تشير كافة المعطيات إلى تراجع في نفوذ القاعدة وحلقة مؤيّديها على امتداد العالم الإسلامي. ثمة علامات لا تخطىء، تؤيّد ما يذهب إليه المُحلِّلون، مستقاة من أحداث الأشهر الماضية في غير بلد، معطوفة على التحوّل الجاري في الدائرة السلفية ورموزها. بالأمس، خرج الشيخ سلمان العودة علناً بإدانة صريحة لبن لادن ومنظومتهِ، وهو المشهود له بالمعرفة الدقيقة لأحوال الجهاديين، والثبات على قراءة نقدية جذرية للمؤسسة الدينية الرسمية. إلى جانبه، تكرّرت الدعوات من مراجع ذات صدقية ومريدين، تنادي بفضائل الوسطية، ولا تنكر الإختلاف في الرأي والاجتهاد، سبيلاً إلى تجاوز أزمة كيانية معترف بها، ومصالحة الإصلاح الضروري مع مهمات العصر والتدرج في الخطوات. في المقابل، جاء شريط زعيم القاعدة المتلفز باهتاً، خالياً من جديد محاججة واسناد، وكأنما الغاية منه توكيد حضور بن لادن واستمراره على دفة التنظيم عنواناً للمبايعة. ليس السجال الفكري والفقهي سوى اضافة، لا مناص منها، لدحض المنهج التكفيري ولجم الغلو والاستنساب في الشرح المغالط. إلاّ أنه يضيء على مكامن الانحراف العقيدي بمثابة المعبر الى العنف، وينفض مقدماته القائلة بحتمية الصراع الدموي لزوماً للصحوة ووسيلة لرفع الظلم وتصفية المظالم التي راكمها التاريخ من منظور صدام الحضارات المتناسل حروباً دينية ومذهبية. الأهم، في تقييم ظاهرة التفنيد وكشف العيوب الجوهرية اللصيقة بالخطاب القاعدي، هو صدوره عن ثقاة وواعظين من أهل البيت، على دراية بالتعاليم الشرعية وحرص على نزاهتها ورفعتها بما لا يرقى اليه الشك أو تشوبة لوثة نفاق أو تهمة استشراق وغربة عن فضاء الإسلام وحقيقته. كما أن العبرة من محموله في تزامنه مع النتائج الكارثية التي تسبّبت بها الهيولة القاعدية، من المشرق الى المغرب، أدمتْ مجتمعات وسفكت دماء بغير حق في ديار الإسلام وبين أبنائه الأمنيين. تخطَّت القاعدة مفهوم الدعوة منذ نشأتها، وانصرفت الى عمليات التفجير في القرن الأفريقي قبل الانتقال إلى ملاذ طالبان الأفغاني والانطلاق في مواجهة مكشوفة مع العدو البعيد إثر غزوة نيويورك عام 2001. مذ ذاك، ورغم هول الدمار من حولها، اندفعت نحو العنف العشوائي والتأديب الجماعي، وفق مفكرة شملت الأجنبي الطامع وأصحاب الأرض على السواء، بدءاً من العراق، وصولاً إلى المغرب. فعلى مرّ السنوات الست الماضية، تعدَّدت أشكال ومظاهر ضلالها، مطيحة بغلاف المقاصد، لتستوي في الإرهاب العاري وتلطخ الصورة السمحة للعقيدة. هكذا، أمعنت في الأعمال التخريبية الجرمية التي طالت الجزيرة العربية، وأيقظت الفتنة في الجزائر، وأشغلت نار الحرب في مخيّم نهر البارد اللبناني، وهيأت بالوكالة أو الأصالة تفجيرات دامية حيثما سنحت الفرصة لخلاياها النائمة أو المتفرّعة. خبر العالم العربي معنى الإمارات القاعدية ومشتقاتها، وبات اليوم محصّناً إلى حد إزاء أوهامها ومشاريعها. كذلك غرق توسل رافعة القضية الفلسطينية في متاهات تخوين الفصائل الفلسطينية على اختلافها ودفعها الى الخصام والاقتتال. ولقد قاد التزمت المطلق والهوس التكفيري الى أطروحات قصوى أخلّت بكل ميزان أنصاف، رافقها احتكام عبثي الى القتل الجماعي وتقويض الأسس المجتمعية باشعال الحرب الأهلية كما في العراق، وبؤر الصراع الدموي في غير ساحة واقليم. وعليه، تاهت القاعدة في برامج وانشغالات ومرام عصية على الاحتواء والقبول، سكن أسدها عريناً يلتهم أبناءه ويحضّهم الى مزيد انتحارية وتضحية بالذات والآخر دون مردود أو أفق، ماكينة تطحن البريء والمُغرر به، وداراً للعزاء الدائم واسود اللباس. بانت علامات انحسار السلفية الجهادية وانطوائها على ذاتها كلياً، بعد فقدان المسوّغ الاعتباري. ويمكن تلمس اشارات دلالة على هذا الأمر في ما يعود للاحتضان الشعبي، حيث سُجل إنتفاض صريح على أدواتها في العراق، مثال عشائر الأنبار، والأهالي في لبنان. كثرت الشواهد على مقاومة دعواتها والتبرود من منهجها، على غرار مظاهرات الجزائر المُندّدة بمنحى العُنف وصنّاعه، وانتخابات المغرب التي جمعت أطياف القوس السياسي وأظهرت نزعة الاعتدال. وإذ احتجَّت جبهة الثنائي بن لادن-الظواهري العالمية بمقارعة العدوان الإمبريالي ومطاردة تجلّياته وسحق مطارحه، تشاطرت عملياً مع سعي مُشابه في عناوينه، رسمته الخمينية وأودعته ورثة الثورة الاسلامية في إيران، على وجه التباعد في اطار المرجعية، والالتقاء على المناهضة وتعريف المُسببات. لذا، استولدت النقائض سلوكيات متقاربة في وعائها الغيبي، وتعاملها مع الأنظمة"المتخاذلة"و"صنائع"الاستكبار، رغم العداء المتبادل والهوية المغايرة. انطلاقاً من هذه المعطيات، وتأسيساً على جدلية الحركة والصراع، يتوقع اندفاع طرف المعادلة المعافى نحو ملء الفراغ واستثمار مساحة الاشتباك حقلاً محروثاً واعداً بالحصاد، دليله المزاوجة بين حصانة الدولة السيادية صاحبة القوة العسكرية، وعمّاله محازبون بعامل الإغراء المذهبي، والإتكاء على صخرة صلبة مُدجَّجة بالسلاح والمال والخطاب ومصقولة أيديولوجياً على نمط الاحتراف"الثوري"في عهدة ولاية الفقيه. غير ان الحسابات قد لا تأتي بأرباح صافية، لاعتداد زائد بالقدرات الذاتية وتقدير مبالغ في قراءة ميزان القوى، تخلص الى ترقب انهيار جبهة الأعداء المقابلة وهزيمتها المنتظرة والمكتوبة سلفاً. يحفل القاموس المعمول به في طهران بالمصطلحات الموآتية، ويسقط سهواً ما يجهله لِحَوَل البصيرة، وعمداً ما يؤرِّقه لانتفاء الحيلة. ويحتفظ الفريق النجادي بسجلات غير مدققة تضخِّم الموجودات وتقلل من الذمم، فيما تداعب مقولة ان الامبريالية نمر من ورق، يكفي التشدّد حياله ومشاغلته كي يولي الإدبار أو يضمحل نفوذه وينكفىء عنه اللاهثون وراء التسويات. تخلّصت ايران من جارين لدودين رابطا على حدودها، صدام غرباً وطالبان شرقاً، عملاً بالحكمة المأثورة:"اضرب رأس الأفعى بعصا عدوك"، ونجحت في توظيف مفاعيل الغزو الأميركي وحملات الائتلاف الدولي لصالحها في مرحلة أولى. بذلك جنت عوائد إقليمية معتبرة نظير حيادها الايجابي وصمتها المرحِّب باستئصال نظامين معاديين، بلا تكلفة أو كفالة. ثم انتقلت ناقدة الوجود العسكري الأجنبي، مرتاحة الى تخبّط"الشيطان الأكبر"في مستنقع العراق وجبال أفغانستان العاصية، ريثما تشحذ أدوات تسلّلها من بوابة خلفية، ما مكّنها تدريجياً من وطء المسرحين معاً، تؤلِّب وتنفي التدخل في آن، وتعمد الى مدد مناوئي الاحتلال وتوفير دعم خفي الى مشاغبي هندساته. أعلن قادة إيران صراحة عن استعدادهم لملء الفراغ، على معنى الريادة في الشأن الاسلامي والدار الواسعة، ووراثة التركة كاملة، كلّما غاب فريق، بداعي الأحقية في الموقف والمشروعية في الميراث الإقليمي على قاعدة أسبقية المواجهة والقدرات. يقوم هذا الترتيب على امتلاك أوراق ثبوتية ليس أقلها المحور الممتد من طهران إلى غزة، والسعي الحثيث لتخصيب الأورانيوم والتحكم بدورة الطاقة النووية. أي ان لايران الدولة والثورة ما يؤهلها منفردة عمّا تعجز عنه سائر الكيانات الاقليمية والتشكيلات قوامه اجتماع العقيدة والقدرات، والجهوزية على كافة الجبهات. ففي صحافة إيران، ومن على منابرها، يعلو الصوت مؤكّداً أن الجمهورية الاسلامية وحدها على تماس واحتكاك مباشر مع بؤر الصراع والوجود الأجنبي والاغتصاب، من أواسط آسيا الى ضفاف المتوسط، ومن بحر قزوين الى مضائق"الخليج الفارسي". إلى ذلك، فهي الكفيلة بتلبية حاجات التموضع والانتشار، عبر توريد الترسانة الصاروخية وإنزالها مواقع مهيأة تستجيب لشروط المدى والحماية، وإعداد الجبهة المناصرة وشحنها على سبيل وحدة المرجعية والتحالف العضوي حيناً واتصال مكوِّنات الهلال. من المنطقي أن تسعى القوى الصاعدة الى ملء الفراغ المتروك نتيجة ضمور نفوذ الآخرين وانسحابهم من الساحة. لكن، إيران تبدو على عجلة من أمرها، تخلط صحيح الجزئيات الإقليمية بالتوقعات الوردية، وتشطب المسافة بين المراد ولوحة الواقع. ان استنقاع الولاياتالمتحدة في العراق لا يلغي ضرورة الالتفات الى سائر المعطيات، ولا يُنبىء ببشائر النصر القريب. في هذا الصدد، ربما ينبغي على صُنّاع القرار كبح جماح المتفائلين ملائكياً، واستذكار العامل العربي في كافة أبعاده وخصائصه وقلقه وإيثاره نزعة الاعتدال والوسطية والتسوية الشاملة، بينما يُحيط مزيد من التعقيدات بملف طهران النووي، ويكاد يضع الجمهورية الاسلامية في عين الاعصار. * كاتب سوري.