لم تعرف مجالس لبنان النيابية منذ صدور دستور 1926، ارتباكاً في حجم الارتباك الذي يتعرض له البرلمان الحالي. ومع أن رئيس المجلس نبيه بري حاول تجنب السيناريو التصادمي عن طريق تجاوز عقدة حكومة الوحدة الوطنية، إلا أن اغتيال النائب الكتائبي انطوان غانم، اغتال أيضاً مبادرة الانفراج التي طرحها بري. علماً بأنها حصدت تأييد غالبية الدول الخارجية بما فيها ايران، اضافة الى القوى المحلية وفي طليعتها مجلس المطارنة الموارنة. والملفت ان سورية تنصلت من مسؤولية التنسيق معها، وأعلنت ان مبادرة بري"لبنانية صرفة"، وأنها تحمل عنصراً ايجابياً يتحدث عن أهمية التوافق. لهذا وجدت فيها واشنطنوباريس والرياض والقاهرة، موقفاً جديداً يعوض عن غياب طاولة الحوار وحكومة الوحدة الوطنية. ثم جاءت عملية اغتيال النائب الرابع في كتلة قوى 14 آذار، لتخفض نسبة الأكثرية. وليد جنبلاط ومروان حماده وسعد الحريري، لم يخفوا قناعتهم بأن الأجهزة السورية المزروعة في لبنان قبل سنة 2005، هي التي تتولى تصفية نواب الأكثرية بالتعاون مع جهاز محلي يملك عناصر في مطار بيروت، وحجة جنبلاط ان توقيت اغتيال النائب جبران تويني والنائب انطوان غانم، حدث عقب مرورهما في المطار، الأمر الذي يشير الى وجود"مخبر"على صلة بفرق الموت. والملفت ان اشاعة واسعة تناقلتها وسائل الإعلام تحدثت قبل فترة عن اختفاء النائب الكتائبي غانم بسبب المرض. لذلك اضطر الى تكذيب هذه الاشاعة والاسراع في العودة من دولة الاماراتالمتحدة بحيث سهلت عملية قتله. ويستنتج من كل هذا، ان غانم كان على قائمة التصفية منذ أكثر من شهر، وان نشر اشاعة مرضه كان وسيلة تحريض ساعدت المخططين على تنفيذ برنامجهم. ويتردد في بيروت ان عشرة نواب ممن يتوقع الناس اغتيالهم قد لجأوا الى فندق"فينيسيا"لضمان الوقاية من الاغتيال. وكان هؤلاء النواب مع عشرين آخرين قد هربوا الى القاهرة ودبي وباريس حفاظاً على حياتهم بعد توزيع قائمة ظهرت فيها اسماؤهم. وهي شبيهة بالقائمة القديمة التي نشرتها الصحف منتصف السبعينات قبل اغتيال الزعيم كمال جنبلاط 1976. ولجوء العميد ريمون اده الى مصر ومن ثم الى باريس. المصادر القريبة من سورية و"حزب الله"وميشال عون، تنفي ضلوع دمشق في عمليات اغتيال النواب، وتثمن موقف الشيخ أمين الجميل الطامح الى الرئاسة، واعتماده على المحاكم المختصة في اظهار الحقيقة. وهي تذكر بأن الخلافات اللبنانية - اللبنانية كانت وراء محاولة اغتيال العميد اده على أيدي كتائبيين، وأن هذه الخلافات ترجمت الى قصف مدفعي وأعمال قنص أثناء انتخاب الرئيس الياس سركيس. وفي انتخابات 1982 اضطر الرئيس كامل الأسعد الى نقل مكان الجلسة من قصر منصور الى ثكنة الفياضية، مبرراً ذلك بأسباب أمنية. وبسبب تهديد العماد ميشال عون النواب المسيحيين، توجه النواب الى مطار القليعات - عبر دمشق - أثناء انتخاب الرئيس رينيه معوض سنة 1988. وعقب اغتيال معوض لأسباب يرجعها أنصاره الى اصراره على اشراك ميشال عون في الحكومة، قرر الرئيس حسين الحسيني اجراء الانتخاب في فندق"بارك اوتيل"في شتورا سنة 1989. تسوق المعارضة هذه الأمثلة لتبرئ سورية من اتهامات الاغتيال، وتقول ان الخلافات المحلية هي التي تحصد الشخصيات السياسية المعادية لهيمنة النفوذ السوري في لبنان. ومعنى هذا ان وسائل التنفيذ تبقى لبنانية ولو ان النتائج تخدم مصالح سورية. جماعة 14 آذار ترفض الأخذ بهذا المنطق، لأن دمشق في نظرها، تعيش مرحلة الحنين الى لبنان، تماماً مثلما عاشت القاهرة خمس سنوات في هاجس العودة الى سورية عقب انفصال دولتي الجمهورية العربية المتحدة. ويستند نواب الأكثرية في تحليلهم الى وقائع حصلوا عليها من طهران، مفادها ان سورية لا تتدخل في سياسة ايرانالعراقية مقابل عدم تدخل ايران في سياسة سورية اللبنانية. ويتردد في دمشق ان هذه السياسة الثابتة عممت على كل الدول، أجنبية كانت أم عربية، بدليل ان سورية هي التي رفضت وساطة فرنسا، مثلما رفضت وساطة السعودية، أو حتى مجرد التنسيق معها، بحيث تبقى وحدها صاحبة الكلمة الأخيرة في لبنان. وهذا ما لمسه أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى، الذي أعلن اثناء وجوده في بيروت ان"لبنان يظل مسؤولية عربية". وكان بهذا الكلام يؤشر الى تدخل ايران، والى ضرورة تدخل مصر والسعودية والاردن، ومختلف دول الجامعة العربية التي ساهم لبنان في تأسيسها. وترى جماعة 14 آذار ان الطوق السوري حول لبنان اتسع ليشمل الفاتيكان على أمل تغيير نظرة البابا بنديكتوس السادس عشر الى الدور الذي تقوم به دمشق. لذلك حرص نائب الرئيس السوري فاروق الشرع على توقيت زيارته للحاضرة الرسولية أثناء الزيارات التي قام بها البطريرك الماروني نصرالله صفير ووزير خارجية السعودية الأمير سعود الفيصل ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة والسفير الفرنسي كلود كوسران. ومع أن دور الفاتيكان يقتصر على تكرار التوجهات التقليدية المعنية بشؤون أكثر من 16 مليون مسيحي في الشرق الأوسط، إلا أن موارنة لبنان يظلون يحظون باهتمام خاص. وضمن صيغة العيش المشترك، بادر البابا إلى تأييد لغة الحوار ومنع موقع الرئاسة من الانزلاق نحو مستوى لا يليق بطائفة حافظت على اصول الديموقراطية وعلى اللغة العربية في أحلك الأوقات وأكثرها ظلماً وظلامة. وأعرب عن اهتمامه بوضع المسيحيين الذين تعرضوا للانتقام والتشريد في العراقولبنان، متمنياً عودة مئة ألف مسيحي غادروا الى الخارج خلال السنوات الثلاث الأخيرة من عهد اميل لحود. وكان واضحاً من طرحه هذه المسألة، أن البابا أطلع على وثيقة أعدتها مؤسسة مسيحية أثبتت تفريغ لبنان من هذه الطائفة بشكل منهجي. وتذكر الوثيقة أن هذا التفريغ يأتي ضمن خطة شاملة بدأت آثارها تظهر في العراق. وحول هذه النقطة بالذات، تحدث فاروق الشرع عن دور بلاده في احتضان المسيحيين المهجرين من العراق، وعن الضوابط المحلية التي يستخدمها النظام من أجل منع النزاعات الطائفية والمذهبية. وقالت مصادر سورية رسمية إن الشرع أشار إلى تطابق النظرة السورية مع رؤية البابا في أن يكون الرئيس اللبناني المقبل لجميع اللبنانيين، وأن يتم الاستحقاق ضمن المهلة الدستورية المحددة. وأشارت المصادر إلى أن البابا تحدث"عن الظروف الحساسة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، وعن ضرورة بذل الجهود كي يتم تجاوز هذه الأوضاع الصعبة". يجمع السياسيون في لبنان على القول إن القنبلة التي أودت بحياة النائب الكتائبي انطوان غانم، أصابت بشظاياها أهدافاً عدة، فقد اغتالت مبادرة نبيه بري لأن التوافق لم يعد مطروحاً في ظل المواجهة القائمة بين جماعة 8 آذار وقوى 14 آذار. كذلك بررت تغيب النواب الذين سيتهربون يوم الثلثاء المقبل من مهمة الانتخاب بحجة الخوف من القتل وهم في الطريق إلى أداء الواجب. وبما أن فترة تعديل الدستور لصالح موظفي الفئة الأولى مثل قائد الجيش العماد ميشال سليمان وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، قد انقضت من دون تعديل، فإن الدستور يطلب من كل نائب ممارسة دوره الانتخابي خلال الشهرين المقبلين. ويلحظ الدستور في دور النائب مهمات عدة بينها: الدور المالي في إقرار الموازنة، والدور التشريعي في صوغ القوانين، والدور السياسي في مراقبة الحكومة، والدور القضائي في محاكمة الرؤساء والوزراء. أما انتخاب رئيس الجمهورية فيتقدم على سائر الأدوار، لأنه يمثل كل الطوائف وكل الأحزاب وكل المناطق في اختيار رئيس للجمهورية. تقول مصادر وزارة الداخلية انها تتوقع اغتيال ثلاثة نواب خلال الشهرين المقبلين لأن جلسات المجلس ستظل مفتوحة الى حين انتهاء مدة الرئيس لحود. وهي تعرف اسماء المرشحين للقتل بدليل انها انذرتهم وطلبت منهم البقاء خارج البلاد الى حين التأكد من جلسة الاستحقاق. وربما تعدل الأجهزة المكلفة بهذه المهمة الدموية عن تنفيذ عملياتها، إذا اقتنع الوزير محمد الصفدي بالانحياز مع كتلته الى قوى 8 آذار. وربما ساورته الشكوك في صدقية العرض السوري بعدما رأى فاروق الشرع يستقبل منافسه على منصب رئاسة الحكومة عبدالرحيم مراد. ومن المؤكد ان دمشق ستهتم بانتقاء رئيس الحكومة المقبل أكثر من اهتمامها بانتقاء رئيس الجمهورية. والسبب ان الفراغ السياسي الذي سيحدث بعد انتهاء مدة لحود، سيملؤه مجلس الوزراء مجتمعاً. من هنا التركيز على اسقاط حكومة السنيورة في المجلس النيابي، بعد ضمان غالبية توفرها كتلة الصفدي وايلي سكاف. أما في حال تعذر هذا الأمر، فإن حكومة انتقالية برئاسة مراد جاهزة لأن تتشكل من سبعة وزراء مدنيين يمثلون الطوائف الأساسية، وتنحصر مهمتها في وضع قانون انتخابي يكون مقبولاً من الجميع، واجراء انتخابات نيابية على اساسه، وإلغاء المحكمة الدولية مع كل ما صدر عنها من التزامات معنوية ومادية. وهذا معناه ادخال لبنان في النفق الفلسطيني عن طريق ايجاد حكومتين وتيارين وسياسيتين وقضيتين وشرعيتين. وهذا ما يفسر خروج نواب الشيعة من حكومة السنيورة، كما يفسر ضغط سورية لفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية بحيث تم وأد كل مشاريع السلام التي جاءت كوندوليزا رايس كي تحييها قبل اتخاذ قرار الحرب! * كاتب وصحافي لبناني