اتسع مد التنظيمات الأصولية خلال السنوات الأخيرة ليصل إلى مناطق كانت بعيدة جداً بحكم الجغرافيا والتاريخ والتركيبة السكانية من التطرف. ووصل إلى موريتانيا التي كانت مهد الإسلام المعتدل في غرب إفريقيا. وبين إطلاق رجل النار في سهرة موسيقية يشارك فيها وزراء عشية الاحتفال بذكرى الاستقلال عام 1993 - قالت الشرطة حينها انه «مختل» يعاني اضطرابات نفسية - وخطف رعايا غربيين نهاية العام المنصرم تنامت في شكل تدريجي وتيرة العنف الأصولي التكفيري الذي خرج عن السيطرة وتحول من «جنون» ثم «هواية» إلى «حرفة» يمارسها بحسب تقديرات غير رسمية مئات الشبان الموريتانيين المعدمين واليائسين ممن نجح تنظيم «القاعدة» في بلاد المغرب الإسلامي في استقطابهم خلال فترة وجيزة. وفي بلد مترامي الأطراف مثل موريتانيا تتجاوز مساحته مليون كلم2 معظمها صحارى أو أراض مهجورة و «لا يتوافر على هيكلية تنظيمية للأمن والدفاع القومي قادرة على التعامل مع التحديات الأمنية الجسيمة التي يواجهها اليوم» بحسب الخبير الاستراتيجي محمد السالك ولد إبراهيم، يبدو «الخطر القاعدي» مضاعفاً والمخاوف من أن تتحول صحراء البلاد إلى ملاذ أمن للإرهابيين مشروعة. يعود ظهور أول تنظيم إسلامي جهادي في موريتانيا بحسب السلطات إلى العام 1994. فبعد حملة اعتقالات واسعة في صفوف ناشطي او قيادات الحركة الإسلامية الموريتانية أعلنت وزارة الداخلية تفكيك تنظيم سلفي متطرف يدعى كتيبة «مصعب بن عمير»، إضافة إلى تنظيمين آخرين متطرفين الأول يحمل اسم «الجهاد» والثاني يسمى «حاسم» وقد بثت حكومة الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع (1984 – 2005) اعترافات الموقوفين في وسائل الإعلام. ففي ذلك الوقت كانت الدولة بحاجة إلى تقديم تبريرات لحملة قمع شملت أئمة وشيوخاً ودعاة وناشطين من مختلف التيارات الإسلامية لتحييد شارع متدين ومحافظ كان من الممكن أن يؤدي استهداف غير مبرر للإسلاميين إلى زيادة نقمته على نظام يواجه عزلة دولية ديبلوماسية واقتصادية خانقة بسبب تأييده غزو الكويت واضطهاده الزنوج وتزوير الانتخابات وقمع معارضيه، مما قد يعجل الإطاحة به. ظهر قادة من بينهم الشيخ النووي، الزعيم السلفي المتشدد، وهم يعترفون بأنهم كانوا قاب قوسين أو أدنى من التحول إلى «سلفية مقاتلة» وعلى وشك إعلان «الجهاد»، وجاء في أكثر الاعترافات إثارة أنهم كانوا في صدد القيام بتدريبات على حمل السلاح والقتال والقيام بتفجيرات بإشراف ضابط استخبارات عراقي في دولة مجاورة. منذ ذلك الوقت، بدا أن تلك الضربة الأمنية الاستباقية قد أحدثت مفعولها في الساحة الإسلامية، فتراجعت التيارات المعتدلة وظهرت فجأة اتجاهات راديكالية جديدة كانت النواة الصلبة لها الزعامات السلفية التي تعرّض بعضها للاعتقال في 1994. ساهمت أزمات البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة والتأثر بالمحيط الإقليمي، كتأسيس «الجماعة السلفية الجزائرية للدعوة والقتال»، وظهور السلفية الجهادية في المغرب، ونجاح الجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر في تصدير تجربتها وتوسيع أنشطتها لتشمل بلدان الساحل الإفريقي الفقير، إضافة إلى متغيرات شرق أوسطية ودولية، من بينها، تأسيس تنظيم «القاعدة» الأم وهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) والحرب على أفغانستان والعراق وصعود حركة المقاومة الإسلامية «حماس» و «حزب الله»، إضافة إلى الفضائيات الدينية ووسائل الاتصال الحديثة كالانترنت، وخطاب التعصب والكراهية في الإعلام العربي وبعض منابر المساجد، في هيمنة الاتجاهات الراديكالية على الساحة الإسلامية، في تحول السلفية التكفيرية المتشددة وغيرها من «مجموعات العنف التي خرجت من العباءة السلفية»، بحسب المفكر الإسلامي الموريتاني محمد المختار الشنقيطي، من مجرد جماعة معزولة إلى تيار عريض تكتظ باحة مساجده ب «فتية» آمنوا بوجوب الجهاد تمهيداً للانقضاض على السلطة وإعلان قيام الدولة الإسلامية التي تطبّق الشريعة في موريتانيا. وحتى ظهور السلفية في موريتانيا، لم تكن مسألة السلطة حاضرة في الخطاب الديني الموريتاني التقليدي، إذ كانت مجرد شأن تدبيري فرعي اجتهادي في الفقه المالكي السنّي الشائع في البلاد. ومع نمو الأفكار السلفية المتطرفة في بيئة لم تكن أبداً حاضنة للغلو، أصبحت السلطة مسألة عقدية لا اجتهادية من الأصول لا من الفروع (الحاكمية). وضع ولد الطايع الإسلاميين في سلة واحدة ودأبت أجهزته الأمنية منذ العام 1994 على إرسالهم جميعاً للإقامة في السجون في شكل دوري، ونظر إليهم من دون تمييز كخطر استراتيجي على مستقبل النظام السياسي العلماني القائم وعلى أمن البلاد القومي. ويعتقد اسلم ولد المصطفى، الخبير في الجماعات المتشددة، أن أول تنظيم سلفي موريتاني مرتبط ب «القاعدة» أنشئ عام 2000، آنذاك أخذ اسم «المرابطون»، وبعد ذلك تغيّر اسمه وأصبح «الجماعة الموريتانية للدعوة والقتال» وفُكك هذا التنظيم في آذار (مارس) 2005 بعد اعتقال سبعة شبان كانوا عائدين من صحراء مالي ومن جنوبالجزائر، حيث تدربوا هناك مع «الجماعة السلفية للدعوة والقتال». قدمت الشرطة الموريتانية مشايخ السلفية الموريتانية الخمسة - الشيخ أمينو ورفاقه - في أيار (مايو) 2005 على أنهم «الزعامة الروحية» والمرجعية العلمية والفكرية والإيديولوجية للعنف الأصولي الناشئ، وجرى نعتهم في بيانات رسمية بأبشع النعوت وأبقي على ثلاثة منهم في السجن حتى بعد سقوط ولد الطايع في آب (أغسطس) 2005، قبل أن تتم محاكمتهم مع عشرات آخرين بتهمة «تأسيس جمعية أشرار» قامت بتجنيد مقاتلين شبان للقتال في العراق وأفغانستان، وتم الربط بين «المشايخ» ومجموعة من سبعة أشخاص وصفت بالعناصر الأكثر خطورة وضمت الناشط السلفي المثنى وآخرين تم اعتقالهم وهم يستعدون لتنفيذ هجمات إرهابية بعد أن تلقوا تدريبات في معسكرات الجماعة السلفية الجزائرية للدعوة والقتال وفق ما جاء في تقارير استخباراتية، وتم تحميل «المشايخ» في وسائل الإعلام المسؤولية الأخلاقية لانحراف مئات الشبان. كانت اعتقالات العام 1994 مؤشراً إلى بداية المواجهة مع الجماعات الإسلامية المتطرفة، بيد أن تنظيم «القاعدة» أنتظر مرور أكثر من عشر سنوات قبل أن يبدأ عملياته الدموية في موريتانيا بهجوم على قاعدة «لمغيطي» العسكرية شمال البلاد في حزيران (يونيو) 2005 وإن كان وجوده يعود إلى ما قبل هذا التاريخ. فمنذ نهاية العام 2003 بدأت الجماعة السلفية الجزائرية للدعوة والقتال التي تحولت إلى جناح للقاعدة في المغرب العربي في تجنيد مقاتلين موريتانيين للجهاد في العراق وأفغانستان ولتنفيذ عمليات في المنطقة. في فترة «الاحتقان» تلك الفاصلة بين أول ضربة أمنية للتيارات الإسلامية الموريتانية وأول «غزوة» باسم الدين راح ضحيتها جنود فقراء تركوا خلفهم أرامل وأيتاماً، احتدم الصراع بين الحكم والإسلاميين المعتدلين والمتطرفين، فاشتدت الرقابة على المساجد وعملت الحكومة بحزم على تجفيف منابع العمل الخيري والدعوي الإسلامي، ترافق ذلك مع تصعيد أمني، صعد معه نجم ولد أمينو والنووي والشاعر والمجلسي والشيخ الددو، الذين أصبحت مساجدهم قبلة للشبان المتحمسين في «صحوة» إسلامية «سلفية» وخصوصاً مسجد «ولد أمينو» في ضاحية «تنسويلم» الفقيرة في العاصمة نواكشوط. سعت السلطات الموريتانية في شتى الوسائل لمحاصرة الظاهرة السلفية ووأدها في المهد، وبالتزامن مع الحملات الأمنية شنت وسائل الإعلام الرسمية حملة شرسة على «الاسلامجية» الموريتانية وظهر فقهاء على شاشة التلفزيون وهم يحذرون الشبان من مغبة الانخراط في تنظيمات زعاماتها الروحية «خوارج» لا تعتنق العقيدة الاشعرية المالكية وتكفر المتصوفة وتنكر على مسلمي البلاد حقهم في الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف. احتكاكات تطورت إلى جدال عقدي وفكري بين السلفيين الموريتانيين وأتباع الطرق الصوفية المنتشرة في كل أنحاء البلاد والمؤيدة تقليدياً لكل الأنظمة التي تتعاقب على الحكم. بيد أن الأمر لم يرق أبداً إلى مواجهة بين الطرفين، ويعد الشيخ أمينو أكثر رموز السلفية الموريتانية حدة في مهاجمة الصوفية الموريتانية التي تنبذ العنف والتكفير. وأسهمت المعاهد الدينية بالإضافة إلى مساجد رموز السلفية العلمية في نشر الفكر السلفي على نطاق واسع وفي تكوين أول جيل من الطلبة السلفيين، ما ترتب عليه مظاهر جديدة في الحياة الموريتانية، كازدياد أعداد المنقبات والشبان الملتحين على الطريقة الأفغانية الذين يتقيدون بقواعد صارمة في الملبس والمأكل، وفي مقابل حلقات الذكر والأناشيد والموسيقى الدينية الخاصة ببعض جماعات الصوفية الموريتانية، ارتفع صوت «الجهاد». كانت تداعيات بداية المواجهة مع السلفية الجهادية، من خلال تنفيذ تنظيم «القاعدة» في بلاد المغرب الإسلامي أول هجوم دموي له في موريتانيا، كبيرة على المشهد الموريتاني. استنفار عسكري واستخباري وسياسي وإعلامي وحتى أخلاقي عكسته التعبئة العامة ضد العنف القادم بقوة الى شرائح واسعة من الموريتانيين الذين شكلت السلفية التكفيرية ممثلة في «القاعدة» تحدياً لمعتقداتهم. شظايا الهجوم على قاعدة «لمغيطي» العسكرية في نواكشوط، زعزعت في النهاية أركان نظام قوي حكم موريتانيا بيد من حديد أكثر من عشرين عاماً. ضباط الجيش الذين اجتمع بهم ولد الطايع عشية رحلته الأخيرة كرئيس إلى المملكة العربية السعودية وأمرهم بالتحرك لغزو «القاعدة» في عقر دارها في مثلث الموت الصحراوي، أطاحوا به لأنهم لا يريدون الزج بهم في حرب جديدة في الصحراء. وكما أطاحت حرب الصحراء الغربية بأول رئيس مدني للبلاد، المختار ولد داداه، ذهب التحضير لحرب في صحراء المجابات الكبرى بولد الطايع ولم يتطلب الأمر أكثر من مذيعة سمراء جميلة قرأت البيان الرقم واحد في التلفزيون وعشر سيارات «تويوتا» قطعت بعض الطرق وأغلقت منافذ المراكز الحيوية في وسط المدينة وفوقها جنود وقاذفات «آر بي جي». احتفلت «القاعدة» في معسكراتها بالصحراء واحتفل معتقلوها في السجن بسقوط حاكم درجت على تسميته ب «الطاغوت». أجواء الانفراج التي أعقبت الإطاحة بولد الطايع ساهمت إلى حد ما في تهدئة غير معلنة بين موريتانيا وتنظيم «القاعدة» الذي قتل 15 عسكرياً موريتانياً وجرح عشرات آخرين «تقرباً إلى الله» في غارة صباحية انتقاماً للعلماء والدعاة والأئمة المسجونين. أفرج العسكريون الذين استولوا على السلطة خلال الساعات التي قضاها ولد الطايع في الجو بين العاصمة السعودية الرياض ومدينة نيامي عاصمة النيجر، عن عشرات المعتقلين الإسلاميين ومن بين من تم الإفراج عنهم عالم الدين الشاب الشيخ الددو الذي أهين في السجن وتمت معاملته بقسوة. وجد النظام الجديد أن لا شيء في محاضر الشرطة إضافة إلى التحريات التي قام بها قادة الأمن والمخابرات الجدد يثبت تورط الشيخ الددو في أعمال إرهابية أو صلته بالجهاديين التكفيريين، لذلك أطلِق مع معتقلين معظمهم ينتمي إلى تيار الأخوان المسلمين المعتدل فيما أبقي بقية شيوخ السلفية العلمية المجلسي والنووي والشاعر والشيخ أمين رهن الاعتقال. بعد خروجه من السجن دأب الشيخ الددو الذي يحظى باحترام واسع في موريتانيا على إدانة كل الهجمات الإرهابية وأفتى بحرمة قتل السياح الأجانب أو خطفهم وهو اليوم المحاور الرئيس للجماعات التكفيرية في السجن وقد تم اختياره نظراً لقدرته على التأثير في أوساط المتطرفين لسمعته العلمية كعالم دين بارع. وباستثناء المجلسي خرج جميع مشايخ السلفية العلمية من السجن وقد اضافتهم السلطات الحالية إلى لجنة العلماء المشرفة على المراجعات الفكرية بعد إعلانهم نبذ العنف والتكفير وبراءتهم من الإرهابيين وإدانتهم جرائمهم. ويعتقد الصحافي الموريتاني يعقوب ولد باهداه الذي يتابع مسار الجماعات المتطرفة في بلاده منذ سنوات أن تنظيم «القاعدة» في موريتانيا هو الذي «استفاد من تلك الهدنة، فقد أعاد تنظيم صفوفه، وقام بتشكيل خلايا جديدة بعد أن تم تفكيك الشبكة قبل الانقلاب على ولد الطايع». وباستثناء مناوشات خفيفة بين أفراد من الشرطة ومتطرفين بعد محاولتهم اعتقال ثلاثة شبان قالت السلطات إنهم عادوا للتو من شمال مالي والجزائر حيث تلقوا تدريبات في معسكرات تابعة للقاعدة، مرت فترة العقيد علي ولد محمد فال في السلطة من دون تنفيذ عمليات مميتة للقاعدة مثل تلك التي ستحدث لاحقاً. الشبان الثلاثة الذين تم اعتقالهم هم سيدي الطاهر ولد بي المثنى والطيب ولد السالك صهيب والشيخ الخوماني وقد وجهت اليهم تهمة المشاركة في الهجوم الدامي الذي استهدف قاعدة «لمغيطي» وتم تصنيفهم من أجهزة الأمن ضمن العناصر القاعدية الأكثر خطورة في البلاد. ومع بداية التناوب الديموقراطي وانتخاب سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله التكنوقراطي السبعيني المدعوم من قادة الجيش رئيساً لموريتانيا شهدت البلاد تصعيداً إرهابياً غير مسبوق، على رغم أن ولد الشيخ عبدالله المنحدر من مشيخة صوفية اظهر ليونة في التعاطي مع التيار السلفي، فحاور علماء السلفية العلمية، كما أمر بإنهاء مشكلة من تبقى منهم في السجون، وتسريع إجراءات المحاكمة. وإثر استراحة محارب قصيرة نفذ سيدي ولد سينا ومحمد ولد شبارنو، إضافة إلى أمير الكتيبة معروف ولد الهيبة أول عملية تستهدف السياح الأجانب القادمين الى موريتانيا، فقتلوا ثلاثة سياح فرنسيين بدم بارد بالقرب من مدينة «ألاك». صدم ولد الشيخ عبدالله لبشاعة الهجوم، وانهارت صناعة السياحة الناشئة في البلاد، وبدا أن موريتانيا التي كانت تطمح في أن تصبح وجهة سياحية واستثمارية جذابة قد انحدرت نحو العنف. لم تكن موريتانيا قد خرجت من هول صدمة مقتل السياح الفرنسيين، لتفاجأ بهجوم إرهابي دموي آخر في السابع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر)، إذ هاجمت الجماعة السلفية الجزائرية للدعوة والقتال قاعدة «لغلاوية» العسكرية شمال البلاد، وأسفر الهجوم عن مقتل ثلاثة جنود. انزلقت موريتانيا أكثر نحو العنف الأعمى مع تصميم تنظيم «القاعدة» على توسيع عملياته لتشمل بلدان الساحل الإفريقي، ففرض مقتل السياح تحديات جديدة على الحكم المدني الديموقراطي. تسارعت وتيرة العمليات الإرهابية في شكل سريع بعد ذلك، ونقلت «القاعدة» معركتها إلى قلب العاصمة نواكشوط، مسرح العملية الجديدة في «تفرغ زينة» الحي الراقي الذي تقطنه البرجوازية الجديدة ونخبة المجتمع والديبلوماسيون الأجانب. هاجم مسلحون سلفيون مدججون بالسلاح السفارة الإسرائيلية في نواكشوط في بداية شباط (فبراير) 2008. وخيّم شبح «القاعدة» على موريتانيا وبدا أن ما هو آت ربما سيكون أسوأ، وفرضت المواجهة المفتوحة مع خلايا «القاعدة» النائمة على السلطات عسكرة الشارع وتدابير أمنية حازمة. وكان على الموريتانيين أن يتعايشوا مع الحواجز ونقاط التفتيش الكثيرة ومع الوجود الأمني المكثف في الشوارع في انتظار بقية المشهد، أي دوي الانفجارات، أو تبادل كثيف لإطلاق النار، وسقوط القتلى والجرحى. سيبقى السابع من نيسان (ابريل) 2008 لفترة طويلة في ذاكرة ساكني العاصمة الموريتانية حيث دشن فيه فصل جديد من فصول «الرعب القاعدي» الذي لا يخلو هذه المرة من بعض الإثارة. فقد طوقت الشرطة منزلاً غرب نواكشوط تحصن فيه مسلحون سلفيون من بينهم «أمير» جناح «القاعدة» في موريتانيا الخديم ولد السمان، ولم ينتظر السلفيون كثيراً، كانوا مسلحين في شكل جيد، فأطلقوا نيراناً كثيفة على رجال الشرطة الذين حاولوا اقتحام المنزل، وجاءت تعزيزات من الحرس والدرك ومن كتيبة الأمن الرئاسي القوة الضاربة في الجيش. حصيلة المواجهات ثلاثة قتلى بينهم متطرفان وضابط شرطة إضافةً إلى تسعة جرحى. وفي النهاية وبعد مطاردات ومواجهات في أماكن متفرقة من العاصمة وجهت السلطات الموريتانية ضربة موجعة إلى الجماعات المسلحة، إذ تمكنت من توقيف عدد من أبرز المطلوبين في قضايا الإرهاب دفعة واحدة، وكان من بين الموقوفين سيدي ولد سيدينا المتهم الرئيس في قضية مذبحة السياح، والخديم ولد السمان رئيس تنظيم «أنصار الله المرابطون في بلاد شنقيط» – جناح القاعدة الرئيسي في موريتانيا - وقائد الهجوم على السفارة الإسرائيلية. وتمت الاعتقالات إثر عملية أمنية دقيقة في ضاحية «عرفات» الفقيرة جنوبنواكشوط، وتبادل الموريتانيون التهاني بنصف انتصار آخر في المعركة مع «القاعدة» وأخواتها، فقد تم نهائياً تفكيك الخلية المسلحة التي صنعت الرعب والموت في بلد كان نسبياً في منأى عن الأعمال الإرهابية إلى وقت قريب. ويلاحظ أسلم ولد مصطفى أن السلطات تمكنت على اثر تلك العملية «من تفكيك تنظيم سلفي جهادي له كل الآليات اللازمة لذلك، أي أن له «أميراً» وهو الخديم ولد السمان وهذا التنظيم اسمه «أنصار الله المرابطون في بلاد شنقيط»، ويبدو أن له على غرار الجماعات المقاتلة مجلس شورى مجاهدين محلياً»، فيما يعدد محمد ولد عبدي الخبير الأمني أهم الأسباب التي أدت في رأيه إلى اهتمام «القاعدة» بالانتشار في موريتانيا: «أولاً اتساع مساحة هذا البلد يخول لها الحركة بسهولة وعدم التحكم والسيطرة عليها، ثانياً حصار هذه الجماعات في المغرب وفي الجزائر أدى الى اختيارها موريتانيا ملاذاً». سيطر الهاجس الأمني على نظام ولد الشيخ عبدالله، وخلال أسابيع أصبحت المشكلة الأمنية تتصدر أجندة الحكومة، وبدأ نجم «الكولونيلات» الذين أصبحوا جنرالات في الصعود. ربط الكثير من المحللين والمراقبين السياسيين بين سقوط ولد الشيخ عبدالله في انقلاب عسكري وتراخيه في مواجهة «الاسلامجية» المحلية، فيما ذهبت بعض قوى المعارضة إلى اتهام فرنسا علناً بالتورط في الانقلاب وتنصيب ولد عبدالعزيز دركياً لها في الصحراء. ومنذ انتخابه في اقتراع نظم إثر اتفاق سياسي ابرم في داكار بين الانقلابيين السابقين ومعارضيهم للخروج من الأزمة السياسية والدستورية أصبح ولد عبدالعزيز حليفاً مهماً للغرب في المواجهة مع «القاعدة»، فأضاف إلى وحدات الجيش وحدة جديدة خاصة بمكافحة الإرهاب وأكد تصميمه على دحر المتطرفين المسلحين والقضاء عليهم، ويقول مقربون من ولد عبدالعزيز انه شرع في إدخال إصلاحات أمنية وقضائية واسعة تشمل إعادة تنظيم قوات الجيش والأمن لجعلهما قادرين على مواجهة المقاتلين المتعصبين والوفاء بالتزامات دولية في مواجهة الإرهاب. وأثارت تعديلات أقرتها حكومة ولد عبدالعزيز على قانون مكافحة الإرهاب عكست توجه الحكم الجديد نحو المزيد من التشدد والحزم في مواجهة الإرهابيين المفترضين جدلاً واسعاً في موريتانيا فيما احتدم نقاش حولها في البرلمان بين نواب المعارضة والغالبية الحاكمة، وانتقدت المعارضة الموريتانية هذه التعديلات في شدة، وشدد احمد ولد داداه زعيم اكبر أحزاب المعارضة على أنها تعيد البلاد إلى عهد الأحكام الاستثنائية وتعزز «ديكتاتورية الجنرال محمد ولد عبدالعزيز» الذي يرفض الاعتراف بشرعية انتخابه رئيساً للبلاد. لم تتوقف هجمات «القاعدة» في موريتانيا منذ وصول ولد عبدالعزيز إلى السلطة في انقلاب عسكري قبل حوالى ثمانية عشر شهراً، ومنذ أيامه الأولى في الحكم ناصب الجنرال السابق السلفيين الجهاديين العداء، بيد أن سحقهم نهائياً قد يتطلب في رأي الخبراء الأمنيين وقتاً أطول من مرحلته الرئاسية الحالية. استأنف تنظيم «القاعدة» عملياته في موريتانيا في عهد ولد عبدالعزيز بنصب كمين لدورية من الجيش في منطقة «تورين» شمال شرقي مدينة «ازويرات» المنجمية، وأدت العملية إلى مقتل إثني عشر عسكرياً، وتزامن انتخاب الجنرال المستقيل رئيساً لموريتانيا مع عملية إرهابية جديدة تبنتها «القاعدة» قتل فيها أميركي يعمل في جمعية إنسانية على بعد أمتار من وسط العاصمة على يد مقاتلين سلفيين شبان جندهم تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». ومع تنامي الخطر القاعدي في المنطقة، تحاول موريتانيا تأمين حدودها الطويلة مع الجزائر ومالي ومناطق واسعة في الشمال غنية بالنفط والحديد وتنشط بالقرب منها الجماعات الإرهابية وعصابات تهريب السجائر والمخدرات. وعلى رغم نشر آلاف الجنود وتحديد منافذ برية إجبارية للدخول إلى البلاد، تمكن مقاتلو «القاعدة» من اختراق الحدود إلى العمق الموريتاني أواخر العام المنصرم لتنفيذ هجمات جديدة، ووجهت «القاعدة» أقسى ضرباتها للحكم الحالي عندما تمكنت من قطع طريق ساحلي حيوي يربط بين مدينة «نواديبو» في الشمال والعاصمة نواكشوط وخطف ثلاثة موظفي إغاثة إسبان كانوا يوزعون مساعدات غذائية وطبية على قرى الصيادين الفقراء الممتدة على شاطئ المحيط الأطلسي. ومن أقصى غرب البلاد إلى أقصى الجنوب الشرقي امتدت عمليات الخطف والسطو القاعدي، ففي وقت لاحق خطف إيطالي وزوجته وهما يستعدان لعبور الحدود إلى جمهورية مالي، وعلى رغم إرسال مئات الجنود والمخبرين وأدلاء البدو لتعقب الإرهابيين في عمليات بحث وتمشيط واسعة في الصحراء، وصل «المجاهدون» ومعهم «الأسرى النصارى» إلى معسكرات «القاعدة» في مثلث الموت الصحراوي عبر مسالك وعرة في الصحراء بات الجيش الموريتاني عاجزاً عن السيطرة عليها. وتقوم وحدات من الجيش الموريتاني بدوريات مكثفة في منطقة حوض تاودني حيث تقوم المجموعة الفرنسية العملاقة «توتال» بعمليات تنقيب وحفر متقدمة لاستخراج النفط وسط مؤشرات على وجود احتياطات ضخمة في المنطقة القريبة من الحدود مع الجزائر، ويتهم ناشطون من المعارضة الموريتانية الشركة الفرنسية وشبكة المنافع المافيوية «فرانس أفريك» بالتورط في آخر الانقلابات لتأمين مصالحها في موريتانيا التي حافظت على وجه الحياة العبوس فيها على رغم مرور أربع سنوات على بدء تصدير النفط بمعدل يتراوح بين عشرة آلاف برميل إلى خمسة وسبعين ألف برميل في اليوم من حقل بحري «أوف شور» جنوب غربي نواكشوط في عمق الأطلسي. وتوقع تقرير صدر في إسبانيا أخيراً أن تضعف الأعمال الإرهابية نظام الرئيس الحالي محمد ولد عبدالعزيز، وقال التقرير الصادر عن معهد «رييل أنستتو ألكاتو» إن «الإرهاب يشكل خطراً لا يمكن التكهن بنتائجه على الحكم الحالي» ويربط التقرير بين تصعيد «القاعدة» هجماتها ضد موريتانيا واعتبار التنظيم المتشدد ولد عبدالعزيز «عميلاً للقوى الغربية»، ويربط محللون موريتانيون وأجانب بين سقوط رئيسين سابقين لموريتانيا – هما معاوية ولد الطايع وسيدي محمد ولد الشيخ عبدالله - وتنامي أنشطة «القاعدة»، ويبدي هؤلاء خشيتهم من ان تخطط «القاعدة» لتنفيذ انقلاب في بلد مضطرب يسود فيه استقرار سياسي هش منذ الاتفاق على إنهاء الأزمة الدستورية بانتخابات توافقية طعنت المعارضة في نزاهتها. وفيما يعلق الموريتانيون آمالاً كبيرة على المراجعات الفكرية الجارية حالياً في السجن لإنهاء عنف «القاعدة» مع إعلان العالم السلفي الشيخ محمد الحسن ولد الددو المفاوض الرئيس للجهاديين المسجونين توبتهم وتخليهم عن «القاعدة»، يرجح أكثر المراقبين تفاؤلاً أن تسفر المراجعات عن تهدئة غير معلنة لفترة محدودة والإفراج عن قيادات قاعدية في السجن مقابل تحرير الرعايا الغربيين المخطوفين.