عندما بلغت أزمة الاستحقاق الرئاسي في لبنان أخطر مراحلها اهتمت القيادة السورية بمراجعة الاحتمالات المتعلقة كافة بتبعاتها السياسية. وانقسم اعضاء القيادة من حزبيين وعسكريين، حول فكرة انتقاء أفضل الحلول المطلوب اعتمادها من أجل وقاية النظام وسلامته: فريق أوصى بالتهدئة وبضرورة التقيد بالوثيقة الدستورية، ولو أفرزت رئيساً ينتمي الى تيار 14 آذار. وحجة هذا الفريق ان دمشق قادرة على إزعاج أي رئيس لا يعجبها أداؤه. بينما يؤدي الفراغ في سدة الرئاسة الى تمزيق آخر خيوط الوحدة الوطنية، والى اضطرابات قد تفتح الباب أمام حرب أهلية أخرى يصعب على سورية تفادي نيرانها المحرقة. الفريق الآخر المعارض لهذا الطرح الحذر، يرى ان قبول التدخل السوري المباشر في لبنان لن يتم إلا عبر الفوضى العارمة. وهو يعتقد بأن الاقتتال الداخلي سيشجع الولاياتالمتحدة وفرنسا والدول العربية، على الاستنجاد بالقوات السورية، مثلما حدث سنة 1976. الخطأ في اعتماد السيناريو الثاني هو ان يكون الرهان الاميركي على مستقبل لبنان، شبيهاً بالرهان الذي انتهى اليه تدخل واشنطن في العراق. أي الرهان على نظرية"الفوضى البناءة"لانتاج ثلاثة كانتونات عراقية مذهبية - اثنية، كما أوصى الكونغرس، خصوصاً ان الرئيس جورج بوش لم يلحظ في كل طروحاته المتعلقة بمستقبل لبنان، اهمية الوحدة الوطنية، بل اكتفى بالحديث عن دور الحكومة في الحفاظ على الديموقراطية. صحيفة"يديعوت احرونوت"كتبت تعليقاً حول مستقبل الشرق الأوسط، نعت فيه الكيانات القومية التي انشئت عقب الحرب العالمية الأولى في ظل الاستعمار البريطاني والفرنسي. ووصفت العراق بأنه دولة تتعرض مناطقها المختلفة لفرز عنصري ومذهبي عبر مجازر متبادلة ستؤدي الى قيام فيديرالية كيانات مستقلة للسنة والشيعة والاكراد. وترى الصحيفة ان سورية وايران لن تسلما من عدوى الانقسامات العنصرية والمذهبية، في حال استمر تدخلهما في العراقولبنان وفلسطين. وتخلص الجريدة الى استنتاج مفاده: ان نشوء مثل هذا الوضع المشوش، يشكل البيئة السياسية الصالحة لاستقرار الدولة اليهودية واستمرارها. واكتفى كاتب التعليق"موتي اشكينازي"برسم صورة التوقعات، من دون ان يذكر الاسباب التي انتجتها. أي انه تجاهل دور الحرب الاميركية في تقويض دائم للوحدة الوطنية داخل العراق، وتغاضى عن الفاعل الحقيقي الذي أشعل نار الفتنة. يشير المراسلون الأجانب الذين ازدادت أعدادهم في بيروت، الى ان تصرفات"حزب الله"الميدانية تدل على التزامه"الخط الأحمر"الذي رسمه الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد. وهو التزام صريح بضرورة الابتعاد عن الصدام الشيعي - السني في لبنان، نظراً الى خطورة انعكاساته السلبية على الدول العربية المتعاطفة مع طهران. وبسبب الحظر المضروب على هذا الجانب من النزاع المذهبي، فإن تعطيل عمل المحكمة الدولية والاستحقاق الرئاسي يحتاج الى نزاع من نوع آخر. لذلك توقعت صحيفة"نيويورك تايمز"ان يحدث الانفجار المطلوب بين التيارين المسيحيين الموزعين بين جماعة 14 و8 آذار. وطلعت السبت الماضي بالعنوان التالي:"الانقسام المسيحي في لبنان يعيد شبح الحرب الأهلية". واستند مراسلها الخاص الى عدة معطيات سابقة تظهر ضراوة الاقتتال المسيحي - المسيحي، بدءاً من مجزرة أهدن وانتهاء بالاشتباك المسلح الذي جرى بين الجيش بقيادة العماد ميشال عون والقوات اللبنانية بقيادة الدكتور سمير جعجع 14 شباط/ فبراير 1989. الرسالة التي بعث بها رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، تضمنت اشارات واضحة الى ازدياد موجة التسلح وانتشار عمليات التدرب على القتال. وتقول الرسالة ان مجلس الوزراء طلب من أجهزة الدولة بذل الجهود كافة للحد من هذا التوجه قبل ان تتسع رقعة انتشاره وتبدأ بالتأسيس لبيئة يتأجج فيها النزاع الداخلي. وواضح أن القرائن استندت الى صور التقطتها الأجهزة المختصة لمجموعات تنتمي الى تيار عون والمردة، وهي تتدرب على اطلاق النار في منطقتي الشمال وجبيل. وقد أنكر ميشال عون هذا الاتهام، وقال ان عمليات التدريب المحدودة تتم بهدف الدفاع عن النفس لأن عناصره تعرضت لإطلاق نار أثناء الإضراب الواسع من قبل جماعة جعجع. جماعة 14 آذار ترفض حجج العماد عون لاقتناعها بأنه يقوم بدور المخرب داخل الوسط المسيحي، وبدور المساند ل"حزب الله"داخل القوى المعارضة. وهي تزعم أن سورية اختارته لدور تولاه سابقاً ايلي حبيقة. وقد عهدت إلى فايز قزي بعملية الاتصال المبرمج باشراف الرئيس اميل لحود. وفي مرحلة لاحقة وافق"حزب الله"على هذا الدور بعدما تولى عدنان عضوم إلغاء كل الدعاوى المقامة ضده. وعليه يرى الدكتور سمير جعجع أن تحالفات عون الانتخابية تخضع لهذا التوجه، بدليل أن حلفاءه ينتمون إلى الفريق المتحالف مع سورية. بينما لا يرى عون في تغيير مواقفه السابقة سبباً للانتقاد لأن سورية خرجت من لبنان، ولأن علاقته الوثيقة مع"حزب الله"تشكل الضمانة السياسية لحماية مسيحيي لبنان. السبت الماضي، قام الرئيس السابق امين الجميل بزيارة مفاجئة لرئيس الهيئة التنفيذية لحزب"القوات اللبنانية"سمير جعجع. ومع أن أحاديثهما المتشعبة تناولت الاستحقاق الرئاسي، إلا أن الجميل أراد من وراء هذه الزيارة محو الاشاعات التي علقت في أذهان البعض حول خلافه مع جعجع لأسباب تتعلق باغتيال نجله بيار ومن ثم اغتيال انطوان غانم. ويبدو أن جهات مرتبطة ب8 آذار تبرعت بتقديم صورة شاب إلى أمين الجميل قيل إنه ارسل من قبل جعجع لاغتيال نجله. وعقب اغتيال النائب غانم، صدرت اتهامات عن جماعات تنتمي إلى المعارضة تشير إلى جعجع كأنه هو المحرض. وحول هذا الموضوع، أعلن الشيخ امين للصحافيين:"أنا كمحام لا يمكن أن اقتنع بدلائل ليست مثبتة. وما زلت ضائعاً حول هذه المسألة في ظل عدم وجود أي دليل يطمئنني إلى أننا قد نتوصل إلى نتيجة ايجابية". وهكذا محت هذه الزيارة الاشاعات التي ترددت بأن جعجع يعمل على تصفية خصومه المحتملين، وبأن قتل المسيحيين يتم على ايدي مسيحيين. واغتنم جعجع هذه المناسبة ليشجب عمليات التدريب والتسلح، ويؤكد عدم وجود أي نية في الصدام بين القوات والتيار الوطني الحر. المراقبون الديبلوماسيون في بيروت يحذرون من فشل الوساطات للاتفاق على رئيس وفاقي قبل 24 تشرين الثاني نوفمبر. وهم يتخذون من تردد عون في زيارة بكركي ذريعة لاتهامه بأنه جاهز لنسف الاستحقاق الرئاسي، في حين لا يرى عون سبباً للزيارة، إلا إذا كان المطلوب اقناعه بالعدول عن قرار خوض معركة الرئاسة. خصوم ميشال عون يدّعون أن الاحتكام إلى سيد بكركي يفترض قبل كل شيء، ايمان عون بأن البطريرك صفير حكم موضوعي غير منحاز. وبما أنه يرى فيه حكماً منحازاً إلى جماعة 14 آذار، فإن الاحتكام إليه يضعف معركته كمرشح جدي. إضافة إلى هذا، فإن عون يعتبر نفسه البطريرك السياسي الأكثر شعبية بين الموارنة، لذلك يرفض التنازل عن هذا الدور. تماماً كما رفض في 18 نيسان ابريل 1989 الاستجابة إلى البيان الذي أصدرته بكركي عقب الاجتماع الذي دعا إليه البطريرك بحضور 23 نائباً مسيحياً. ويدعو البيان إلى وقف اطلاق النار والعودة إلى استئناف الحوار وتغليب لغة العقل. وكان السفير الأميركي هو الذي اقنع البطريرك بضرورة كبح جماح عون. في ضوء كل ما تقدم بعد فشل الوساطات، يصر وليد جنبلاط على انتخاب رئيس يمثل الأكثرية ولو اضطر النواب الى الاجتماع في بيت الدين. وفي احتمال آخر طرحه نائب كوندوليزا رايس ديفيد ويلش على قائد الجيش العماد ميشال سليمان: إذا حدث وقامت حكومتان في لبنان أين سيقف الجيش؟ أجابه سليمان: اليوم الجيش يقف مع الحكومة الشرعية. أما في حال حصل انقسام أدى الى ظهور حكومتين، فإن الجيش سيبقى على الحياد. وبين سيناريو الرئيسين والحكومتين، يقف النظام اللبناني على حافة الهاوية بانتظار صدامات مسلحة يخشى ان تتكرر فيها الحرب الأهلية العراقية بطريقة يصعب معها التقيد بتوصيات الرئيس أحمدي نجاد. في حديث الى جريدة"الشروق"التونسية، قال الرئيس بشار الأسد في تعليقه على وضع لبنان:"ان الانقسام الحالي هو بين قوى ترهن نفسها للوطن وللعلاقات العربية - العربية، وبين قوى تربط مصير لبنان بمصير الصراعات الاقليمية التي يبدو أنها لا تنتهي في المستقبل القريب. وهذا يعني أن لبنان لن يستقر في المستقبل القريب". وقد أثار هذا التصنيف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي فسر خروج الفريق الذي ينتمي اليه من العروبة التي يعنيها الأسد، بأنه دخول في عروبة العرب وخروج من عروبة ايران. وفي رأيه ان استقرار لبنان حسب تعريف دمشق، هو استقرار خبره لبنان مدة ربع قرن من الهيمنة الكاملة! * كاتب وصحافي لبناني