"نحن العراقيين منهكون ... لا يمكن أن نقفز فوق جراحنا ... عمي قتل قبل شهرين ... بيتنا فُجر ... كل يوم أشاهد صور الدم والموت، وعبثاً أحاول ان أنسلخ من المأساة التي تحيط بأهلي ووطني... لا عجب أن افلامي ستواصل النزيف طالما العراق جريح...". ربما تكون كلمات المخرج العراقي المقيم في لندن قتيبة الجنابي لسان حال غالبية السينمائيين العراقيين الذي يعيشون في الخارج وعينهم على الداخل. سينمائيون سلاحهم كاميرا، يرصدون بواسطتها المأساة، من دون أن ينجوا من البكائيات، فتراهم يتنقلون من مهرجان سينمائي الى آخر، ومن فضائية الى أخرى، أملاً في إيصال صوت العراق الى شعوب آثرت الصمت. في مهرجان السينما العربية في روتردام بالأمس، واليوم في أسبوع السينما العربية في ميسينا، حمل الجنابي فيلمه التلفزيوني"مراسل بغدادي"وقدمه الى جمهور بعيد من المأساة التي تحيط ببلاده. الفيلم الذي عرض قبل 6 أشهر على شاشة"العربية"، يصور رحلة مراسل"العربية"في بغداد جواد كاظم مع الموت، وتحديداً بعيد تعرضه لمحاولة اغتيال كادت أن تودي بحياته. طبعاً حياة كاظم لن تعود كما كانت عليه. وهذا ما حاول أن يصورّه الجنابي بحساسية مفرطة وشفافية عالية من خلال مرافقته لكاظم في رحلته العلاجية من بغداد الى عمان فالرياض وصولاً الى لندن. في كل محطة، يوثق الفيلم، صراع كاظم لإعادة بناء حياته بعدما أوشك على الموت. ويسلط الضوء على يوميات حميمة لهذه الرحلة الشاقة، ولكن أيضاً الحافلة بالآمال الكبيرة. الآمال بعودة الحياة الى سابق عهدها والتغلب على آثار الحادث والضغوط التي تواجهها وسائل الإعلام في العراق. "5 ملايين شخص شاهدوا الفيلم في العراق. هذا ما قاله لي كاظم. فهو محبوب هناك. وكان من أوائل المراسلين التلفزيونيين. ثم إن الجمهور يهمه أن يعرف أكثر حول تداعيات العملية ونتائجها، خصوصاً أن شاشات العالم أفردت لها مساحات من بثها"، يقول الجنابي، ويضيف:"لا أحب ان ادخل في التصنيفات حول ما إذا كان هذا العمل ريبورتاجاً تلفزيونياً أو فيلماً وثائقياً. كل ما أعرفه أنها الطريقة المثلى بنظري لإيصال قضية إنسانية بهذا الحجم الى العالم. أما السؤال إذا كنت وفقت ام لا، فيبقى رهن الجمهور. وأعتقد بأن الأصداء كانت إيجابية. يكفي أن الفيلم وصل الى العراقيين، وهذا طبعاً بفضل الشاشة الصغيرة. فلو انحسرت العروض في المهرجانات السينمائية لما كان حظي بهذه النسبة من المشاهدة، خصوصاً في صفوف أهل بلاد الرافدين". بين السينما والتلفزيون على رغم عشق الجنابي للسينما، في جعبته تاريخ حافل من العمل التلفزيوني، ما يفسر عدم تردده في العمل للشاشة الصغيرة، خلافاً لسينمائيين يرون فيها تحجيماً لدورهم وطموحاتهم. ربما الأقدار قادته الى التلفزيون من حيث لا يدري. فهو قبل نهاية السبعينات ترك العراق ووصل الى هنغاريا أولى محطات الغربة حيث درس فن التصوير الفوتوغرافي. بعدها التحق بمعهد الفيلم السينمائي في بودابست. هناك تابع دراسته للفنون السينمائية وحصل على شهادة الدكتوراه في علم الجمال السينمائي. ثم قاده حلمه بالعمل في الأفلام الروائية الى لندن. لكن دروب التلفزيون فتحت أمامه، فعمل مع"أم بي سي"، قبل ان يقرر أن ينصرف الى مشاريعه الخاصة، حيث حقق مجموعة أفلام روائية قصيرة. فترة عمله مع"ام بي سي"كانت كافية لتعزيز شعوره بالانتماء الى هذه القناة، حتى بعد مغادرته لها. من هنا لم يكن غريباً ان يبدو تعاطفه جلياً مع"العربية"في"مراسل بغدادي". وهو تعاطف دفع بعضهم للاستنتاج أن الفيلم ليس أكثر من دعاية للقناة، بدلاً من أن يكون فيلماً عن جواد كاظم. أما الجنابي فيقول:"قناة"العربية"لم تشترط عليّ شيئاً. صحيح أنا متعاطف معها. ولا يمكن ان أكون غير ذلك بعد سنوات من العمل في صفوفها. فأنا بدأت مع مجموعة"ام بي سي"في لندن. وربيت بين طاقمها. من هنا العاطفة تجاهها قوية، وهو ما لم أتمكن من إخفائه... ثم لم تكن الحكاية لتكتمل لو لم أضم الى الفيلم مقابلات مع وجوه بارزة في القناة، مثل مديرها عبد الرحمن الراشد الذي أخذ الفيلم على عاتقه. طلبوا إليّ تنفيذ العمل في خمسة أيام، فأخذ مني ثلاثة أشهر، ولولا دعم عبد الرحمن الراشد لما كنت وصلت الى هذه النتيجة. ومثلما كان لا بد من ان أغلف فيلمي بالمقابلات، كان ضرورياً أن أقدم إدانة للأميركيين لتخاذلهم في قضية كاظم". فما هو الحد الفاصل بين الوثيقة وملاحقة بطل القصة؟ "الأرشيف هو جزء من عملية البناء. فعندما جرى الاعتداء على كاظم لم أكن في العراق. من هنا كان ضرورياً أن اعتمد على الأرشيف. حتى انني صنعت بعض المشاهد، مثل وصول الخبر الى غرفة الأخبار في"العربية". فأنا لست محكوماً بقانون. القانون عندي هو الحقيقة، وان اجعل الناس تتذكر هذا الشخص. إذ لا أستطيع ان اقفز على المرحلة التي هو فيها. وكان لا بد من ان اعمل في شكل هادئ. هناك أمور كان كاظم يرفض أن تخرج على الشاشة. وكنت احترم خصوصيته. الحقيقة لم تخرج بسهولة. وما جذبني انها من المرات النادرة التي يتكلم فيها أحدهم عن لحظات موته". أسير البكائيات "أوتيل دانوب"هو الفيلم الروائي الطويل الذي يحلم الجنابي بتصويره منذ سنتين. يقول:"صار هذا العمل في مرحلة التنفيذ. إذ حصلت على جزء من التمويل، واتفقت مع الممثل الفلسطيني محمد بكري ليكون البطل. في هذا الفيلم الذي تدور أحداثه بين يوغوسلافيا وهنغاريا، أصور قصة طبيب عراقي غادر موطنه في محاولة للهروب من واقعه". وكما يبدو لن تغيب صفة"أفلام المنفى"عن قائمة قتيبة الجنابي السينمائية. فمثلما كانت حاضرة في فيلم"القطار"الذي اراده صاحبه ان يعبر عن تجربة العراقيين مع الانتظار... ومثلما تجلت في"حياة ساكنة"الذي صور فيه شاباً عراقياً يدخل غرفة في اوروبا ولا يجرؤ على الخروج منها... ومثلما بدا في"أرض الخراب"الذي قدم سيرة الفنانة العراقية ناهدة الرماح التي فقدت نظرها في لندن، ستلازم هذه الصفة أفلام الجنابي الأخرى. الى متى؟"أكذب، إن قلت أنني وأبناء جيلي سنتمكن من القفز على جروحنا. ولا شك ستطبع شرائط المنفى أفلامنا للسنوات المقبلة. صحيح أنه من الضروري ان نطور أعمالنا. ومع هذا أعرف أنني كعراقي سأبقى أسير البكائيات"، يقول الجنابي ويضيف:"ما احبه في فيلم جواد كاظم، انه أخرجني بعض الشيء من أفلامي السوداوية القديمة، ومنحني نفحة أمل، وهو الأمل ذاته الذي شعرت به حين ربح العراق كأس آسيا لكرة القدم، ربما كانت الجرعة هنا أكبر". ويتحدث الجنابي عن الصعوبات التي تواجه السينما العراقية، خصوصاً لناحية التمويل، ويقول:"المشكلة ذاتها موجودة في غالبية البلاد العربية. وأرى أن السينما اللبنانية ستكون السينما المقبلة في السنوات الآتية. نحن كعراقيين لا نفتقد الطاقات، ولكن سنبقى أسيري الألم والجرح. من هنا أتوقع ان تقود السينما اللبنانية الدفة".