني هو: "افعل حين تصبح قادراً على ذلك، وحين تستقل مادياً". لم انتقل من مرحلة الى اخرى في حياتي، حين أصبحت راشداً، لم ينته شيء ولم يبدأ شيء. اخذت مفتاح سيارة أبي الثاني، وكأن ذلك كان يكفيني. لم اشعر بالانتماء اكثر الى لبنان، كما يتكلم زملائي الفرنسيون عن شعورهم بالانتماء الى بلدهم بعد أن يكملوا عامهم الثامن عشر. بياتريس، زميلتي في الجامعة، كلمتني عن الوجود، فقالت انها كانت تنتظر من سن الرشد ان يعطيها كياناً لم تملكه من قبل. "حين اصبحت راشدة، شعرت بأنني اخيراً بت موجودة"، قالت لي، وهي تعني بالكلمة هذه معنيين: الوجود في سجلات الدولة كمواطنة، والوجود بالمطلق، كشخص مفرد. انا لم اعش الاشياء هكذا، في الفترة نفسها. بقيت عند اهلي، واكتفيت بدل الوجود بالتنقل في سيارة ابي، مع اصدقائي الذين كانوا مثلي، لا يريدون من الحرية والاستقلالية الا امتلاك سيارة. تعجبت زميلتي بياتريس حين قلت لها ان الشباب اللبنانيين يبقون عند اهلهم حتى اعمار متأخرة. سألتني كيف لا يطلب الاهل من اولادهم ان يذهبوا, لأن ذلك يحصل في فرنسا. قلت لها ان الاشياء مختلفة هناك. العائلة في لبنان لا تتكسّر الى افراد بالسهولة التي يحصل فيها ذلك هنا. تنتهي حياة الشباب الفرنسي العائلية حين يصبحون مواطنين فرنسيين، وتبدأ حياتهم كأفراد، رجالاً ونساء. وكما يختلف معنى الوطن والمواطن بين لبنانوفرنسا، يختلف معنى العائلة ايضاً، فهناك في فرنسا اهل يطلبون من اولادهم ان يتركوا المنزل العائلي، وكأن واجب الاهل أو دورهم هو ان يوصلوا اولادهم الى سن الرشد، ثم يتركونهم ليكملوا حياتهم التي توقفت سنوات عدة كانوا فيها يربون الاولاد. لم تنته حياتي العائلية، ولم تبدأ حياتي كمواطن فرد. لم احصل على شيء من الدولة اللبنانية غير الرخصة الصفراء. بلغت سن الرشد من دون ان يكون لذلك علاقة بالوجود، أو بالوطن، أو بالانتقال الى شقتي الخاصة بي، وحياتي الجديدة. بقيت اعيش في بيت اهلي، ولم افكر بالانتقال من عندهم الا بعد سنوات. وحزنت امي حين تركت شقتهم، وحزن أبي، فعرفت انني مهما ابتعدت عنهم لأصبح مواطناً مفرداً، فرنسياً أو لبنانياً، فأنا سأبقى ابنهم، ولدهم، وسيطغى ذلك على شعوري بأنني مواطن. انا جزء من عائلة، اكثر مما أنا جزء من وطن. لبناني اكثر مني مواطناً لبنانياً. أنني لا اعرف فعلاً كيف اكون مواطناً لبنانياً، سوى في أنني أحب لبنان وأشتاق اليه.