بين الظواهر التي باتت حدثاً "عادياً" على خريطة العراق الممزق بصراعات الداخل والخارج، و "الحلفاء" و"الأوصياء"، ان ما تحصده المذبحة الكبرى من أرواح المدنيين يتضاعف، كلما جاهر الأميركيون بتحقيق نجاح ما في خفض معدلات القتل والإرهاب. وفيما سقوط 500 قتيل وجريح في 24 ساعة، سيحرم الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أي قدرة على ادعاء الالتزام بوعود، ربما للمرة الخمسين بعد المئة، يفقد الأول تدريجاً أي أمل بالرهان على السلطات العراقية لتخفيف وطأة ضغوط الديموقراطيين في الولاياتالمتحدة، لإحياء خيار سحب القوات من العراق. اما الثاني فيدرك ان الدعم الأميركي تقضمه سريعاً تدخلات الخارج، ويتحول مجرد"شاهد"امام صراع الميليشيات والعصابات. ومن دون العودة الى دور الاحتلال"الشاهد"على نحو عشر حروب تخاض على أرض العراق وبدماء أبنائه، وبادعاءات زور لا تتبدد سريعاً مثلما انهارت أكذوبة الديموقراطية المحمّلة على الدبابات الأميركية... يجدر البحث مجدداً في قدرة القيادات العراقية على تحرير نفسها من صغائر السياسات المرحلية، وعلى تحديد العدو. فالحال ان مشهد المذبحة الكبرى لا يضيف جديداً الى تلك الحروب، باستثناء تكبير أرقام الضحايا، ومعظمهم بالطبع ليسوا اميركيين ولا إيرانيين ولا سوريين أو أتراكاً، بينما رموز الحكم في العراق عاجزة عن تسمية الدول والأطراف التي تهرّب السلاح الى الداخل، وتضخ دماء في طاحونة القتل والإرهاب... وتقوي ميليشيات الحقد الطائفي - المذهبي. ومع كل ذلك"تغار"على استقرار البلد الذي تحمّل الأميركي وحده مسؤولية ضياعه. وإذا كان أبسط الحقائق التي تظهرها جولات الحروب على أرض العراق الآن، هو فشل كل المؤتمرات ومحاولات إغلاق الحدود في وجه التكفيريين والإرهابيين وتهريب السلاح الى الميليشيات، فبين الوقائع ايضاً عجز السياسيين عن تبرير مواقف جيران أصدقاء أو حلفاء، لطالما استقبلوهم بالعناق والوعود مرات. وحين يقول الرئيس جلال طالباني ان طهران"تستطيع مساعدتنا في إسكات الميليشيات المتعاونة معها"، ففي ذلك فعل إدانة لإيران التي تشد أزر"جيش المهدي"وهو يقاتل الشرطة العراقية. لكن الأهم في ما لم يقله طالباني بصيغة أخرى، وهو لماذا يمتنع الإيرانيون عن المساعدة في تقوية مشروع الدولة في بغداد. بعض الجواب فقط، والذي يحول دون"كسب سورية وإيران"، ان صراع ما يسمى محور طهران - دمشق مع واشنطن ما زال يتأرجح بين مد وجزر، وكلما انتكست محاولات فتح خطوط حوار بين الجمهورية الإسلامية والولاياتالمتحدة بدت تجليات"الحرس الثوري"وحلفائه العراقيين أقوى... وكلما شددت إدارة بوش ضغوطها في الملف النووي الإيراني، جاء الرد بمزيد من العنف والقتل في الساحات المباحة، من البصرة الى كركوك. وبعض الجواب ايضاً ان لا إجماع لدى بعض دول الجوار، على إنقاذ وحدة العراق، طالما نار الإرهاب تحرق العراقيين وحدهم، وأن خرائط النفوذ الإقليمي الجديدة لم يكتمل رسمها بعد. لعل بين مظاهر تعثرها، انتكاسة"وساطة"بغداد لتسريع الحوار الأميركي ? الإيراني الذي ظاهره ضبط أمن العراق، وباطنه محاولة استكشاف الخصمين ما يلبي مصالحهما في أي صفقة. وإذ تتضخم ورطة بوش في فيتنام الثانية، ويسمع في اميركا همس المطالبين بإقالته، لا يبدو ان المالكي قادر على رفع سيف المهل والإنذارات الأميركية، لعجز حكومته عن تقديم ما يمكّن الاحتلال من ادعاء أي جدوى للعمليات العسكرية في مواجهة"القاعدة"والبعثيين والتكفيريين والميليشيات، ولأي"مصالحة"بل ان في مشروع التعديل الوزاري لحكومة المالكي مغامرة قد تشرذم الكتل السياسية نحو الفراغ، في غياب التوافق، فيما الصراع الشيعي - الشيعي مرشح لجولات عنف، والانتصار على"امارات"القاعديين ومشاريعهم أبعد مما"يحلم"الأميركي به. في الجوار، لكلٍ حساباته، ولا ينسى الأتراك بالطبع ان أكراد العراق لن يتخلوا عن حسم مصير كركوك هذه السنة. مشروع حرب أخرى إذاً، فوق الحروب العشر في بلد فقدت فيه الأرقام معناها، ولو كان الضحايا بمئات الألوف.