كرّر على مسامعي صبيحة يوم الأحد احد العارفين بالتراث العربي بيت الشعر الآتي: أَلْهى بني تغلب عن كل مكرمةٍ قصيدة قالها عمرو بن كلثوم وكان يقصد بذلك ان اللبنانيين بالغوا في تقدير اهمية الانتخابات الفرعية في منطقة المتن الشمالي بلبنان. وتراوحت هذه"المبالغة"في نظر الصديق بين أمرين اثنين: مرة باعتبار المسيحيين اللبنانيين أنفسهم أهل البلاد وأصولها، ومرة باعتبار المنافسة بين الرئيس أمين الجميل والعماد ميشال عون على المقعد النيابي في المتن جزءاً من المواجهة بين الولاياتالمتحدة والعرب من جهة، وإيران وسورية وأنصارهما من جهة أخرى! والواقع أنّ حَدَثَ الانتخابات الفرعية بحد ذاته ذو قيمة صغيرة في يوميات الأزمة السياسية المتفاقمة بالبلاد على مشارف الانتخابات الرئاسية. فهو أياً تكن نتيجته لن يغيّر من علاقات القوة بين ما يسمّى بالأكثرية الموجودة في الحكومة والمعارضة الشيعية التي انسحبت منها. ثم إنه لن يغيّر في علاقات القوة في انتخابات رئاسة الجمهورية إنْ أجريت بعد ثلاثة أشهر، لأن الأطراف المشاركة في الحكومة لا تزال تملك أكثرية خمسة أو ستة نواب مقارنة بالمعارضة الشيعية مضموماً إليها نواب التيار الوطني الحر بزعامة العماد ميشال عون. إنما أرادت قوى 14 آذار مارس المشاركة في الحكومة اللبنانية الحالية من وراء الإصرار على انتخاب خَلَفٍ للنائبين المغتالين بيار أمين الجميل من دائرة المتن، ووليد عيدو من دائرة بيروت الثانية التصدي لتحدّيين اثنين: منع استمرار القتل في صفوفها من اجل إفقادها الأكثرية، وإثبات ان الجمهور المسيحي ما عاد مع العماد عون، بل مع قوى 14 آذار. في التحدي الأول كان القصد تفويت الفرصة على القتلة إذ كلما قتل نائب يمكن انتخاب بديل له على ما في تلك اللعبة من قسوة هائلة في الجانبين. وفي التحدي الثاني، إرادة إثبات على مشارف انتخاب الرئيس الماروني في مجلس النواب ? ان تيار العماد عون، والذي يستأثر بثلثي التمثيل المسيحي في مجلس النواب، ما عاد هو الأول في أوساط الجمهور المسيحي. وفي هذين التحديين انحسم الأمر لمصلحة قوى 14 آذار، وإن يكن هناك احتمال ان يكون مرشح العماد عون فاز بفارق مئات قليلة من الأصوات. فقد نجحت الحكومة اللبنانية في إجراء الانتخابات الفرعية التي ما وافق عليها رئيس الجمهورية، ولا رحب بها رئيس مجلس النواب. كما ان 65 في المئة من الناخبين المسيحيين الموارنة والأرثوذكس صوّتوا للرئيس أمين الجميل ضد مرشح العماد عون. في حين انفرد مرشح عون بأصوات الناخبين الأرمن، الذين أعادوا إليه شيئاً من التوازن، وإن لم ينجحوا في تغطية تضاؤل شعبيته في أوساط طائفته المارونية التي هي الطائفة التي يُنتخبُ منها رئيس الجمهورية في العُرف اللبناني. ومرة أخرى، حتى مع صحة الأمرين اللذين ذكرتُهما، فإن أهمية الانتخابات الفرعية تبقى محلية في لبنان، فكيف إذاً بالمنطقة والعالم! لكن ينبغي قبل المضي بالمسألة الى نهاياتها تأمل السياقات التي أجريت فيها الانتخابات الفرعية، والسياقات الموازية التي تصاعدت على واقعها الأزمة السياسية اللبنانية. في السياق الأول: أجريت الانتخاباتُ الفرعية على مشارف انتخابات الرئاسة اللبنانية. والمسيحيون اللبنانيون هم الجماعةُ المسيحية الوحيدة في الشرق الأوسط التي بقي لها معنى سياسي، يتمثل في انتخاب رئيس الجمهورية منها تعبيراً عن دورها التاريخي في إقامة الكيان اللبناني، وتعبيراً عن قوتها الاقتصادية والإعلامية، وإشعاعها الثقافي في العالم العربي وفي العالم الأوسع. لكن كما تستمر أعداد المسيحيين في لبنان بالتضاؤل بسبب الهجرة، والتراجُع في الإنجاب، يتراجعُ دورهم السياسي لاستيلاء السوريين على رئاسة الجمهورية في كل عهد ما بعد الطائف 1990 - 2007. فقد فرض السوريون عام 1990 مرشحهم الرئيس الياس الهراوي لتسع سنوات بدلاً من ست، ثم فرضوا مرشحهم العماد إميل لحود لتسع سنوات بدلاً من ست ايضاً. ولأنهم استأثروا بصلاحياته في وصايتهم على لبنان، فقد انصرف الرئيسان الهراوي ولحود لمصارعة رئيس الحكومة اللبنانية السني على صلاحياته، فاضطربت العلاقات بين المؤسسات الدستورية، وازداد الخلل في النظام السياسي، وفي تطبيق الدستور. وقد بلغ من عُمق الأزمة، واهتمام المجتمع الدولي بها خشية أن يعود النزاع الداخلي المسلّح الى البلاد، أن اتخذ مجلس الأمن عام 2004 قراراً رقمه 1559، وعلى مشارف نهاية فترة الرئيس لحود الدستورية 6 سنوات يطلب فيه من السوريين مغادرة لبنان، وتمكين اللبنانين من اختيار رئيس جديد للجمهورية بحرية وبحسب الأصول الدستورية. وأصر السوريون على البقاء. لكن ليس هذا فقط، بل أصروا ايضاً على تعديل الدستور للمرة الثالثة أو الرابعة من اجل التمديد للرئيس لحود ثلاث سنوات أخرى، تنتهي آخر تشرين الثاني نوفمبر من السنة الحالية. وهكذا فإنه على مشارف نهاية عهد لحود الممدد يشتد الصراع على رئاسة الجمهورية اللبنانية، وليس بين المرشحين الموارنة فقط وبينهم عون والجميل، بل وبين قوى 14 آذار وهي تضم سنّة ومسيحيين ودروزاً، وقوى 8 آذار وهي تضم"حزب الله"وحركة أمل معظم الطائفة الشيعية، وأنصار العماد عون وحلفاءه من المسيحيين، والأحزاب والشخصيات الموالية لسورية. فعند اللبنانيين والمسيحيين على الخصوص فرصة بعد أكثر من ثماني عشرة سنة أن يستعيدوا رئاسة الجمهورية لتؤدي دورها الكبير في توازن المسيحيين، وتوازن النظام اللبناني كله. على ان ذلك لا يبدو سهلاً على رغم الخروج العسكري للسوريين من لبنان على اثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري في شتاء العام 2005. وهذا لا يعود الى المتغيرات في الاصطفاف السياسي الداخلي في لبنان وحسب، وبقاء النفوذ السياسي السوري ايضاً، بل وبسبب الاصطفافات والمواجهات في المنطقة، والتي صار لبنان احد ساحاتها المهمة. فإضافة الى بندي الخروج السوري، والانتخاب الحر والدستوري لرئيس الجمهورية، ينص القرار الدولي الرقم 1559 على نزع سلاح الميليشيات الفلسطينية في لبنان، ونزع سلاح"حزب الله". وما جرى تنفيذُ هذا الجزء من القرار طبعاً. بل الذي حدث عكسُ ذلك تماماً. ففي سياق عودة الصراع بين الولاياتالمتحدة وإيران في النصف الثاني من العام 2005، وامتداد بنوده وتعددها من النووي وإلى العراق والكيان الإسرائيلي وأمن الخليج، قام"حزب الله"في 12 تموز يوليو عام 2006 بشن غارة على إسرائيل داخل حدود فلسطينالمحتلة، وليس في منطقة مزارع شبعا المحتلة فأسر جنديين وقتل آخرين، وردت اسرائيل كما هو معروف بحرب شعواء خرّبت الجنوب اللبناني، وضاحية بيروت، والبنى التحتية في لبنان في غارات هائلة استمرت ثلاثة وثلاثين يوماً. ومنذ ذلك الحين تعددت بؤر التوتر وتفاقمت الأزمات في المنطقة، وكانت ايران دائماً طرفاً فيها: خرج"حزب الله"ووزراء حركة امل من الحكومة اللبنانية واتهموها بالتواطؤ مع أميركا وإسرائيل على الحزب وأنصاره، وقال السيد الخامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية ان المسلمين سينتصرون على الولاياتالمتحدة في لبنان. وتقدم الأميركيون والعرب الكبار لحماية الحكومة اللبنانية والاستقرار. وتسارعت المذابح والتفجيرات في العراق واعتبر الأميركيون ايران وليس القاعدة وحدها مسؤولة عنها. واستولت"حماس"على غزة وأعلنت ايران دعمها لها. وفي كواليس الاجتماعات التي أجريت لعقد المؤتمر في شأن فلسطين اعتبرت جهات عربية ودولية ايران وسورية مسؤولتين عن بؤر التوتر في العراقوفلسطينولبنان وآخر شواهدها: استيلاء"حماس"على غزة، وتسلل"فتح الإسلام"الى لبنان من سورية والحرب الدائرة بينها وبين الجيش اللبناني منذ خمسة وسبعين يوماً. وهكذا يكون من حق المهتمين بالرئاسة في لبنان، وبالانتخابات الفرعية في المتن، في ظل أزمة سياسية كبيرة بين أنصار سورية وإيران في البلاد، وخصومهم من 14 آذار ان يعتبروا هذه التفصيلات المحلية جزءاً من الصراع في المنطقة بين الولاياتالمتحدة وخصومها وبخاصة ان العماد عون اقام"تفاهماً"مع"حزب الله"، وأن أنصار سورية في البلاد عظيمو الدعم له. والمعروف ان هذا التحالف الواسع يعتبر نفسه في مواجهة مع الولاياتالمتحدة الى جانب ايران وسورية و"حماس"، كما يعتبر خصومه من قوى 14 آذار حلفاء للولايات المتحدة أو عملاء لها. إلى أين يمضي الصراع؟ تريد المعارضة اللبنانية التي خاضت معركة انتخابات المتن الى جانب العماد عون ان تمنع الانتخابات الرئاسية بالوسائل الدستورية أو بالقوة ان لم يجد التوافق معها عليها. لكنها لا تقبل بالحوار السياسي سبيلاً للتوافق على شخص الرئيس، بل تريد العودة للحكومة اللبنانية بصحبة وزراء للعماد عون هذه المرة على ان تبلغ مشاركتُها الثلث + 1 لكي تتمكن من منع القرارات التي لا تعجبها داخل مجلس الوزراء، ولكي يكون بوسعها حل الحكومة ان استقالت منها بحسب ما ينص عليه الدستور. ولأن الشكوك بين الطرفين كبيرة، لا يقبلُ كل طرف الضمانات التي يقدمُها الطرف الآخر. والذي أراه ان العماد عون يريد ان يكون رئيساً للبنان مهما كلّف الأمر. اما حزب الله فهو مشارك في الصراع الإقليمي، وإيران وسورية تعتبران التأزيم في العراقولبنانوفلسطين وسيلة من وسائل اللعب والإزعاج في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة !، ويتصرف الأميركيون كأنما ذلك صحيح. أما الواقع فهو انني لستُ أدري كيف ستخضع الولاياتالمتحدة لمطالب ايران وسورية إذا خرب العراق وقد حدث، وإذا تفاقم التأزم واشتعال النيران في فلسطينولبنان؟! ان الواضح الآن تزايُدُ الانقسام في فلسطين على حساب القضية الفلسطينية، واستمرار الخراب والتخريب في العراق، والتكسّر الصقيعي في التركيبة اللبنانية الهشة. اما العرب الذين تتكاثر في ايديهم وعلى كواهلهم ملفات الفظائع وصواعق التفجير، فيتعثرون بين الحفرة والحفرة، وما أدراك ما انتخابات المتن! تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيدُ * كاتب لبناني.